خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةُ: ((شَرَفُ الدِّفاعِ عَنْ الوَطَنِ))
للدكتور : مُحَمَّدٌ حِرْزٌ
بِتَارِيخِ 4 جُمَادَى الأوَّلِ 1447 هـ، الْمُوَافِقُ 3 مِنْ أُكْتُوبَرَ 2025 م.
لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
saraf aldefa analwatan
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِوَطَنٍ مِنْ خَيْرَةِ الأَوْطَانِ، وَنَشَرَ عَلَيْنَا فِيهِ مَظَلَّةَ الأَمَانِ وَالِاسْتِقْرَارِ، الحَمْدُ لِلَّهِ القَائِلِ فِي مُحْكَمِ التَّنزِيلِ ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ يُوسف: 99، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلِيلُهُ، القَائِلُ (عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) رَوَاهُ التَّرمِذِيُّ، فَاللّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مِسْكِ الختَامِ، وَخَيْرِ مَنْ صَلَّى وَصَامَ، وَتَابَ وَأَنَابَ، وَوَقَفَ بِالْمَشْعَرِ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ الحَرَامِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْأَعْلَامِ، مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ، خَيْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الدَّوَامِ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَالتِزَامٍ.
أمَّا بَعْدُ: فَأَوْصِيَكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الْأَخْيَارُ بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تَقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(
عَبادَ اللهِ: ((شَرَفُ الدِّفاعِ عَنْ الوَطَنِ))عُنْوانُ وَزَارَتِنَا وَعُنْوانُ خُطْبَتِنَا.
عَناصِرُ اللِّقَاءِ:
-
أوَّلًا: الدِّفاعُ عنِ الوَطَنِ شَرَفٌ مَا بَعْدَهُ شَرَفٌ وَعِزَّةٌ مَا بَعْدَهَا عِزَّةٌ
-
ثَانِيًا: فَمَا بَالَكُمْ لَوْ كَانَ الْوَطَنُ مِصْرَ الْغَالِيَةَ؟
-
ثَالِثًــا وَأَخِيرًا: الْوَطَنِيَّةُ لَيْسَ اِدِّعَاءً!!
أَيُّهَا السَّادَةُ: مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ المَعْدُودَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ شَرَفِ الدِّفاعِ عَنْ الوَطَنِ، وَخَاصَّةً وَكُلُّنَا بِلَا استثنَاءِ خَلْف قَادَتِنَا فِي الدِّفاعِ عَنْ وَطَنِنَا مِصْرَ الغَالِيَةِ وَلَوْ فُرِضَ عَلَيْنَا القِتَالُ مَا تَأَخَّرَ وَاحِدٌ مِنَّا، خَاصَّةً فِي تِلْكُم الأَزَمَاتِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا العَالَمُ وَنَحْنُ نَرَى وَنُشَاهِدُ مَا يُحَاكُ لِوَطَنِنَا ((لِمِصْرِنَا الغَالِيَةِ ))مِنَ الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ مِمَّن يُرِيدُونَ النَّيْلَ مِنْهَا وَمِنْ أَمْنِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا؛ لِتَعُمَّ الفَوْضَى وَالخَرَابُ وَالهَلاَكُ وَالدُّمَارُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَخَاصَّةً وَمِصْرُنَا الغَالِيَةُ المُحْرُوسَةُ بِعِنَايَةِ اللَّهِ تَحْتَفِلُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ بِذِكْرَى انْتِصَارَاتِ السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَرَ سَنَةَ 1973م الَّتِي سَطَرَ فِيهَا شُهَدَاؤُنا الأَبْطَالُ التَّارِيخَ بِدِمَائِهِمُ الذَّكِيَّةِ العَطِرَةِ، فَفِي السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَرَ كَانَتِ مَعْرَكَةُ العُبُورِ حَيْثُ عَبَرَتْ قُوَّاتُنَا المُسَلَّحَةُ خَطَّ بَارِلِيفٍ وَدَمَّرَتْ نِقَاطَ الدِّفاعِ الإِسْرَائِيلِيَّةِ وَأَلْحَقَتْ الهَزِيمَةَ بِالْقُوَّاتِ الصَّهْيُونِيَّةِ، ، وَانْتَصَرَ جُنُودُ الحَقِّ عَلَى المُحْتَلِّينَ الإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَارْتَفَعَتْ رَايَاتُ الحَقِّ عَالِيَةً خَفَّاقَةً وَسَجَّلَ التَّارِيخُ هَذِه البَطُولَاتِ وَالتَّضْحِيَاتِ لِقُوَّاتِنَا المُسَلَّحَةِ فَضَرَبُوا بِدِمَائِهِمْ أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ فِي التَّضْحِيَةِ وَالفِدَاءِ لِدِينِهِمْ وَوَطَنِهِمْ. وَخَاصَّةً وَمِنْ أَوْلَى الواجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ: إدارَاكُ قِيمَةِ الوَطَنِ وَالشُّعُورُ بِمَكانَتِهِ، خَاصَّةً فِي ظِلِّ الظُّرُوفِ وَالتَّحَدِّيَاتِ الَّتِي تَمُرُّ بِهَا مَنْطِقَتُنَا العَرَبِيَّةُ وَخَاصَّةً مِصْرُ الْغَالِيَةُ، لِذَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَنْشُرَ ثَقَافَةَ الوَلاءِ وَالعَطَاءِ وَالفِدَاءِ بَيْنَ الشَّبَابِ مِنْ خِلَالِ الْمَنَاهِجِ الدِّرَاسِيَّةِ، وَالنَّدَوَاتِ وَالْبَرَامِجِ الإِعْلَامِيَّةِ، فَالْوَطَنُ هُوَ السَّفِينَةُ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْجَمِيعِ الْحِفَاظَ عَلَيْهَا حَتَّى تَنجُوَ وَنَنْجُوا مَعَهَا. فَإِذَا هَلَكَتِ السَّفِينَةُ هَلَكَ الْجَمِيعُ وَإِذَا نَجَتِ السَّفِينَةُ نَجَا الْجَمِيعُ، وَخَاصَّةً وَوَطَنُنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى سَـوَاعِدِ الْجَمِيعِ فِي الْبِنَاءِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالتَّنْمِيَةِ وَالتَّقَدُّمِ وَالرَّقِيِّ وَالْازْدِهَارِ كُلٌّ فِي مَجَالِهِ وَتَخَصُّصِهِ، وَخَاصَّةً وَالْحَدِيثُ عَنْ الْأَوْطَانِ شَيِّقٌ وَمُمْتِعٌ وَجَمِيلٌ وَسَأَلُوا مَنْ تَغَرَّبَ فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ عَنْ اشْتِيَاقِهِ وَحُبِّهِ لِوَطَنِهِ.
مِصْرُ الكِنَانَةُ مَا هَانَتْ عَلَى أَحَدٍ *** اللّهُ يَحْرُسُهَا عَطْفًا وَيَرْعَاهَا
نَدْعُوكَ يَا رَبِّ أَنْ تَحْمِي مَرَابِعَهَا *** فَالشَّمْسُ عَيْنٌ لَهَا وَالَّليلُ نَجْوَاهَا
أوَّلًا: الدِّفاعُ عنِ الوَطَنِ شَرَفٌ مَا بَعْدَهُ شَرَفٌ وَعِزَّةٌ مَا بَعْدَهَا عِزَّةٌ
أَيُّهَا السَّادَةُ: بَدَايَةً لَن نَمَلَّ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ وَطَنِنَا لَأَنَّنَا مِنْ غَيْرِهِ لَا قِيمَةَ وَلَا وَزْنَ لَنَا وَحَقُّ الْوَطَنِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ دِينٌ وَإِيمَانٌ وَإِحْسَانٌ نَقُولُهَا بِمَلْءِ الْأَفْوَاهِ، وَكَيْفَ لَا؟ وَحُبُّ الْوَطَنِ مِنْ هُدَى النَّبِيِّ الْعَدْنَانِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّبِيِّينَ الْأَخْيَارِ، وَالدِّفَاعُ عَنِ الْوَطَنِ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ، وَوَاجِبٌ وَطَنِيٌّ، وَمَسْؤُولِيَّةٌ وَفَاءٌ تَقَعُ عَلَى عَاتِقِ الْجَمِيعِ، وَالْمَوْتُ فِي سَبِيلِه عِزَّةٌ وَكَرَامَةٌ وَشَهَامَةٌ وَشَجَاعَةٌ وَرَجُولَةٌ وَشَهَادَةٌ. وَكَيْفَ لَا؟ وَالْوَطَنُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْوَطَنُ؟ الْوَطَنُ عِطْرٌ يَفُوحُ شَذَاهُ وَعَبِيرٌ يَسْمُو فِي عَلَاهُ، الْوَطَنُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْوَطَنُ؟ الْوَطَنُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَمِنَّةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ وَلَا تُسَاوَمُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ، بَلْ تُبْذَلُ الْأَمْوَالُ لِأَجْلِهَا وَتُرْخَصُ الأَرْوَاحُ فِي سَبِيلِ وَحْدَتِهَا وَالدِّفَاعِ عَنْهَا. الْوَطَنُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْوَطَنُ؟ الْوَطَنُ كَلِمَةٌ صَغِيرَةٌ فِي مَبْنَاهَا، عَظِيمَةٌ فِي مَعْنَاهَا، كَلِمَةٌ مَا إِنْ تُذْكَرُ حَتَّى تَتَحَرَّكَ لَهَا المَشَاعِرُ وَتَتَفَاعَلَ مَعَهَا الأَحَاسِيسُ، الوَطَنُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الوَطَنُ؟ الوَطَنُ أَغْلَى مَا يَمْلِكُ المَرْءُ بَعْدَ دِينِه، وَمَا مِنْ إِنْسَانٍ إلَّا وَيَعْتَزُّ بِوَطَنِه؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ فِيهِ وَتَرَعْرَعَ وَتَرَبَّى وَشَبَّ عَلَى أَرْضِهِ وَعَاشَ حَيَاتَهُ وَذِكْرَيَاتِهِ بِحَلْوِهَا وَمُرِّهَا، الوَطَنُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الوَطَنُ؟ الوَطَنُ مَوْطِنُ الآبَاءِ وَالأَجْدَادِ، وَمَأْوَى الأَبْنَاءِ وَالأَحْفَادِ، وَهُوَ مِسْقَطُ الرَّأْسِ، وَمُسْتَقَرُّ الحَيَاةِ، وَمِنْ أَجْلِهِ نُضَحِّي بِكُلِّ غَالٍ وَنَفِيسٍ، وَسَلُّوا مَن تَغَرَّبَ فِي بِلَادِ الغُرْبَةِ عَنْ اشْتِيَاقِهِ وَحُبِّهِ لِوَطَنِهِ وَكَيْفَ أَنَّ الوَطَنَ حَيَاةٌ مَا بَعْدَهَا حَيَاةٌ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الوَطَنِ مِنَ الكُلِّيَّاتِ السِّتِّ الَّتِي أَمَرَنَا الإِسْلَامُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. الوَطَنُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الوَطَنُ؟ الوَطَنُ هُوَ الأَمْنُ وَالأَمَانُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَهُوَ رَمْزُ الكَرَامَةِ وَالْعِزَّةِ وَهُوَ الكِيَانُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، وَهُوَ الْحَضْنُ الدَّافِئُ الَّذِي نَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي أيِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، لِذَا حَثَّنَا الدّينُ عَلَى حُبِّ الوَطَنِ وَالدِّفَاعِ عَنْهُ ضِدَّ الأَعْدَاءِ.
لذَا لَمَّا كَانَتْ مَحَبَّةُ الوَطَنِ فِي النَّفْسِ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ فِرَاقُهُ عَلَى القَلْبِ مُؤْلِمًا، نَجِدُ أَنَّ أَعَدَاءَ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ يُهَدِّدُونَ أَنْبِيَاءَهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ أَوْطَانِهِمْ وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ نِعْمَةِ الوَطَنِ، قَالَ تَعَالَى : ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)) الأَعْرَافُ 88، وَهَذَا شُعَيْبٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ لَهُ المَلَأُ الَّذِينَ استَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: ((لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ))، وَهَذَا نَبِيُّ اللهِ لُوطٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَنْ مَعَهُ قَالَ عَنْهُمْ قَوْمُهُمْ: ((أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)) الأَعْرَافُ 82، وَ قَدْ لَاقَى سَيِّدُ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الإِيذَاءِ البَلِيغِ، فَهَا هُوَ يَلْتَفِتُ إِلَى مَكَّةَ، وَ طَنِهِ الحَبِيبِ إِلَى قَلْبِهِ، (( إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا )، قَائِلاً: (( مَا أَطْـيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَ أَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَ لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ )) رَوَاهُ التُّرْمِذِيُّ اللّهُ أَكْبَرُ خَاطِبُ مَكَّةً الْمُكَرَّمَةَ زَادَهَا اللّهُ تَكْرِيمًا وَ تَشْرِيفًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مُوَدِّعًا إِيَّاهَا وَ هِيَ وَطَنُهُ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ، بِكَلِمَاتٍ تُؤَلِّمُ الْقَلْبَ وَ تُبْكِي الْعَيْنَ بَدَلَ الدُّمُوعِ دَمًا، بِكَلِمَاتٍ كُلَّهَا حَنِينٌ وَ مَحَبَّةٌ وَ أَلَمٌ وَ حَسْرَةٌ عَلَى الْفِرَاقِ، بِكَلِمَاتٍ كُلَّهَا انْتِمَاءٌ وَ تَضْحِيَةٌ وَ وَفَاءٌ وَ تَعْلِنُ السَّمَاءُ حَالَةَ الطَّوَارِئِ لِيَهْبِطَ أَمِينُ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقُرْآنٍ يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِيُجَفِّفَ لِلْبَنِيِّ الْعَدْنَانِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ دُمُوعَهُ، وَ لِيُخَفِّفَ عَنْهُ آلاَمَهُ فَقَالَ جَلَّ وَ عَلَا: ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ )) القصص: 85)، أَي وَ بِحَقِّ الْقُرْآنِ لِيَأْتِيَ الْيَوْمُ وَ يَرُدُّكَ اللّهُ إِلَى وَطَنِكَ وَ إِلَى مَكَّةَ الَّتِي أَخْرَجُوكَ مِنْهَا فَاتِحًا مُنْتَصِرًا.
