بناء المسجد النبوى

 المقال الرابع من سلسلة (هجرة النبى).
فضيلة الشيخ/ احمد عزت حسن
الباحث فى الشئون الاسلامية

 

وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالمَدِيْنَةِ هُوَ بِنَاءُ المَسْجِدِ، فَأَسَّسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَسْجِدَ النَّبَوِيِّ فِي رَبِيْعٍ الأَوَّلِ مِنَ العَامِ الأَوَّلِ مِنَ هِجْرَتِهِ، وَكَانَ طُوُلهُ سَبْعِيْنَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ سِتِّيْنَ ذِرَاعًا، أَيْ مَا يُقَارِبُ خَمْسَةَ وَثَلاَثِيْنَ مِتْرًا طُوْلًا، وَثَلاَثِيْنَ عَرْضًا، وَقَدْ جَاءَ فِي «الصَّحِيْحَيْنِ» قِصَّةُ بِنَاءِ المَسْجِدِ فِي حَدِيْثٍ طَوِيْلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَإِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا، فَقَالَ: «يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي حَائِطَكُمْ هَذَا»، فَقَالُوا: لَا وَاللهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللهِ، قَالَ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ فِيهِ خِرَبٌ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، قَالَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، قَالَ وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً، قَالَ: جَعَلُوا يَنْقُلُونَ ذَاكَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ.

وَلَمْ يَكُنْ المَسْجِدُ مَوْضِعًا لِأَدَاءِ الصَّلَواتِ فَحَسْبِ، بَلْ كَانَ جَامِعَةً يَتَلَقَّى فِيْهَا المُسْلِمُونَ تَعَالِيْمَ الإِسْلَامِ وَتَوْجِيْهَاتِهِ، وَمُنْتَدَى تَلْتَقِي وَتَتَآلِفُ فِيْهِ العَنَاصِرُ القِبْلِيَّةُ المُخْتَلِفَةُ الَّتِي طَالَمَا نَافَرَتْ بَيْنَهَا النَّزَعَاتِ الجَاهِلِيَّةُ وَحُرُوبُهَا، وَقَاعِدَةً لِنَشْرِ الإِسْلَامِ فِي أَنْحَاءِ المَعْمُورَةِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ دَارً يَسْكُنُ فِيْهَا عَدَدٌ كَبِيْرٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُهَاجِرِيْنَ اللَّاجِئِيْنَ الَّذِيْنَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هُنَاكَ دَارٌ وَلَاَ مَالٌ وَلاَ أَهْلٌ وَلاَ بَنُونَ.

وقف صلى الله عليه وسلم مع صحابته جميعًا يبنون المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وفي بناء هذا المسجد دروس لا تُحصى:

أولاً: البساطة في البناء، والاهتمام الكامل بالجوهر لا بالشكل:

كان المسجد مبنيًا من اللبن والجريد، ومع ذلك أخرج عمالقة حكموا العالم بعد ذلك.
وكان الجميع يتمنى أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم ويفديه بنفسه وروحه، وأن يفديه من كل تعب أو نصب، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نزل بنفسه مع الصحابة ليبني المسجد ويأخذ معهم التراب، وينقل معهم الحجارة، ويقيم الأعمدة، ويخطط للمسجد، وهذه من أبلغ الوسائل لتربية الشعوب.

 دور المسجد في بناء الأمة الإسلامية أعمق من ذلك بكثير، وليست أهمية المسجد في حجمه أو شكله أو زخرفته، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن هذه الشكليات، وكان ينهى عن المبالغة في تزيين المساجد، وكان يقول: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، ولفظ ابن خزيمة: (يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)، تجد المساجد ضخمة وكبيرة جداً وتجد فيها صفًا أو صفين! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أُمرت بتشييد المساجد) ، والتشييد: رفع البناء زيادة عن الحاجة، وقال في رواية أبي داود: (لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)، نهتم بالشكليات كالرخام والزخارف وما إلى ذلك، ولا نهتم بالتربية داخل المسجد.

والمسجد في حياة الأمة له أدوار في غاية الأهمية، من ذلك: الحفاظ على إيمان المسلمين، فالأساس الرئيس الذي اجتهد صلى الله عليه وسلم في زرعه في صحابته هو الإيمان بالله عز وجل، والمسجد كما يظهر من اسمه هو مكان للسجود لرب العالمين سبحانه وتعالى، للرضوخ الكامل له، والطاعة المطلقة لكل أوامره. فمن الصعب جداً أن يجلس المسلمون في بيت الله عز وجل؛ ليأخذوا قراراً أو يعتمدوا رأيًا، ثم هم يخالفون ما أراده الله عز وجل منهم.

والمسجد مكان يحفظ على المسلمين دينهم؛ ولهذا كانت حياة المسلمين تدور في مجملها حول محور المسجد، فالصلاة في المسجد لا ينبغي التخلف عنها إلا في ظروف ضيّقة ومحدودة؛ لأن المسجد مكان لالتقاء المسلمين وتقوية للأواصر بينهم، فعدم الحضور لصلاة الجماعة في المسجد عمل لا يقوي الأواصر بين المسلمين.

ثانيًا: المشاركة الحقيقية والمعاناة الكاملة مع الشعب، وسنجد هذه النقطة معنا في سيرته صلى الله عليه وسلم كاملة، ففي بدر تجده يقاتل بنفسه صلى الله عليه وسلم ، وفي أحد كذلك، وفي حفر الخندق يحفر معهم، وفي السفر والحضر معهم في مشاكلهم وأفراحهم وخلافاتهم، معهم في كل أزمة وفي كل لحظة، معهم حتى إلى القبور، فأي واحد منهم يموت يحرص صلى الله عليه وسلم على الذهاب معه إلى قبره، فمن أول ما بدأ أخذ يربي إلى أن مات صلى الله عليه وسلم ، وهكذا مع عموم شعبه صلى الله عليه وسلم ، فمهما كان الإنسان بسيطًا أو فقيرًا أو من قبيلة أخرى أو من لون آخر أو من جنس آخر، فكل المسلمين عنده سواء، وهو صلى الله عليه وسلم واحد منهم، وهكذا كان زعماء الأمة في زمان قوة المسلمين.

وَفِي أَوَائِلِ الهِجْرَةِ شُرِعَ الآذَانُ تِلْكَ النَّغَمَةُ العُلْويَّةُ الَّتِي تُدَوِّي فِي الآفَاقِ، وَتَهُزُّ أَرْجَاءَ الوُجُودِ، تُعْلِنُ كُلَّ يَوْمِ خَمْسَ مَرَّاتٍ بِأَنْ لَاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَنْفِي كُلَّ كِبْرِيَاءَ فِي الكَوْنِ وَكُلَّ دِيْنٍ فِي الوُجُودِ، إِلَّا كِبْرِيَاءَ اللهِ. وَبِجَانِبِ المَسْجِدِ بَنَىَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بُيُوتًا بِالحَجَرِ وَاللَّبَنِ، وَسَقْفِهَا بِالجَرِيْدِ وَالجُذُوعِ، وَهِي حُجُرَاتُ أزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَ تَكَامُلِ حُجُرَاتِ انْتَقَلْ إِلَيْهَا مِنْ بَيْتِ أَبِي أَيُّوبٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.