إفريقيا… حلم إسرائيل الغالي 2
14 نوفمبر، 2025
أخبار العالم الإسلامى

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
منذ قيام الكيان الصهيوني وهو يمدّ أنظاره بعيدًا خارج حدوده الجغرافية الضيقة، باحثًا عن أي ثغرة يمكن أن ينفذ منها لفرض وجوده على الساحة الدولية. ولم تكن القارة الإفريقية يومًا بعيدة عن تلك الأطماع، بل كانت وما زالت الميدان الأكثر خصوبة لتمرير المخططات الإسرائيلية عبر بوابة الزراعة التي تُقدَّم للشعوب الإفريقية على أنها «تنمية»، بينما هي في حقيقتها بابٌ خلفي للسيطرة والاستنزاف والاختراق.
لقد أدركت إسرائيل مبكرًا أن إفريقيا تمتلك ما لا تمتلكه هي:
أرض واسعة، مياه، مناخ متنوّع، وموارد بشرية هائلة تبحث فقط عن الدعم والتدريب. فاستغلت هذا الاحتياج لتتحول من “شريك زراعي” إلى وصيّ على الزراعة الإفريقية، يحتكر البذور، ويتحكم في أنظمة الري، ويسيطر على سلاسل الإنتاج والبيع، ويُحكم قبضته على مستقبل الغذاء في أكثر من دولة.
منذ ستينيات القرن الماضي، بدأت إسرائيل تتغلغل عبر ما يسمّى بـ«مراكز التطوير الزراعي» التي كانت في ظاهرها تقدم نصائح تقنية، وفي باطنها تُدخل دولًا كاملة في دائرة الاعتماد الكامل على التكنولوجيا الصهيونية. قدموا أنظمة ريّ حديثة، لكنهم جعلوا مفاتيح تشغيلها وصيانتها وعمرها الافتراضي في أيديهم. درّبوا مهندسين أفارقة، لكنهم ربطوا كل تدريب بعقود شراء ملزمة لا يمكن التراجع عنها. وهكذا تحولت الزراعة الإفريقية—ببطء ولكن بثبات—إلى ساحة نفوذ صهيوني مكتمل الأركان.
ثم جاءت المرحلة الأخطر: مرحلة البذور المعدلة وراثيًا. فالبذرة الإسرائيلية ليست مجرد حبة تُزرع، بل “سلسلة قيد”، لأنها لا تُستخدم إلا مرة واحدة، ويجب شراء غيرها كل موسم من الشركات الإسرائيلية. ومع الوقت، يفقد الفلاح الإفريقي بذوره المحلية التي حافظت عليها حضارته لآلاف السنين، ويصبح أسيرًا لبذور تأتيه من تل أبيب، يشتريها كل عام بسعر أعلى من سابقه، في عملية استنزاف لا تتوقف.
لم تكتفِ إسرائيل بذلك؛ بل أقحمت نفسها في رسم السياسات الزراعية لبعض الدول الإفريقية من خلال “الخبراء” و“الوفود التقنية”، فتدخلت في نوع المحاصيل، طرق الزراعة، وترتيبات التصدير، وأرست منظومة لا تختلف كثيرًا عن منظومة الاستعمار القديم، إلا أنها ترتدي ثوب العلم والتطوير.
لقد أدركت تل أبيب أن من يملك غذاء إفريقيا يملك قرارها السياسي، وأن السيطرة على الأرض الزراعية هي الطريق الأبسط للسيطرة على الإنسان. ولذلك نراها اليوم تتوسع في إثيوبيا وكينيا ورواندا وأوغندا وغانا، وتستخدم نفس الأدوات: مشاريع ريّ، بيوت زجاجية، خبراء زراعة… وكل ذلك مغمّس بحسابات سياسية واستراتيجية لا تخفى على أي متابع.