وَ يَتَجَلَّى هَذَا الحُبُّ مِنْهُ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حِينَ جَلَسَ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلَ بْنِ عَمِّ السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – وَلَمْ يَلْتَفِتْ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَثِيرًا إِلَى مَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِمَّا سَيَتَعَرَّضُ لَهُ فِي دَعْوَتِهِ مِنْ مِحَنٍ وَمَصَاعِبَ مِنْ قَوْمِهِ، حَتَّى قَالَ لَهُ وَرَقَةُ: ((وَلَيتَنِي أَكُونُ مَعَكَ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)) عِندَها قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : ((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟!))
إِنَّهُ الْوَطَنُ يَا سَادَةُ سَكِينَةُ النَّفْسِ، وَرَاحَةُ الْبَالِ، وَمَجْمَعُ الْأَحِبَّةِ، وَمُنْطَلَقُ الْبِنَاءِ؛ اسْـأَلُوا عَنْ نِعْمَةِ الْوَطَنِ مَنْ فَقَدَهَا، وَانظُرُوا إِلَى قِيمَتِهَا فِي مِيزَانِ مَنْ حُرِمَهَا، تُدْرِكُوا حَقِيقَةَ النِّعْمَةِ، وَعَظِيمَ الْمِنَّةِ. فَحُبُّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالدِّفَاعُ عَنْ الْوَطَنِ شَرَفٌ وَعِزَّةٌ وَكَرَامَةٌ وَشَهَامَةٌ وَشَهَادَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ.
بِلاَدِي هَوَاهَا فِي لِسَانِي وَفِي دَمِي *** يُمَجِّدُهَا قَلْبِي وَيَدْعُو لَهَا فَمِي
ثَانِيًا: فَمَا بَالَكُمْ لَوْ كَانَ الْوَطَنُ مِصْرَ الْغَالِيَةَ؟
أَيهَا السَّادَةُ : مَا بَالكُم إِذَا كَانَ الْوَطَنُ هُوَ مِصْرُ الْغَالِيَةُ صَخْرَةُ الْإِسْلَامِ الْعَاتِيَةُ. مِصْرُ الَّتِي نُحِبُّهَا وَنُعْشِقُهَا، مِصْرٌ هِيَ الَّتِي صَدَرَتِ الإِسْلَامَ إِلَى العَالَمِ كُلِّه بِفَضْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا إِذَا ذُكِرَتْ مِصْرُ ذُكِرَتِ الْكَعْبَةُ وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ، فَإِنَّ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَرْسَلَ إِلَى عَامِلِهِ فِي مِصْرَ أَنْ يَصْنَعَ كُسْوَةً لِلْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، فَصُنِعَتِ الْكُسْوَةُ فِي عَهْدِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- وَظَلَّتْ كُسْوَةُ الْكَعْبَةِ تُصنَعُ هُنَاكَ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ ذَٰلِكَ إِلَّا قَبْلَ قَرَابَةِ الْمِئَةِ سَنَةٍ.
