الخلافات الزوجية فى بيت النبوة رحمة ودروس لحياتنا (سلسلة بيوت من نور )
22 أغسطس، 2025
بناء الأسرة والمجتمع

بقلم الدكتورة : إبتسام عمر عبد الرازق الواعظة بوزارة الأوقاف المصرية
سلسلة بيوت على نور المقال الثاني :
خلافات النبي ﷺ مع زوجاته رحمةٌ في بيت النبوة ودروسٌ لحياتنا، حين نُخطئ في فهم القدوةنضيع البوصلة
كثيرون يتصورون أن البيوت الناجحة لا تعرف الخلاف، وأن السعادة تعني غياب المشاكل لكن الحقيقة أن البيت النبوي نفسه عرف الخلافات، بل إن القرآن خلّد بعضها ليكون لنا منها هدى ونورًا. فهلّا تأملنا هذه المواقف؟ لا لنقتدي بالشكل بل لنغترف من الحكمة.
حياة النبي ﷺ الزوجية كانت أنموذجًا للرحمة، العدل، والإنصاف ولكنها أيضًا كانت حياة بشرية، فيها مشاعر الغَيرة، وتباين الطبائع، وتداخلات الحياة اليومية.فكان النبي ﷺ زوجًا يعايش زوجاته، يبتسم، يحاور، يصبر، ويُحسن المعاملة حتى في لحظة الخلاف.ورغم عِظَم مكانته، لم يكن يُحب أن يكون مستبدًا، بل كان يُشاور، ويستوعب، ويسامح.
ومن نماذج خلافات النبي ﷺ مع زوجاته:
غيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حين كسرت الصحفة التي جاءت بها إحدى زوجات النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ مبتسمًا: «غارت أُمُّكم.» بصدرٍ رحب، وابتسامة هادئةلا لوم ولا غضب.
احتجاج بعض الزوجات على النفقة، كما ورد في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الأحزاب: 28].
وهنا أنزل الله آيات التخيير، ووقف النبي ﷺ بشفافية قائلاً لعائشة: «إني أُريد أن أذكركِ أمرًا، فلا عليكِ أن لا تعجلي حتى تستشيري والديك.» رُقيٌّ في الطرح، وإنصاف في المعاملة.
وفي سورة التحريم، حين بلغ الخلاف حدّ التنبيه الإلهي:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التحريم: 1].
ما الذي حدث؟ تقول كتب التفسير إن النبي ﷺ حرَّم على نفسه مشروبًا أو علاقة مع إحدى زوجاته مراعاةً لغيرة أخريات. فجاء العتاب الإلهي للنبي ﷺ لأنه ضحّى بما أباحه الله له من أجل إرضاء أزواجه.
ثم تُظهر السورة حوارًا داخليًا في بيت النبوة:
﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [التحريم: 3].
والله يكشف ذلك ليكون درسًا للأمة كلها. ثم يحذّر:
﴿إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: 4].
أي أن التوبة ليست فقط من المعاصي، بل من الغَيرة الزائدة، والضغط على الشريك، وكتمان الأسرار.
أسلوب النبي ﷺ في إدارة الخلاف:
1. الصبر والاحتواء دون إذلال: لم يكن يوبّخ أو يُعنّف، بل يُربي بالموقف والكلمة الطيبة.
2. الحزم الحكيم عند اللزوم: في حادثة التخيير، أوضح الحدود دون ظلم، بل أعطى حق التفكير.
3. العدل بين الزوجات مهما بلغ الخلاف: وكان يقول ﷺ: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك.»
4. استخدام الحكمة في النهي والإرشاد: يعالج الغَيرة، ولا يسخر منها. يوضح الخطأ، ويُمهّد للإصلاح.
دروس مستفادة لحياتنا الزوجية:
1. الخلاف لا يعني فشل العلاقة، وإنما طريقة إدارة الخلاف هي ما تصنع الفرق.
2. لا تخف من قول: “أخطأت” أو “سامحيني”، فالرجولة ليست في القسوة، بل في الشفافية والتواضع.
3. الغَيرة والشعور بالإهمال ليست عيوبًا نسوية، بل مشاعر تحتاج لاحتواء.
4. لا تُفرّط في رضا شريكك على حساب رضا الله، كما عاتب الله نبيه ﷺ.
5. بيوتنا تحتاج إلى نفسٍ طويل ومواقف حكيمة، لا إلى عناد متبادل.
في الختام:
بيت النبي ﷺ عرف الخلاف لكنّه لم يعرف القسوة، ولا التجريح، ولا الهجر الطويل، ولا الانتقام.
فهلّا تعلمنا كيف نكون رحماء في بيوتنا؟
هلّا وعينا أن الحب لا يُقاس بقلة الخلافات بل بحُسن إدارتها؟
﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ا
للَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].