خُطْبَةُ بعٌنْوَانْ :”فَظَلَلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً” للشيخ أَحْمَدَ إِسْمَاعِيلَ الْفَشَنِيِّ


خُطْبَةُ
الْجُمُعَةِ الْقَادِمَةِ  تحْتَ عٌنْوَانْ :”“فَظَلَلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً”
 (قُدْسِيَّةُ الْمَالِ الْعَامِّ.. وَخَطَرُ الِاسْتِهَانَةِ بِهِ)
وَمَعَهَا: التَّفَكُّكُ الْأُسَرِيُّ (الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ)

لفضيلة الشيخ / أَحْمَدَ إِسْمَاعِيلَ الْفَشَنِيِّ

 بِتَارِيخِ: 28 مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ 1447هـ، الْمُوَافِقُ 19 مِنْ دِيسَمْبَرَ 2025م    

  عَنَاصِرُ الْخُطْبَةِ :

أَوَّلًا: قِصَّةُ الْعُنْوَانِ (وَرَعُ السَّلَفِ عَنْ حُظُوظِ النَّفْسِ).

ثَانِيًا: “إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ” (الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِسَارِقِ الْمَالِ الْعَامِّ).

ثَالِثًا: شَمْعَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (نَمُوذَجٌ لِلْأَمَانَةِ).

رَابِعًا (ضِمْنَ مُبَادَرَةِ صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ): “الْمَالُ السَّايِبُ يُعَلِّمُ السَّرِقَةَ؟!” (تَصْحِيحُ مَفْهُومِ الْمَالِ الْعَامِّ (

خَامِسًا: التَّفَكُّكُ الْأُسَرِيُّ (أَسْبَابُهُ وَعِلَاجُهُ) – الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

(الْمَوْضُـــــــــــوعُ)

الْخُطْبَةُ الْأُولَى : إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، الَّذِي حَرَّمَ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ مُحَرَّمًا ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الصَّادِقُ الْأَمِينُ، الَّذِي حَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنَ التَّعَدِّي عَلَى حُقُوقِ الْعَامَّةِ وَلَوْ بِقَضِيبٍ مِنْ أَرَاكٍ (سِوَاكٍ)، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَى آلِكَ وَأَصْحَابِكَ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ…

أَيُّهَا السَّادَةُ الْكِرَامُ:
عُنْوَانُ خُطْبَتِنَا الْيَوْمَ عِبَارَةٌ تَهُزُّ الْقُلُوبَ الْحَيَّةَ.. “فَظَلَلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً”، قَائِلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لَيْسَ قَاتِلًا، وَلَا سَارِقًا، وَلَا زَانِيًا.. بَلْ هُوَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ “السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ” ، أَتَدْرُونَ مِمَّ يَسْتَغْفِرُ؟ يَقُولُ: “احْتَرَقَتِ السُّوقُ بِبَغْدَادَ، فَخَرَجْتُ أَنْظُرُ إِلَى دُكَّانِي، فَقِيلَ لِي: يَا أَبَا الْحَسَنِ، لَقَدْ احْتَرَقَتِ السُّوقُ كُلُّهَا إِلَّا دُكَّانَكَ! فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ ، ثُمَّ انْتَبَهْتُ لِنَفْسِي وَقُلْتُ: كَيْفَ أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى سَلَامَةِ مَالِي وَقَدْ احْتَرَقَتْ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ؟! هَلْ أَنَا إِلَّا أَنَانِيٌّ أُحِبُّ نَفْسِي؟! فَظَلَلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ قَوْلِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ثَلَاثِينَ سَنَةً!” يَا اللَّهُ! يَسْتَغْفِرُ لِأَنَّهُ فَرِحَ بِنَجَاةِ مَالِهِ الْخَاصِّ وَلَمْ يَهْتَمَّ بِمُصِيبَةِ الْعَامَّةِ!

(تَأْمَلَاتٌ حَوْلَ شُعُورِ السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ)

وَلَكِنْ دَعُونَا نَقِفُ وَقْفَةَ تَأَمُّلٍ أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ، هَذَا الرَّجُلُ لَمْ يَسْرِقْ، وَلَمْ يَغُشَّ، وَلَمْ يَأْكُلْ حَرَامًا.. كُلُّ جَرِيمَتِهِ فِي نَظَرِ نَفْسِهِ أَنَّهُ “شَعَرَ بِالرَّاحَةِ” لِنَجَاةِ مَالِهِ بَيْنَمَا النَّاسُ يَتَأَلَّمُونَ! لَقَدْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِمَنْطِقِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى. أَمَّا الْيَوْمَ، فَقَدْ سَادَ بَيْنَنَا مَنْطِقُ “أَنَا وَمِنْ بَعْدِي الطُّوفَانُ”!

يَقُولُ أَحَدُهُمْ: “مَا دَامَ بَيْتِي آمِنًا فَلَا شَأْنَ لِي بِالْجِيرَانِ”، “مَا دَامَ رَاتِبِي يَزِيدُ فَلَا يَهُمُّنِي اقْتِصَادُ الْبَلَدِ” ، هَذِهِ “الْأَنَانِيَّةُ” هِيَ بِذْرَةُ الْفَسَادِ الْأُولَى. السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثِينَ عَامًا مِنْ “أَنَانِيَّةِ الْمَشَاعِرِ”، فَمَنْ يَسْتَغْفِرُ الْيَوْمَ مِنْ “أَنَانِيَّةِ الْأَفْعَالِ”؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُ مِنْ تَرْكِ الصُّنْبُورِ مَفْتُوحًا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الشَّارِعِ وَهُوَ يَقُولُ “لَيْسَ مَالِي”؟ إِنَّهُ مَالُكَ وَمَالُ أَخِيكَ وَمَالُ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، وَالْحِفَاظُ عَلَيْهِ عِبَادَةٌ لَا تَقِلُّ عَنِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْرِقُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ؟ كَيْفَ بِمَنْ يَنْهَبُ “الْمَالَ الْعَامَّ”؟ كَيْفَ بِمَنْ يَسْتَحِلُّ الْكَهْرُبَاءَ وَالْمِيَاهَ وَمُمْتَلَكَاتِ الدَّوْلَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟ كَمْ سَنَةً يَحْتَاجُ هَؤُلَاءِ لِيَسْتَغْفِرُوا؟!

الْعُنْصُرُ الثَّانِي: “إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ” : يَا عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ الْمَالَ الْعَامَّ (مَالَ الدَّوْلَةِ وَالْمَرَافِقِ وَالْمُؤَسَّسَاتِ) هُوَ مَالُ اللَّهِ، وَهُوَ مِلْكٌ لِكُلِّ مُوَاطِنٍ فِي هَذَا الْبَلَدِ ، لِذَلِكَ، جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عُقُوبَةَ سَرِقَتِهِ شَدِيدَةً جِدًّا، لِأَنَّ السَّارِقَ هُنَا لَا يَسْرِقُ فَرْدًا وَاحِدًا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَسْمِحَهُ، بَلْ يَسْرِقُ (100 مِلْيُونِ) شَخْصٍ! اسْمَعُوا إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ الْمُرْعِبِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ] ، (يَتَخَوَّضُونَ): أَيْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِمِزَاجِهِمْ، يَأْخُذُونَ الرَّشَاوَى، يَسْتَغِلُّونَ مَنَاصِبَهُمْ، يَهْدِرُونَ الْمَوَارِدَ ، بَلْ إِنَّ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ – الَّتِي تَغْفِرُ كُلَّ شَيْءٍ – لَا تَغْفِرُ سَرِقَةَ الْمَالِ الْعَامِّ! فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، مَاتَ رَجُلٌ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: “هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ”. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “كَلَّا! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ (قِطْعَةَ قُمَاشٍ) الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا” ، قِطْعَةُ قُمَاشٍ أُخِذَتْ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ بِدُونِ حَقٍّ، أَشْعَلَتْ قَبْرَهُ نَارًا! فَمَا بَالُ مَنْ يَسْرِقُ الْمَلَايِينَ؟ أَوْ مَنْ يُخَرِّبُ الْمَدَارِسَ وَالْمُوَاصَلَاتِ الْعَامَّةِ؟