إِذَا ذَكَرْتَ مِصْرَ ذَكَرْتَ أُمَّنَا هَاجِرَ زَوْجَةَ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- وَهِيَ أُمٌّ إِسْمَاعِيلَ جَدٌّ رَسُولُنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلاَمُ-، هِيَ مِصْرِيَّةٌ مِّنَ الْقِبْطِ، وَمَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ زَوْجَةُ رَسُولِنَا الْكَرِيمِ وَأُمُّ وَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ مِصْرِيَّةٌ، فَإِذَا ذَكَرْتَ مِصْرَ ذَكَرْتَ أَخْوَالَ رَسُولِنَا، وَأَصْهَارَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: ذَكَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- مِصْرَ فِي الْقُرْآنِ، وَبَيَّنَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- اسْمَهَا صَرِيحَةً فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي كِتَابِهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا، فَقَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ((وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ) [يُوسُفَ:21]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: ((ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) [يُوسُفَ:99]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) [يُونُسَ:87]، وَحَكَى -جَلَّ وَعَلَا- قَوْلَ فِرْعَوْنَ: ((أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) ((الزُّخْرُفِ:51] . لَيْسَ هَذَا فَقَطْ؛ بَلْ أَشَارَ اللَّهُ -تَعَالَى- إِلَى مِصْرَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِاسْمِهَا فِي ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا مِنَ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَى-: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) [الْقَصَصِ:15]، يَعْنِي مِصْرَ، وَقَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَى-: (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ) [الأَعْرَافِ: 127]، يَعْنُونَ مِصْرَ، إِلَى آخِرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ.
إنَّ مِصْرَ -أَيُّهَا الْأَخْيَارُ– هِيَ الأَرْضُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْهَا لَمَّا طَهَّرَهَا اللَّهُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ((كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ) ((الدُّخانِ: 25-28.
إنَّ مِصْرَ هِيَ خَزَائِنُ الأَرْضِ، بِشَهَادَةِ رَبِّنَا –جَلَّ وَعَلَا- لَمَّا قَالَ عَنْ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يُوسفَ: 55].
وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ -تَعَالَى- قِصَّةَ نَهْرٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا نَهْرَ النِّيِلِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) ((الْقَصَصِ: 7).
أَنَّهَا مِصْرُ يَا سَادَةُ: قَالَ عَنْهَا سَيِّدُنَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وِلَايةَ مِصْرَ جَامِعَةً تَعْدُلُ الْخِلَافَةَ، يَعْنِي: وِلَايَةُ كُلِّ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي كِفَّةٍ، وَوِلَايَةُ مِصْرَ فِي كِفَّةٍ. وَقَالَ الْجَاحِظُ: إنَّ أَهْلَ مِصْرَ يَسْتَغْنُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ خَيْرَاتٍ عَنْ كُلِّ بَلَدٍ، حَتَّى لَوْ ضُرِبَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِلَادِ الدُّنْيَا بِسُورٍ مَا ضَرَّهَا. اللَّهُ أَكْبَرُ وَفِي أَرْضِ مِصْرَ الرَّبْوَةُ ا لَتِي أَوَى إِلَيْهَا عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأُمُّهُ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) [المؤْمِنُونَ: 50]. وَعَلَى أَرْضِ مِصْرَ ضَرَبَ مُوسَى بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَ الْمَاءُ مِنْهُ، وَانْشَقَّ الْبَحْرُ لَهُ، فَكَانَ كُلُّ فَرْقٍ كَالطُّودِ الْعَظِيمِ، وَعَلَى أَرْضِ مِصْرَ جَبَلُ الطُّورِ الَّذِي تَجَلَّى عَلَيْهِ الرَّحْمَـٰنُ جَلَّ جَلَالُهُ وَأَقْسَمَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ .
وَلَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِأَبْطَالِ مِصْرَ أَمْثِلَةً فِي كِتَابِهِ، فَمِنَ الْمِصْرِيِّينَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ الْبَطَلُ الثَّابِتُ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْهُ: (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ) [غَافِرٌ: 28].
وَمِنَ الْمِصْرِيِّينَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ الَّذِي حَذَّرَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [الْقَصَصِ: 20].
فَمِصْرُ هِيَ أُمُّ الْبِلَادِ، وَهِيَ مَوْطِنُ الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُبَّادِ، قَهَرَتْ قَاهِرَتُهَا الْأُمَمَ، وَوَصَلَتْ بَرَكَاتُهَا إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ سَكَنَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّحَابَةُ وَالْعُلَمَاءُ.
وَلِلَّهِ دَرُّ القَائِلِ:
مَـن شَاهَدَ الأَرْضَ وأَقْطَارَها *** وَالنَّاسَ أَنْوَاعًا وأَجْنَاسًا
وَلَا رَأَى مِصْرَ وَلَا أَهْلَهَا *** فَمَا رَأَى الدُّنْيَا وَلَا النَّاسَ
ثَالِثًــا وَأَخِيرًا: الْوَطَنِيَّةُ لَيْسَ اِدِّعَاءً!!
