التَّصَوُّفُ بَيْنَ الْوَحْيِ وَالِاتِّهَامِ: حَقِيقَةُ مَقَامِ الإِحْسَانِ فِي الإِسْلَام
15 ديسمبر، 2025
منهج الصوفية

من ديوان أهل الذكر لسيدي برهان الدين أبو الإخلاص رضي الله عنه
يقدمها لكم : الشيخ السيد محمد البلبوشي
الْقَائِلُونَ بِأَنَّ التَّصَوُّفَ بِدْعَةٌ ، أَوْ مُنكَرٌ مُفْتَعَلٌ فى الدِّينِ أَظُنُّهُمْ لَا يَعْنُونَ أَبَداً تَصَوُّفَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَعْنُونَ هَذَا الرُّكامَ الْمُتَنَافِرَ مِنَ الْفَلْسَفَاتِ الإِلحَادِيَّةِ وَالْمَذَاهِبِ الْانْحِلالِيَّةِ بِمَا فِيهَا مِنَ النَّزَوَاتِ وَالنَّزَعَاتِ التى وَفَدَتْ مِنَ التَّبَطُّنِ وَالشُّعُوبِيَّةِ والقَرْمَطَةِ ، والتَّسَلُّلِ الانحرافِىِّ بِمُخْتَلَفِ مُسْتَوَيَاتِهِ ، ثُمَّ انْدَسَّتْ فى خِضَمِّ هَذَا الْعِلْمِ ، وَلَيْسَ هَذَا بمنطبقٍ أَبَداً عَلَى التَّصَوُّفِ الإسلامِىِّ النَقىِّ . وَلَا عَلَى الصَّفْوَةِ مِنْ رِجَالِهِ بِحَمْدِ اللهِ ، وَلَا نُحِبُّ أَنْ ندافعَ هُنَا عَنْ أَشخاصٍ بالذّاتِ . وَلَكِنَّنَا نُحِبُّ أَنْ نُحْسِنَ الظَّنَّ بِالنَّاسِ . وَأَنْ نَتَأَوَّلَ الْمَنْسُوبَ إِلَيهِمْ . مَا دَامَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ مِنْ مَعْقُولٍ أَوْ مَنْقُولٍ ، وَنَرَى أَنَّ التّحوّطَ فى مِثْلِ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الأدبِ وَالْعِلمِ وَالْحِكْمَةِ . وَحِينَ لَا يَكُونُ إِلَى تَأَوُّلٍ مِنْ سَبِيلٍ . فَهُمْ بَشَرٌ يَجْتَهِدُونَ فَيُخْطِئُونَ أَوْ يُصِيبُونَ . وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ .
والخطَأُ لَا يُخْرِجُ الْمُخْطِئَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَلَا يَحْرِمُهُ فَضْلَ اللَّهِ ، وَكَونُهُ أَخْطَأَ فى جَانِبٍ . لَا يَمْنَعُ أَنَّهُ أَصَابَ فى جَوَانِبَ وَفِى الْحَديثِ الْمَشْهُورِ بالبخارىِّ وَمُسْلِمٍ ، أَنَّ جبريلَ جَاءَ يُعَلِّمَ النَّاسَ مَرَاتِبَ الدِّينِ الثَّلاثَةِ :” الإسلامَ والإيمانَ والإحسانَ “.
وَقَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى تَسْمِيَةِ مَقَامِ الإحسانِ بِاسْمِ ” التَّصَوُّفِ ” فَيَكُونُ مَعْنَى هَذَا أَنَّ التَّصَوُّفَ مُؤَسَّسٌ بِالوَحىِ ، وَأَنَّ الطَّرِيقَةَ الصُّوفِيَّةَ الشَّـرْعِيَّةَ مِمَّا نَزَلَ بِهِ وَحْىُ السَّمَاءِ ، مِنْ هَذِهِ الْوِجْهَةِ . ثُمَّ إذا عَرَفْنَا أَنَّ مَوْضُوعَ التَّصَوُّفِ هُوَ تَصْحِيحُ الْعُبُودِيَّةِ لِلرَّحمنِ بالتّحقُّقِ بأوصافِ عِبَادِهِ ( عِبَادِ الرّحمنِ ) مَعَ مُعَاناةِ الإيمانِ بِالْغَيْبِ وَمُمَارَسَةِ مَا أَمَرَ بِهِ اللهُ فى كِتَابِهِ مِنْ نَحْوِ الذِّكْرِ ، وَالصَّبْرِ ، وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوَكُّلِ ، وَالتَّوْبَةِ والإيثارِ ، وَالْمُجَاهَدَةِ الْمُرْتَبِطَةِ بأحوالِ النَّفْسِ والتَّطَهُّرِ مِنْ نَقَائِصِ الْحَسَدِ وَالْمَكْرِ وَمُخْتَلَفِ الرَّذَائِلِ ، وَدِرَاسَةِ أَحْوَالِ الْوِلاِيَةِ وَالصِّدِيقِيَّةِ ، وَرِعَايَةِ الأنفَاسِ ، وَحِفْظِ الْقُلُوبِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ إجمالاً وَتَفْصِيلَاً بِالْفَضَائِلِ وَالْعِبَادَةِ ، وَالسُّلُوكِ وَقُدْسِ الْغَيْبِ وَحُقُوقِ الألُوهِيَّةِ . إذا عرفَنَا أَنَّ هَذَا جميعاً مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قُلْنَا أيضاً بِأَنَّ التَّصَوُّفَ أَوْ الطُّرُقَ الشَّرْعِيَّةَ قَدْ أَسَّسَهَا الوحْىُ السَّماوِىُّ مَرَّتَيْنِ : مَرَّةً بالقُرآنِ ، وَمَرَّةً بِالْحَديثِ كَمَا رَأَيْتَ وَمَا أَسَّسَهُ الوَحىُ فَهُوَ دِينُ اللَّهِ !!.
والوحىُ لايُؤْسِّسُ الأمورَ لِتُهْمَلَ وَتُتَّهَمَ ، وَلَكِنْ لِتُمَارَسَ وَتُحْتَرَمَ وَلَا عَلَينَا مِنْ تَسْمِيَةِ هَذَا الْمُسْتَوى الإسلامِىّ الأعلَى بِالتَّصَوُّفِ أَوْ الطَّرِيقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ اصْطِلاحَاتٌ لَا تَتَأَثَّرُ بِهَا حقائقُ الْمُسَمَّيَاتِ ومَاهِيَّاتُهَا .
ثُمَّ إِنَّ مَرَاتِبَ الدِّينِ التى فَصَّلَهَا الوحىُ فى الْحَديثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيهِ كَمَا قُلْنَا ثَلاثٌ :
أَوَّلُهَا : الإسلامُ . وَقَدْ تَكَفَّلَ بِخِدْمَتِهِ عُلماءُ الْفِقْهِ . فى مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ .
وَثَانِيهَا : الإيمانُ وَقَدْ تَكَفَّلَ بِخِدْمَتِهِ عُلماءُ الْعَقَائِدِ فى مَسَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالسّمعِيَّاتِ .
وَثَالِثُهَا : الإحسانُ . وَقَدْ تَكَفَّلَ بِخِدْمَتِهِ عُلماءُ التَّصَوُّفِ فى مَسَائِلِ السُّلُوكِ والآدابِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وأحوالِ الْقُلُوبِ .
وَمَرْجِعُ ثَلاثَتِهِا بِالضَّرُورَةِ الْفِطرِيَّةِ إِلَى عُلُومِ التفسيرِ وَالْحَديثِ ومُقتضَاهُما مِنَ الْعُلُومِ الأُخْرَى أىْ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَعُلُومِهِمَا . وَبِهَذَا يَثْبُتُ ثُبُوتَاً عِلْمِيَّاً قَاطِعَاً أَنَّ الْبِدْعَةَ كُلَّ الْبِدْعَةِ ، وَأَنَّ الْمَعْصِيَةَ كُلَّ الْمَعْصِيَةِ ، إِنَّمَا هِىَ فى تَرْكِ التَّصَوُّفِ ، وَفِى الدَّعْوَةِ إِلَى تَرْكِهِ ، وَفِى الْحَمْلَةِ الآثِمَةِ عَلَيهِ وَعَلَى رِجَالِهِ الأبرارِ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عِبَادَةٌ وَخُلُقٌ وَسُلُوكٌ جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَمَا رَأيْتَ .