(قِصَّةُ عُودِ الْأَرَاكِ + سَرِقَةُ الْوَقْتِ) وَلَا تَظُنُّوا أَنَّ الْوَعِيدَ يَخُصُّ الْمَلَايِينَ فَقَطْ، بَلْ يَشْمَلُ حَتَّى الْأَشْيَاءَ التَّافِهَةَ إِذَا كَانَتْ مِنْ مَالِ الْعَامَّةِ.

خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمًا عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: “مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ”. فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ”. [رَوَاهُ مُسْلِمٌ] ، “قَضِيبٌ مِنْ أَرَاكٍ” يَعْنِي “عُودَ سِوَاكٍ” لَا يُسَاوِي شَيْئًا! وَلَكِنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ حَقُّ الْغَيْرِ.

وَمِنْ أَخْطَرِ صُوَرِ سَرِقَةِ الْمَالِ الْعَامِّ الْيَوْمَ: “سَرِقَةُ وَقْتِ الْعَمَلِ” الْمُوَظَّفُ الَّذِي يَذْهَبُ لِيُوَقِّعَ “حُضُورًا” ثُمَّ يَهْرُبُ لِيَقْضِيَ مَصَالِحَهُ الْخَاصَّةَ، أَوْ يَتَعَمَّدُ تَأْخِيرَ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ لِيُجْبِرَهُمْ عَلَى دَفْعِ “الْإِكْرَامِيَّةِ” (الرَّشْوَةِ الْمُقَنَّعَةِ).. هَذَا سَارِقٌ! نَعَمْ سَارِقٌ؛ لِأَنَّ الرَّاتِبَ مُقَابِلُ الْوَقْتِ، فَإِذَا أَخَذْتَ الرَّاتِبَ كَامِلًا وَلَمْ تُعْطِ الْوَقْتَ كَامِلًا، فَقَدْ دَخَلَ جَوْفَكَ سُحْتٌ. وَأَيُّمَا لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ.

الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: شَمْعَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : تَعَالَوْا نَرَى النَّمُوذَجَ التَّطْبِيقِيَّ لِحِفْظِ الْمَالِ الْعَامِّ عِنْدَ أَسْلَافِنَا ، هَذَا خَامِسُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْوُلَاةِ لِيُحَدِّثَهُ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ عُمَرُ يُشْعِلُ “شَمْعَةً” مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمَّا انْتَهَى الْحَدِيثُ عَنْ شُؤُونِ الرَّعِيَّةِ، وَأَرَادَ الْوَالِي أَنْ يَسْأَلَ عُمَرَ عَنْ صِحَّتِهِ وَأَحْوَالِهِ الشَّخْصِيَّةِ، قَامَ عُمَرُ فَأَطْفَأَ الشَّمْعَةَ، وَأَشْعَلَ شَمْعَةً أُخْرَى مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ! فَتَعَجَّبَ الرَّجُلُ! فَقَالَ عُمَرُ: “تِلْكَ كَانَتْ لِلَّهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ فِي أَمْرِهِمْ. أَمَّا الْآنَ فَنَتَحَدَّثُ فِي شَأْنِي، فَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَسْتَضِيءَ بِنُورِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَدِيثِي الْخَاصِّ” شَمْعَة! خَافَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ “زَيْتِ شَمْعَةٍ” أَمَامَ اللَّهِ! فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَسْتَخْدِمُ “سَيَّارَةَ الْعَمَلِ” فِي مَشَاوِيرِهِ الْعَائِلِيَّةِ؟ أَوْ يَسْتَخْدِمُ “طَابِعَةَ الْمَصْلَحَةِ” لِأَوْرَاقِ أَوْلَادِهِ؟ أَوْ يَتْرُكُ كَهْرُبَاءَ الْمَكَاتِبِ مُضَاءَةً لَيْلًا وَنَهَارًا بِلَا دَاعٍ؟ كُلُّ هَذَا مَالٌ عَامٌّ، وَخَصْمُكَ فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ “الْأُمَّةُ” بِأَسْرِهَا.