أيُّها السَّادَةُ: أُكَرِّرُهَا دَائِمًا وَأَبَدًا حُبُّ الوَطَنِ وَالتَّضْحِيَةُ فِي سَبِيلِهِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلِمَاتٍ تُقَالُ أَوْ شِعَارَاتٍ تُرْفَعُ، إِنَّمَا هُوَ سُلُوكٌ وَتَضْحِيَاتٌ وَحُقُوقٌ تُؤَدَّى، الْجُنْدِيُّ بِثَبَاتِهِ وَصَبْرِهِ وَفِدَائِهِ وَتَضْحِيَتِهِ، وَالشُّرْطِيُّ بِسَهَرِهِ عَلَى أَمْنِ وَطَنْهِ، وَالفَلاَّحُ وَالْعَامِلُ وَالصَّانِعُ بِإِتْقَانِ كُلٍّ مِنْهُم لِعَمَلِهِ، وَالطَّبِيبُ وَالْمُعَلِّمُ وَالْمُهَنْدِسُ بِمَا يُقَدِّمُ كُلُّ مِنْهُم فِي خِدْمَةِ وَطَنِهِ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الأَعْمَالِ وَالْمِهَنِ وَالصِّنَاعَاتِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مِنَّا أَنْ يُقَدِّمَ مَا يُثْبِتُ بِهِ أَنَّ حُبَّهُ لِلْوَطَنِ وَلَاءٌ وَعَطَاءٌ وَانْتِمَاءٌ لَيْسَ مُجَرَّدَ كَلَامٍ أَوْ أَمَانِيَ أَوْ أَحْلَامٍ، فَشَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَ الوَطَنِيَّةِ الحَقيقَةِ وَأَدْعِياءِ الوَطَنِيَّةِ. فَالوَطَنِيَّةُ الحَقيقِيَّةُ لَهَا مُتَطَلَّباتٌ، وَشَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَ الوَطَنِيَّةِ الحَقيقَةِ وَأَدْعِياءِ الوَطَنِيَّةِ فَأَنَّ للسَّهَى مِن شَمْسِ الضُّحَى وَأَنَّ للثَّرَى مِن كَوَاكِبِ الجَوْزَاءِ، وَمُتَطَلَّباتُ الوَطَنِيَّةِ الحَقيقِيَّةِ كَثِيرَةٌ وَعَدِيدَةٌ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ المَثَالِ لَا الحَصْرَ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ، وَعَدَمُ الاستِمَاعِ إِلَى الدَّعَوَاتِ الْمُغْرِضَةِ مِن هُنَا وَهُنَاكَ لِلنَّيْلِ مِن دَوْلَتِنَا وَاسْتِقْرَارِهَا وَأَمْنِهَا، فَالأَمْنُ فِي الْأَوْطَانِ مَطْلَبٌ الْكُلُّ يُرِيدُهُ وَيَطْلُبُهُ، وَمَن يَسْعَى لِزَعْزَعَةِ الأَمْنِ إِنَّمَا يُرِيدُ الإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْ تَعُمَّ الْفَوْضَى وَالشَّرُّ بَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ، فَزَعْزَعَةُ أَمْنِ الأُمَّةِ وَتَرْوِيعُ الآمِنِينَ جَرِيمَةٌ نَكْرَاءُ بَشِعَةٌ فِيهَا إِعَانَةٌ لِأَعْدَاءِ الإِسْلَامِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَالأَمْنُ وَالأَمَانُ مِن أَجَلِّ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْنَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: “مَنْ أَصْبَحَ مِنكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا” رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتُّرْمِذِيُّ.
وَمِن مَتَطَلَّبَاتِ الوَطَنِيَّةِ الحَقيقِيَّةِ: عَدْمُ التَّعَدِّي عَلَى الأَمْوَالِ وَالمُمْتَلَكَاتِ الخَاصَّةِ وَالعَامَّةِ وَعَدْمُ تَخْرِيبِ وَتَدْمِيرِ المَنْشَآتِ العَامَّةِ: فَإنَّ مَن يَقُومُ بِذَلِكَ الاِعْتِدَاءِ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ الهَالِكِينَ، يَا رَبِّ سَلِّمْ قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ المَائِدَةُ: 33.