وما بين مشروع زراعي هنا، وتدريب زراعي هناك، تزداد قبضتها ويزداد النفوذ الذي تمنحه لها هذه الدول دون أن تشعر. إنهم يدخلون من باب التنمية، لكنهم يخرجون من أبواب أخرى وقد وقع العقد، ورسمت الخريطة، وأُعيد تشكيل ميزان القوى في المنطقة بالكامل.
وها هي إفريقيا اليوم أمام مفترق طرق. إمّا أن تواصل السير في طريق تبعية زراعية ومائية خطيرة تجعلها تتحرك وفق أوامر الكيان الصهيوني، وإمّا أن تفيق إلى حقيقة أن الغذاء هو أخطر سلاح في يد أعداء الأمس الذين يتلونون بألف وجه.
إنّ ما يحدث اليوم في الزراعة الإفريقية ليس مجرد تعاون اقتصادي، بل تخطيط خبيث طويل الأمد هدفه خنق القرار الإفريقي، وتعزيز حضور الكيان على خريطة القارة، وربط مصير شعوب كاملة بمختبرات وشركات إسرائيلية لا ترى في إفريقيا إلا سوقًا مفتوحًا وثروة ينبغي حصادها.
وهكذا تتضح الصورة: إسرائيل لا تزرع في إفريقيا حبًّا في التنمية، بل تزرع نفوذًا وزعامة وتبعية، وتسقيها بوسائل ملتوية تجعلها تتحكم في حاضر القارة ومستقبلها.
وفي النهاية، حين ننظر إلى كل هذه التحركات القذرة التي يمارسها خفافيش الظلام الصهاينة في قلب إفريقيا، ندرك حجم المأساة التي تتعرض لها القارة تحت ستار “التعاون الزراعي”. إنهم لا يدخلون أرضًا إلا وتركوا خلفهم بذورًا مسمومة، ومشاريع ظاهرها البناء وباطنها الهدم، وسياسات تحوِّل الفلاح الإفريقي من سيد أرضه إلى خادم في أرض تُدار من وراء البحار.
لقد أصبحت إفريقيا، بكل إرثها وتاريخها، ساحة يتلاعب فيها كيان صغير يبحث عن دور أكبر من حجمه، فيحوّل آمال الشعوب إلى أوراق ضغط، واحتياجاتهم الغذائية إلى حبال تُلف حول أعناقهم. إنّ ما يفعله الصهاينة اليوم ليس مجرد توسع اقتصادي، بل غزو هادئ يبتلع الأرض والقرار معًا، دون طلقة رصاص، ودون ضجيج، لكن بصمت أشد إيلامًا من الحرب نفسها.
وهل هناك ما هو أشد حزنًا من أن ترى القارة التي أنجبت حضارات الدنيا تُقاد بخيوط خفية تحركها أيدٍ لا تريد لها إلا الضعف والانقسام؟ وهل هناك ما هو أكثر مرارة من أن يصبح خبز الشعوب وسلة غذائها رهائن لدى كيان لم يعرف يومًا معنى الإنسانية؟
إنّ إفريقيا اليوم تنزف بصمت، أرضًا تُباع، وبذورًا تُفقد، ومستقبلًا يُعاد تشكيله بعيدًا عن إرادة أبنائها. وما لم تستيقظ الشعوب قبل الحكومات، وما لم تُدرك حجم المؤامرة التي تتسع دوائرها يومًا بعد يوم، فستجد نفسها في قبضة نفوذ صهيوني لا يرحم ولا يشبع.
إنّ التاريخ يكتب الآن فصولًا مؤلمة، والقارة السمراء تقف إما على أعتاب النهضة أو على حافة الهاوية. والفرق بين الطريقين هو أن تعرف من صديقك ومن عدوك، ومن يأتيك بيد المساعدة، ومن يأتيك ببذرة تحمل في جوفها بداية النهاية.
وستظل هذه السلسلة شاهدة على هذا المخطط الأسود، تكشف خيوطه، وتفضح أدواته، وتُنذر بما هو أخطر… قبل أن يصبح الإنذار بلا فائدة.