(قِصَّةُ الْمِسْكِ وَعُقْدِ ابْنَةِ عَلِيٍّ ) وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَحْدَهُ فِي هَذَا الْبَابِ، بَلْ كَانَ لَهُ سَلَفٌ صَالِحٌ ، هَذَا سَيِّدُنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَأَى قِلَادَةً مِنْ لُؤْلُؤٍ (مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) فِي عُنُقِ ابْنَتِهِ فِي يَوْمِ عِيدٍ! فَفَزِعَ وَغَضِبَ وَقَالَ لِلْخَازِنِ: “كَيْفَ تُعْطِيهَا هَذَا؟ أَتَخُونُ الْمُسْلِمِينَ؟”. قَالَ الْخَازِنُ: “يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخَذَتْهُ عَارِيَةً مَضْمُونَةً (سَلَفٌ) لِتَتَزَيَّنَ بِهِ فِي الْعِيدِ ثُمَّ تَرُدَّهُ” ، فَقَالَ عَلِيٌّ: “رُدَّهُ فَوْرًا.. وَاللَّهِ لَوْ أَخَذَتْهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعَارِيَةِ الْمَضْمُونَةِ لَكَانَتْ أَوَّلَ هَاشِمِيَّةٍ تُقْطَعُ يَدُهَا فِي سَرِقَةٍ” ، يَا اللَّهُ! ابْنَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَسْتَعِيرُ عُقْدًا لِسَاعَاتٍ وَتَرُدُّهُ، وَمَعَ ذَلِكَ يَرْتَعِدُ عَلِيٌّ خَوْفًا مِنْ مَالِ اللَّهِ!

وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا أَنَّهُ جِيءَ لَهُ بِمِسْكٍ (عِطْرٍ) لِبَيْتِ الْمَالِ، فَأَمْسَكَ عَلَى أَنْفِهِ حَتَّى لَا يَشُمَّ رَائِحَتَهُ! فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا هِيَ رَائِحَةٌ! فَقَالَ: “وَهَلْ يُنْتَفَعُ بِالْمِسْكِ إِلَّا بِرِيحِهِ؟” ، خَافَ أَنْ يَشُمَّ رَائِحَةً لَيْسَتْ مِنْ حَقِّهِ فَيُحَاسَبَ عَلَيْهَا.. فَمَاذَا نَقُولُ لِرَبِّنَا نَحْنُ فِي السَّيَّارَاتِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالْمُهِمَّاتِ الَّتِي نَسْتَبِيحُهَا لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِينَا؟!

الْعُنْصُرُ الرَّابِعُ:
ضِمْنَ مُبَادَرَةِ (صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ): هُنَاكَ مَفْهُومٌ خَطِيرٌ وَشَائِعٌ بَيْنَ النَّاسِ: “الْمَالُ السَّايِبُ يُعَلِّمُ السَّرِقَةَ”، بِمَعْنَى أَنَّ مَالَ الْحُكُومَةِ مُبَاحٌ!

صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ:

 * الْمَالُ الْعَامُّ لَيْسَ “مَالًا سَائِبًا” وَلَا “مَالَ حُكُومَةٍ” فَقَطْ: إِنَّهُ مَالُكَ أَنْتَ! الْمَدْرَسَةُ، وَالْمُسْتَشْفَى، وَعَمُودُ الْإِنَارَةِ، وَالْمِتْرُو.. هَذِهِ أَمْوَالُ دُفِعَتْ مِنْ خَيْرَاتِ هَذَا الْبَلَدِ لِخِدْمَتِكَ. فَمَنْ يُخَرِّبُهَا أَوْ يَسْرِقُهَا، فَإِنَّمَا يَسْرِقُ مِنْ جَيْبِهِ وَجَيْبِ أَوْلَادِهِ.