وَمِن مَتَطَلَّباتِ الوَطَنِيَّةِ الحَقيقةِ: أَنْ نَعْمَلَ عَلَى التَّنْمِيَةِ الشَّامِلَةِ فِي جَمِيعِ نَوَاحِي الحَيَاةِ، فَالْمُجْتَمَعَاتُ النَّاجِحَةُ تُقَاسُ قُوَّتُهَا بِمَدَىَ تَحْقِيقِ التَّنْمِيَةِ الشَّامِلَةِ فِيهَا سَوَاءٌ التَّنْمِيَةِ الاقْتِصَادِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ وَالتَّعْلِيمِيَّةِ وَالْإِيمَانِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، فَالْرُّكُودُ وَالتَّضَخُّمُ وَالْكِسَادُ وَالْبِطَالَةُ وَالْفَقْرُ وَالْجَهْلُ وَالْمَعَاصِي أَمْرَاضُ شَيْخُوخَةٍ تُؤَدِّي إِلَى انْتِشَارِ الْفَسَادِ فِي أَرْكَانِهِ، وَانْطِفَاءِ الأَمَلِ بَيْنَ شَبَابِهِ، وَمِن ثَمَّ تَكْثُرُ الْانْحِرافَاتُ الْيَأْسُ وَالِانْتِحَارُ وَالْإِحْبَاطُ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ، وَهَذَا يَتَنَافَى مَعَ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ.
وَمِن مَتَطَلَّباتِ الوَطَنِيَّةِ الحَقيقيةِ: الْمُشَارَكَةُ بِإِخْلاَصٍ فِي بِنَائِهِ وَذَلِكَ بِإِتْقَانِ الْعَمَلِ وَالْحِرْصِ عَلَى جَوْدَةِ الْإِنْتَاجِ فَهُوَ سَبَبٌ لِتَقَدُّمِ الأُمَمِ فَكَمْ مِنْ أُمَمٍ تَقَدَّمَتْ بِسَبَبِ إِتْقَانِهَا لِلْعَمَلِ، وَكَمْ مِنْ أُمَمٍ تَأَخَّرَتْ بِسَبَبِ عَدَمِ إِتْقَانِهَا لِلْعَمَلِ لِذَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ)) رواه البيهقي.
وَمِن مَتَطَلَّباتِ الوَطَنِيَّةِ الحَقيقةِ: الْمُسَاهَمَةُ فِي التَّفَوُّقِ الْعِلْمِيِّ فَالتَّفَوُّقُ الْعِلْمِيُّ سَبَبٌ لِتَقَدُّمِ الأُمَمِ وَالشُّعُوبِ فَلا سَعادَةَ وَلا فَلاحَ وَلا تَقَدُّمَ وَلا رُقِيَّ إِلَّا بِالعِلْمِ، فَبِالعِلْمِ تُبْنَى الأَمْجَادُ، وَتُشَيَّدُ الحَضَاراتُ، وَتَسُودُ الشُّعُوبُ، وَتَقِلُّ الأَمْرَاضُ وَالأَوْبِئَةُ، فَالعِلْمُ هُوَ الرَّكِيزَةُ العُظْمَى لِأَيِّ نَهْضَةٍ فِي مَاضِي التَّارِيخِ وَحَاضِرِهِ، وَحَيْثُ كَانَتِ النَّهْضَةُ كَانَ التَّعْلِيمُ، وَحَيْثُ كَانَ التَّعْلِيمُ كَانَتْ النَّهْضَةُ، فَكَم مِن أُمَمٍ نَهَضَتْ وَتَقَدَّمَتْ وَتَفَوَّقَتْ بِسَبَبِ تَعْلِيمِهَا، وَكَم مِن أُمَمٍ تَأَخَّرَتْ بِسَبَبِ جَهْلِهَا، وَكَم مِن أُمَمٍ سَادَ فِيهَا الظَّلَامُ وَالأَمْرَاضُ وَالأَوْبِئَةُ بِسَبَبِ جَهْلِهَا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَمِن مَتَطَلَّبَاتِ الوَطَنِيَّةِ الحَقيقِيَّةِ: خَاصَّةً فِي عَصْرِ السُّوشِيَال مِيدِيَا وَالفَيْس بُوك وَغَيْرِهِ: ذِكْرُ الوَطَنِ بِالخَيْرِ دَائِمًا وَنَشْرُ الْإِيحَابِيَّاتِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ وَالتَّغَاضِي عَنْ الْمَسَاوِئِ وَعَدَمِ نَشْرِهَا وَالدُّعَاءِ لَهُ بِالرَّخَاءِ وَالْازْدِهَارِ وَزَرْعُ الْحُبِّ فِي نُفُوسِ الْأَطْفَالِ مُنْذُ النَّشْأَةِ الْأُولَى، وَالْحَثُّ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْ الوَطَنِ وَنَشْرُ قِيمَةِ هَذَا الْعَمَلِ وَالتَّأْكِيدُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مُقَدَّسٌ.. فَإِنَّ الوَطَنَ هُوَ مِرَآةٌ لِلْفَرْدِ وَعِندَمَا يَنهَضُ الوَطَنُ يَنْعَكَسُ ذَلِكَ عَلَى الْمَوَاطِنِ. …أَمَّا الْإِسَاءَةُ إِلَى الوَطَنِ عَلَى مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ وَعَلَى الْفَضَائِيَّاتِ لِلنَّيْلِ مِنْهُ فَهَذِهِ خِيَانَةٌ بَشِعَةٌ وَجَرِيمَةٌ نَكْرَاءُ وَخِزْيٌ وَعَارٌ وَهَلَاكٌ وَدِمَارٌ دِينُنَا مِنْهَا بَرَاءٌ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ……….
