ففروا إلى الله

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]، نداء رباني خالد يتجاوز حدود الزمن والمكان، ويظل طريق النجاة للأمم والشعوب والأفراد على السواء. وهو ليس دعوة فردية فحسب، بل هو منهج شامل يحوّل الأمة من حال الضعف إلى حال القوة، ومن التشتت إلى الوحدة، ومن الاستسلام للعدو إلى الثبات في وجه طغيانه.

اليوم، ومع تصاعد الغطرسة الصهيوأمريكية، وازدياد العدوان على شعوبنا العربية والإسلامية، تتجلى أهمية هذا النداء القرآني العظيم. فالمواجهة ليست عسكرية فقط، وليست اقتصادية وحدها، بل هي بالأساس مواجهة إيمانية تستمد قوتها من الله. وإذا كان العدو يتبجح بما يملك من ترسانات وسلاح وإعلام مزيف، فإن قوتنا الحقيقية تكمن في تمسكنا بربنا، والتفافنا حول قيمنا وديننا، وإدراكنا أن الله وحده هو الناصر والمعين.

إن مصر تحديدًا، التي تحملت عبر تاريخها مسؤولية الدفاع عن الأمة، تدرك أن سر قوتها ليس في عدد الجنود فقط، ولا في المعدات وحدها، بل في يقينها بالله وإيمانها الراسخ. لقد وقف الجيش المصري على مر العصور سدًا منيعًا أمام كل معتدٍ، لأنه جيش عقيدة قبل أن يكون جيش سلاح. واليوم، وهو يواجه التهديدات المستمرة والمؤامرات المعلنة والخفية، فإن طريقه للنصر يبدأ من استجابة صادقة للنداء الإلهي: “ففروا إلى الله”.

إن الشعب المصري، برجاله ونسائه، بشبابه وشيوخه، يعرف جيدًا أن الفرار إلى الله هو الضمانة الحقيقية لأمنه واستقراره. فهذا الشعب الذي اعتاد الصبر والتحمل يدرك أن الله هو الملجأ الوحيد من الفتن والشدائد. فلتكن توبتنا جماعية، ولتكن صلاتنا جماعية، وليكن دعاؤنا واحدًا، وليكن شعارنا في هذه المرحلة الدقيقة: لا قوة لنا إلا بالله، ولا عز لنا إلا بطاعته، ولا مستقبل لنا إلا بالثبات على دربه.

وليعلم شباب مصر أن العدو الصهيوأمريكي يسعى إلى إضعافهم بنشر الشبهات والانحلال والتفاهة، ليبعدهم عن الله وعن وطنهم، لكن الواجب عليهم أن يثبتوا ويعلموا أن كل لحظة يقضونها في الصلاة والدعاء والتمسك بالأخلاق هي سلاح لا يقل أهمية عن السلاح في ميدان القتال. فالمعركة اليوم معركة وعي وإيمان وصمود، قبل أن تكون معركة حدود وأرض.

والفرار إلى الله ليس هروبًا من الواقع، بل مواجهة له بقوة أكبر. إنه الانتقال من الخوف إلى الأمان، ومن الاضطراب إلى الطمأنينة، ومن الوهم إلى اليقين. ومن فهم هذا المعنى لن تهزه الدعاية الكاذبة ولا المؤامرات المضللة، بل سيظل ثابتًا كالجبال، مستمدًا قوته من رب الأرض والسماء.

وإذا كان المصريون اليوم في قلب هذه المواجهة، فإن أشقاءنا في غزة وفلسطين يقدمون النموذج العملي لمعنى الفرار إلى الله، فبرغم آلة الحرب الصهيونية الغاشمة، وبرغم الدعم الأمريكي المفتوح للاحتلال، يظل أهل غزة ثابتين، يستمدون قوتهم من إيمانهم بالله، رافعين شعار الصمود والعزة، وهم يواجهون الدمار باليقين، ويقابلون الموت بالابتسامة، لأنهم يعلمون أن الفرار إلى الله هو النجاة الكبرى. وغزة اليوم، وهي تقف في وجه هذا الطغيان، تقول للعالم كله إن الشعوب المؤمنة لا تُهزم مهما بلغت قوة عدوها.

وختاما لذلك فإن اللحظة التي نعيشها الآن هي لحظة فاصلة في تاريخ الأمة الإسلامية، ومصر في القلب منها، وغزة وفلسطين في وجدانها. العدو يخطط ويكيد ويظهر أنيابه، لكنه ينسى أن هناك ربًا عظيمًا إذا استنصره عباده نصرهم، وإذا دعوه استجاب لهم، وإذا لجأوا إليه حماهم. ولهذا، فإن سبيلنا الوحيد هو أن نفرّ إلى الله بقلوبنا قبل أجسادنا، وبأعمالنا قبل أقوالنا، وبإخلاصنا قبل شعاراتنا. فلنفرّ إلى الله جميعًا، نترك ذنوبنا وخلافاتنا، نتمسك بوحدتنا، نرفع راياتنا على أساس الإيمان، ونثق أن النصر من عنده.

وهنا يبرز دور الشباب المصري والعربي، الذين يحملون الراية اليوم، فهم وقود النهضة وسلاح الأمة، وبدعائهم ووعيهم وصمودهم سيكتب المستقبل. شباب مصر حين يتمسكون بصلاتهم ويصونون وطنهم، وشباب فلسطين حين يضحون بأنفسهم في سبيل حريتهم، وشباب الأمة جميعًا حين يتوحدون على كلمة الحق، فإنهم يرسلون للعالم رسالة قوية: أن الأمة الإسلامية لن تُهزم ما دامت مع الله. فلتكن دعوات الشباب الصادقة سهامًا في صدر العدو، ولتكن أخلاقهم حصنًا للأمة من الفتن، وليكن صمودهم جدارًا يحميها من الانكسار.

وحين يفرّ الشباب إلى الله، ويعودون إليه بصدق، فإن مصر ستظل قوية منيعة، وغزة ستبقى شامخة رغم الجراح، والأمة كلها ستنهض من كبوتها، لتكسر الغطرسة الصهيوأمريكية، وتعلن للعالم أن قوة الإيمان لا يغلبها طغيان. فلنستجب جميعًا لنداء القرآن: ففروا إلى الله، فهو عزنا وقوتنا وملاذنا، وبه وحده نصنع المستقبل المشرق لأوطاننا وأمتنا.

نداء من القلب إلى كل مسلم، وإلى كل مصري على وجه الخصوص: عودوا إلى الله، فهو الذي يحفظكم، وهو الذي يرفع شأنكم، وهو الذي يمنحكم القوة في زمن الضعف والعزة في زمن الانكسار. لا تنخدعوا ببريق الغرب الزائف ولا بوعود أمريكا الكاذبة ولا بزيف القوة الصهيونية، فالله أكبر من كل طاغية، وأقوى من كل متجبر. لتكن بيوتكم عامرة بالذكر، ولتكن مساجدكم منابر للوحدة والدعاء، ولتكن قلوبكم مملوءة باليقين أن الفرج قريب وأن النصر آتٍ. فالله لا يخذل أمةً فرت إليه بصدق، ولا يترك شعبًا رفع راياته باسم الحق. يا مصر، يا غزة، يا كل بلاد المسلمين، ففروا إلى الله، ففي الفرار إليه حياة وكرامة ونصر مؤزر على الأعداء.