قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ


بقلم د/ زينب بسيوني ابو اليزيد

عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر

هذه القاعدةٌ الإلهيةٌ تضعُ حداً فاصلاً للجدل، وتُرسّخُ حقيقة أن سلوك الإنسان هو انعكاسٌ لجوهر نفسه، وطبيعته، ومنهجه الذي اختاره. حيث بين الله في هذه الآية الكريمة أنه لا يخفى عليه شيء من طباع البشر وأحوالهم وأعمالهم ، وأن عمل كل إنسان يتناسب مع طبيعته ومذهبه ومنهجه واتجاهاته ، ويتلائم مع سلوكه وعقيدته ،  قال تعالى : “ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ” فربكم الذي خلقكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ، وأقوم طريقا وسيجازي الذين أحسنوا بالحسنى ، والذين أساءوا بما عملوا. وتبشر الآية الكريمة أصحاب النفوس الطاهرة والأعمال الصالحة، بالعاقبة الحميدة، وتنذر المنحرفين عن طريق الحق، المتبعين لخطوات الشيطان، بسوء المصير، لأن الله-تبارك وتعالى- لا تخفى عليه خافية، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.

إنها كلمةُ فصلٍ تُوجهُ الخطاب إلى النبي ليُعلنها للناس كافة: دعوا كل امرئ وعمله، فالحكم الفصل والمرجعُ الأخيرُ هو لله عز وجل.

﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ إعلاناً إلهياً بـ”قانون الجوهر والنتيجة”. فالأعمال ليست إلا ثماراً لغرس النفوس. فلنحرص على تطهير أصولنا (قلوبنا ونوايا وعقائدنا)، حتى تكون أعمالنا صالحة، فنكون من أهل الهداية التي ختمت بها الآية: ﴿بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾.

“الشاكلة” في أقوال أهل التفسير

لفظ “الشاكلة” هو مفتاح فهم الآية، وقد تنوعت أقوال أهل العلم في تفسيره، وهي أقوال متقاربة تؤدي إلى معنى واحد، هو أن العمل نابع من الأصل:

  • الناحية والطريقة

قال ابن عباس رضي الله عنهما: “على ناحيته”. وكذلك قال قتادة: “على نيته”. وقال الطبري في جامعه: “على ناحيته وعلى ما ينوي”.

–  الطبيعة والجِبِلَّة

قال مجاهد وغيره: “على حدته وطبيعته”. وقال الفراء: “على طريقته التي جُبِل عليها”.

– الدين والمذهب:

قال ابن زيد: “على دينه”.

قالا  ابن كثير والقرطبي: أن هذه الأقوال متقاربة، والمعنى الجامع هو: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، فعمل الكافر يُشاكل كفره، وعمل المؤمن يُشاكل إيمانه. ويُقال في المثل: “كل امرئ يشبهه فعله”.

  • شمولية القاعدة

تحمل الآية في طياتها معنيين متلازمين:

– قانونٌ كونيٌّ للسلوك:

لا يُمكن للمؤمن أن يعمل عمل الكافر، ولا للكافر أن يأتي بعمل المؤمن، لأن أصولهم مختلفة، وطبائعهم متباينة. فمن كانت شاكلته هدىً وإيماناً، كانت أعماله صالحة خالصة لله. ومن كانت شاكلته ضلالاً وكفراً، كانت أعماله ضارة أو غير مقبولة.

– تهديدٌ وترهيبٌ:

قوله تعالى: ﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾ وهذا يحمل وعيداً، فالله هو الحكم الفاصل الذي يعلم صدق النوايا ومن اتبع الطريق المستقيم، وسيجازي كل فريق بما يناسب طريقه وعمله.

-الشاكلة والأصل في نصوص الشريعة

هذه القاعدة الإلهية مسندةً ومُفصَّلةً في نصوص أخرى تؤكد على تلازم العمل والنية أو الأصل:

– النية أساس العمل:

قال النبي: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى…”

فالنية جزء أساسي من الشاكلة، فالعمل لا يُقبل إلا بالإخلاص، والإخلاص نابعٌ من صفاء الشاكلة (النية الباطنة).

– الأصل يحدد الثمرة:

قال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ (الأعراف: 58). شبّه الله سبحانه القلب بالبلد، فإن كان طيباً (شاكلة حسنة)، أخرج عملاً طيباً.

– الإنسان على دين خليله:

يؤكد النبي -صلى الله عليه وسلم- على أثر الشاكلة المكتسبة في قوله: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل” فالاختلاط بالصالحين يُشكّل شاكلة المؤمن ويدعوه إلى الأهدى سبيلاً.

 البعد التربوي للآية

وهذا ليس مجرد تقرير لحقيقة واقعة، بل هي دعوة إلى التفكر والمحاسبة:

* دعوة للمحاسبة: على المؤمن أن يسأل نفسه: ما هي شاكلتي؟ وما هو أصل عملي؟ هل أعمل على شاكلة الهوى والشهوة، أم على شاكلة الإخلاص والسنة؟

 دعوة للاستقامة:

تحث الآية المؤمن على الثبات على صراط الهدي القويم، وعدم الالتفات إلى أقوال الضالين وأعمالهم، فكل فريق له طريقه، والطريق الأهدى هو طريق الأنبياء والمرسلين.

 

  • اليقين في الحكم الإلهي:

يختم الله الآية ليُسدل الستار على أي نزاع بشري: ﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾. وهذا يُرسخ التوكل على الله في حكمه، ويُطمئن المؤمن إلى عدل ربه، فالحق واضح وطريقه بيّن.

وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم وتسليماً كثيرا