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ وَبِسْمِ اللَّـهِ وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ……أَمَّا بَعْدُ
أَيُّها السَّادَةُ: يَا أَدْعِيَاءَ الْوَطَنِيَّةِ الزَّائِفَةِ تَمَهَّلُوا قَلِيلًا !! تَفَكَّرُوا قَلِيلًا !! الْكُلُّ يَعْرِفُكُمْ لا قِيمَةَ لَكُمْ وَلَا وَزْنَ لَكُمْ وَلَا أَهَمِّيَّةَ لَكُمْ، عُودُوا إِلَى رَشْدِكُمْ وَعَقْلِكُمْ قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَانِ، فَمِصْرُنَا الْغَالِيَةُ صَخْرَةُ الْإِسْلَامِ الْعَاتِيَةُ. مِصْرُ الَّتِي نُحِبُّهَا وَنَعْشَقُهَا فِي حَاجَةٍ إِلَى أَبْطَالٍ حَقِيقِيِّينَ لَا وَهْمِيِّينَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الشُّرَفَاءِ الْمُخْلِصِينَ لَا الْمُخَادِعِينَ الْأَفَاكِينَ، فَالْوَطَنِيُّ مَن يَعِيشُ لِوَطَنِهِ لَا مَن يَتَعَيَّشُ بِاسْمِ الْوَطَنِ وَالْوَطَنِيَّةِ، وَشَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَ مَن أَخْلَصَ لِدِينِهِ وَوَطَنِهِ وَضَحَّى بِالْغَالِي وَالنَّفِيسِ، وَبَيْنَ مَن بَاعَ وَطَنَهُ بِالْغَالِي وَالرَّخِيسِ. وَشَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَ الْوَطَنِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ الْمَزْعُومَةِ الزَّائِفَةِ. فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللَّهِ-، وَكُونُوا لِوَطَنِكُمْ هَذَا خَيْرَ بُنَاةٍ، وَلِمُقَوِّمَاتِهِ وَأُسُسِهِ حُمَاةً، رَاعُوا نُظُمَهُ وَقِيَمَهُ، وَأَوْفُوا بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ. وَقِفُوا صَفًّا واحِدًا فِي وَجْهِ كُلِّ مُرْجِفٍ، وَتَنَبَّهُوا لِسَعْيِ كُلِّ مُفْسِدٍ، اغْرِسُوا فِي أَبْنَائِكُمْ حُبَّ الوَطَنِ وَالِاعْتِزَازَ بِإِنْجَازَاتِهِ الحَاضِرَةِ وَمَجْدِهِ التَّلِيدِ، حَتَّى يُحَقِّقُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعْنَى المُوَاطَنَةِ الصَّالِحَةِ، فَهُمْ أَمَلُ الوَطَنِ وَبُنَاةُ الغَدِ. فَاللهَ اللهَ فِي الأَوْطَانِ، اللهَ اللهَ فِي الوَطَنِيَّةِ الحَقيقِيَّةِ، اللهَ اللهَ فِي مِصْرَ وَأَهْلِهَا، اللهَ اللهَ فِي كُلِّ غَيُورٍ مُحِبٍّ لِوَطَنِهِ، اللهَ اللهَ فِي التَّضْحِيَةِ مِنْ أَجْلِ الأَوْطَانِ، اللهَ اللهَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى مِصْرَنَا، اللهَ اللهَ عَلَى كُلِّ مُوَاطِنٍ يَعْمَلُ لِرَفْعَةِ وَطَنِهِ. حَفِظَ اللهُ مِصْرَ قِيَادَةً وَشَعْبًا مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَشَرِّ الْفَاسِدِينَ وَحِقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ.
-
كَتَبَهُ العَبْدُ الْفَقِيرُ إِلَى عَفْوِ رَبِّهِ د/ مُحَمَّد حَرْز