لامصداقية للافتاء بمعزل عن فقه المقاصد



سلسلة : مقالات في الفقه الإسلامي المعاصر
بقلم الأستاذ : مهدى صالحى

إن الفتوى بمدلولها الشامل نوع دقيق من أنواع الاجتهاد الفقهي الذي يسعى إلى المواءمة بين ثوابت التشريع القطعية وبين مستجدات الواقع عند تعذّر الدليل النصّي على حلول لها رغم قدرة النص التشريعي على الإحاطة بكل القضايا المتشعّبة، حيث أنيطت الفتوى بالعقل الاجتهادي ببذله جهود عقلية منطلقها النص ثم التبصّر الموضوعي في المسألة الحادثة حتى يُتوصّل إلى حكم شرعي ينسجم مع مقاصد التشريع وكلّياته ويراعي خصيصة التيسير ورفع الحرج والمشقة.

ولذلك فإن هذه الاعتبارات الفقهية الأصولية ملـَكة لايتقنها طالب علم شرعي إلاببلوغه مرتبة الفقيه المجتهد لأن الفتوى أمانة حضارية فقهية ولأن الفقيه العالم الحقّ هو البديل عن نصوص الوحي التي انقطع نزولها والتي تمكنت من علاج التحدّيات زمن النزول أي أن النص الكامل واحد ومتناهي لكن الأحداث متطورة ولامتناهية والافتاء فيها مسألة في غاية الخطورة ،الأمر الذي يُلزم المجامع الفقهية الإسلامية إلى تظافر الجهود لإصدار الفتوى في إطار جماعي لحجّية الإجماع لأن الاجتهاد الفردي مقاربة فقهية قابلة للظن والتخطئة وهذا صنيع عمر رغم تظلّعه في الشريعة لكنه يجمع في المسألة جهابذة فقهاء الصحابة فيُجمعون على حكم متعلق بتلك المسألة بعد مشقّة ،مثلما يستوجب على مجامع الفقه اليوم رسم ضوابط توجّه مسار الفتاوى المعاصرة نحو رعاية المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية ودرء المفاسد للحدّ من تداعيات فوضى الفتوى فقد أصبح التهافت على إصدار الأحكام دأْب كلّ عامّي يتجرّأ على النص التشريعي من دون الإلمام بعلوم الشريعة وفقه المقاصد وفقه الواقع على وجه الخصوص .

ووفقا لهذا السياق الفقهي الجامع بين فقه النص بإدراك علله المصلحية وبين الوعي بمتطلّبات الواقع المتغيّر فإن الإمام مالك قد طُرحت عليه مايزيد عن الأربعين مسألة فقهية تتعلق بنوازل جديدة ببيئة مغايرة لواقع المدينة في تلك الحقبة، فلم يقدّم إلا فتاوى لثمانية مسائل لعدم درايته الكلّية بالسياقات الحضارية والاجتماعية الدقيقة وإل اأضحت الفتوى تنحو منحى خطيرا إمّا غلوّا في منح الرخص وتوسّعا في الحيل الفقهية التي تلغي الأحكام الشرعية أوتشدّدا على المكلّف من غير مراعاة طاقاته وظروفه القاهرة التي توقعه في الحرح والضرر الذي يتنافى مع المصلحة المقصودة شرعا باعتبار أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والعادة .ثم إنّ أيّ حكم شرعي يصدره فقيه في واقعة ما لايتفطن فيها إلى المصالح والمآلات يعدّ ضربا من الجهل المركّب مصداقا لقولهﷺ :”إن الله لايقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ،ولكن يقبض العلم بقبض العلماء،حتى إذا لم يُبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهّالا ،فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا.”

صحيح البخاري :كتاب العلم. باب كيف يقبض العلم. حديث رقم100.دار الفكر للطباعة والنشر .1424هـ-2003م -بيروت لبنان -ص46