 * الْإِهْمَالُ كَالسَّرِقَةِ: الْمُوَظَّفُ الَّذِي يَتَأَخَّرُ عَنْ عَمَلِهِ وَيُعَطِّلُ مَصَالِحَ النَّاسِ وَيَقْبِضُ رَاتِبًا كَامِلًا، هُوَ آكِلٌ لِلْمَالِ الْعَامِّ بِالْبَاطِلِ.

 * سَرِقَةُ الْخِدْمَاتِ: الَّذِي يَقُومُ بِتَوْصِيلِ الْكَهْرُبَاءِ “خِلْسَةً” لِيَتَهَرَّبَ مِنَ الْعَدَّادِ، هُوَ سَارِقٌ خَائِنٌ لِلْأَمَانَةِ، وَلَيْسَ “فَهْلَوِيًّا” كَمَا يَظُنُّ الْبَعْضُ.

(خُدْعَةُ “الْكُلُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ” + جَرِيمَةُ التَّسْهِيلِ)  وَمِنَ الْمَفَاهِيمِ الْمَغْلُوطَةِ أَيْضًا الَّتِي نَحْتَاجُ إِلَى تَصْحِيحِهَا ضِمْنَ مُبَادَرَتِنَا: مَفْهُومُ: “مَا هِيَ خَرْبَانَة خَرْبَانَة.. هِيَ وَقَفَتْ عَلَيَّ؟!”

 * تَصْحِيحُ الْمَفْهُومِ: نَعَمْ، تَقِفُ عَلَيْكَ! لَا تَكُنْ إِمَّعَةً تَقُولُ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْتُ وَإِنْ أَسَاؤُوا أَسَأْتُ. إِذَا سَرَقَ الْجَمِيعُ وَكُنْتَ أَنْتَ الْأَمِينَ الْوَحِيدَ، فَأَنْتَ النَّاجِي الْوَحِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. اللَّهُ لَنْ يَسْأَلَكَ عَنْ فُلَانٍ وَعَلَّانٍ، بَلْ سَيَقُولُ لَكَ: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾.

مَفْهُومُ: “أَنَا لَمْ أَسْرِقْ، أَنَا فَقَطْ وَقَّعْتُ عَلَى الْوَرَقَةِ!” (جَرِيمَةُ التَّسْهِيلِ):

 * تَصْحِيحُ الْمَفْهُومِ: بَعْضُ الْمُوَظَّفِينَ لَا يَسْرِقُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، لَكِنَّهُمْ “يُجَامِلُونَ” الْمُدِيرَ، أَوْ “يُسَهِّلُونَ” لِلْمُقَاوِلِ بِالتَّوْقِيعِ عَلَى اسْتِلَامِ أَعْمَالٍ غَيْرِ مُطَابِقَةٍ لِلْمُوَاصَفَاتِ (طَرِيقٌ مَغْشُوشٌ، مَبْنًى آيِلٌ لِلسُّقُوطِ).

 * يَا سَادَةُ، “كَاتِبُ الرِّبَا وَشَاهِدَاهُ” فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ مَعَ آكِلِهِ، وَكَذَلِكَ “الْمُسَهِّلُ لِلسَّرِقَةِ وَالسَّاكِتُ عَنْهَا” شَرِيكٌ فِيهَا. طَرِيقٌ فَاسِدٌ وَقَّعْتَ عَلَى اسْتِلَامِهِ، كُلُّ حَادِثَةٍ تَقَعُ عَلَيْهِ فِي صَحِيفَتِكَ، وَكُلُّ رُوحٍ تَزْهَقُ عَلَيْهِ أَنْتَ مَسْؤُولٌ عَنْهَا.

مَفْهُومُ: “الْمِرْفَقُ الْعَامُّ لَيْسَ لَهُ صَاحِبٌ”:

 * تَصْحِيحُ الْمَفْهُومِ: مَنْ يُخَرِّبُ مَقَاعِدَ الْقِطَارَاتِ، أَوْ يَكْتُبُ عَلَى جُدْرَانِ الْمَدَارِسِ، أَوْ يُمَزِّقُ أَعْمِدَةَ الْمُوَاصَلَاتِ، هَذَا مُجْرِمٌ فِي حَقِّ الْمُجْتَمَعِ. هَذِهِ الْأَشْيَاءُ “وَقْفٌ” لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِفْسَادُ الْوَقْفِ كَأَكْلِهِ. الْمُتَحَضِّرُ هُوَ مَنْ يَتَعَامَلُ مَعَ الشَّارِعِ كَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ بَيْتِهِ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: التَّفَكُّكُ الْأُسَرِيُّ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ : مَوْضُوعُنَا فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ خَطَرٍ يُهَدِّدُ الْبُيُوتَ، أَلَا وَهُوَ “التَّفَكُّكُ الْأُسَرِيُّ” ، الْبُيُوتُ الَّتِي كَانَتْ سَكَنًا وَمَوَدَّةً، أَصْبَحَتْ الْيَوْمَ جُزُرًا مُنْعَزِلَةً! الْأَبُ فِي عَالَمِهِ، وَالْأُمُّ فِي انْشِغَالِهَا، وَالْأَبْنَاءُ غَارِقُونَ فِي شَاشَاتِ الْهَوَاتِفِ. جَسَدٌ بِلَا رُوحٍ، وَجُدْرَانٌ بِلَا دِفْءٍ.

أَسْبَابُ هَذَا التَّفَكُّكِ:

 * غِيَابُ الدِّينِ وَالْخُلُقِ: حِينَ غَابَتْ “الْمَوَدَّةُ وَالرَّحْمَةُ”، حَلَّتِ “الْأَنَانِيَّةُ وَالنِّدِّيَّةُ”.

 * وَسَائِلُ التَّوَاصُلِ: الَّتِي قَرَّبَتِ الْبَعِيدَ لَكِنَّهَا أَبْعَدَتِ الْقَرِيبَ!

 * إِفْشَاءُ الْأَسْرَارِ: الْبُيُوتُ أَصْبَحَتْ مَكْشُوفَةً عَلَى السُّوشْيَالْ مِيدْيَا، فَذَهَبَتِ الْبَرَكَةُ.

(الْيُتْمُ الْمُقَنَّعُ + سُمُّ الْمُقَارَنَاتِ) وَاسْمَحُوا لِي أَنْ أُضِيفَ سَبَبًا خَطِيرًا مِنْ أَسْبَابِ خَرَابِ الْبُيُوتِ الْيَوْمَ:

أَوَّلًا: سُمُّ الْمُقَارَنَاتِ (عَدُوُّ الرِّضَا): الزَّوْجُ يَنْظُرُ إِلَى النِّسَاءِ فِي الْهَوَاتِفِ وَيُقَارِنُ زَوْجَتَهُ بِهِنَّ، وَالزَّوْجَةُ تَنْظُرُ إِلَى حَيَاةِ الْمَشَاهِيرِ (الْمُزَيَّفَةِ) وَتُقَارِنُ عِيشَتَهَا بِهِمْ ، هَذِهِ الْمُقَارَنَةُ تَقْتُلُ الرِّضَا، وَتَجْعَلُ الرَّجُلَ يَرَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ نَقْمَةً، وَالْمَرْأَةَ تَرَى زَوْجَهَا بَخِيلًا أَوْ مُقَصِّرًا.

يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا تَرَاهُ عَلَى الشَّاشَاتِ “لَحْظَةٌ” وَمَا تَعِيشُهُ هُوَ “الْحَقِيقَةُ”. اغْضُضْ بَصَرَكَ لِيَمْتَلِئَ بَيْتُكَ بِالرِّضَا، فَإِنَّ “الْعَيْنَ لَا يَمْلَأُهَا إِلَّا التُّرَابُ”.

ثَانِيًا: الْيُتْمُ الْمُقَنَّعُ (الْخَرَسُ الزَّوْجِيُّ): أَخْطَرُ أَنْوَاعِ التَّفَكُّكِ لَيْسَ الطَّلَاقَ، بَلْ هُوَ “الطَّلَاقُ الْعَاطِفِيُّ”. الْأَبُ وَالْأُمُّ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ لَكِنْ بَيْنَهُمَا “صَمْتٌ قَاتِلٌ”. كُلُّ وَاحِدٍ فِي غُرْفَةٍ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ هَاتِفِهِ.

وَالضَّحِيَّةُ هُمُ الْأَوْلَادُ. يَقُولُ الشَّاعِرُ:

لَيْسَ الْيَتِيمُ مَنِ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ … هَمِّ الْحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلَا

إِنَّ الْيَتِيمَ هُوَ الَّذِي تَلْقَى لَهُ … أُمًّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولَا

الْأَوْلَادُ لَا يُرِيدُونَ مَالَكُمْ فَقَطْ، يُرِيدُونَ “آذَانَكُمْ”، يُرِيدُونَ “احْتِوَاءَكُمْ”. اجْلِسُوا مَعَهُمْ، كُلُوا مَعَهُمْ، أَغْلِقُوا الْهَوَاتِفَ سَاعَةً فِي الْيَوْمِ، وَأَحْيُوا “جَلْسَةَ السَّمَرِ” الَّتِي كَانَتْ تَجْمَعُ الْبُيُوتَ قَدِيمًا.

الْحَلُّ الْعَمَلِيُّ: “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ” لَا تَبْحَثْ عَنِ السَّعَادَةِ فِي الْخَارِجِ وَبَيْتُكَ يَحْتَرِقُ. ابْدَأْ بِنَفْسِكَ: ادْخُلِ الْبَيْتَ بِابْتِسَامَةٍ لَا بِتَكْشِيرَةٍ، تَجَاوَزْ عَنِ الْخَطَأِ الصَّغِيرِ، لَا تُدْخِلُوا أَهْلَكُمْ فِي مَشَاكِلِكُمْ، فَإِنَّ تَدَخُّلَ الْأَهْلِ غَالِبًا يُوَسِّعُ الْخَرْقَ بَدَلًا مِنْ أَنْ يَرْبَأَهُ ، الْعِلَاجُ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ: قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ، الْمَعْرُوفُ هُوَ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، وَالتَّغَافُلُ عَنِ الزَّلَّاتِ، وَالْجُلُوسُ مَعَ الْأَبْنَاءِ لِسَمَاعِهِمْ لَا لِمُحَاكَمَتِهِمْ ، حَافِظُوا عَلَى بُيُوتِكُمْ، فَهِيَ حِصْنُ الْمُجْتَمَعِ الْأَخِيرُ، إِذَا سَقَطَ الْبَيْتُ، سَقَطَ الْمُجْتَمَعُ كُلُّهُ.

الدُّعَاءُ…
اللَّهُمَّ اكْفِنَا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَبِطَاعَتِكَ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ.

اللَّهُمَّ طَهِّرْ أَمْوَالَنَا مِنَ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، اللَّهُمَّ احْفَظْ بُيُوتَنَا مِنَ التَّفَكُّكِ وَالْخَرَابِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَبْنَاءِ ، اللَّهُمَّ مَنْ أُرِيدَ بِمِصْرَ خَيْرًا فَوَفِّقْهُ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَمَنْ أَرَادَ بِهَا سُوءًا فَاجْعَلْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ ، عِبَادَ اللَّهِ، قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