اليوم العالمي للغة العربية


بقلم الأستاذ الدكتور: نعيم شرف

العميد السابق لكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر الشريف

في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام يحتفل المسلمون والعرب باليوم العالمي للغة العربية، وهو اليوم الذي اعتمدت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة اللغة العربية كلغة رسمية سادسة، وذلك في عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين، وهو العام الذي انتصرنا فيه على العدو الإسرائيلي، وفي احتفالنا باليوم العالمي للغة العربية، نقول إن القرآن الكريم هو أساس فصاحتها وسرُّ بلاغتها، ومنبع جمالها، وحِصْنُها المنيع؛ ولهذا ظلت اللغة العربية صاعدة، لا تهزها العواصف، ولا تغيرها الحوادث، رغم محاولة بعض المستشرقين والعرب استبدال الفصحى بالعامية واللهجات المحلية، وأرجعوا سبب تخلف العرب، وضعف الاختراعات، إلى تمسكهم بالعربية الفصحى، وعلى رأس هؤلاء المستشرق الألماني كارل فولرس، والمستشرق الإنجليزي وليم ولكوكس، ومن العرب إسكندر معلوف، وأحمد لطفي السيد، ولويس عوض، وسلامة موسى.. وغيرهم.

ولكن باءت جميع محاولاتهم بالفشل الذريع؛ لأن العربية الفصحى مستمدة من لغة القرآن الكريم، ذلكم النموذج الفريد، المعجز فى صوته، ولفظه، ونظمه، حتى بهر العقول، وسلب القلوب، بحيث لم يعد فى طاقة أحد، الإحاطة بأغراض الله تعالى، وبأسرار فصاحته، ومواطن بلاغته؛ ولذلك كان نزول القرآن الكريم باللغة العربية شرفا كبيرا للعرب، والمسلمين، شرفا نالوا به مكانة مرموقة بين سائر البشر، عقب نزول القرآن، حتى غدت لغتنا العربية تتألق، وتتباهى على غيرها من اللغات..

ولقد نزل القرآن الكريم في أزهى عصور اللغة العربية، وأرقى أدوار تهذيبها، ولم تخرج لغة القرآن الكريم، ومفرداته عن الألفاظ العربية، لكنها اختلفت، سواء من حيث الصياغة الموضوعية للنظريات العلمية، أو الصياغة الأدبية البيانية، الغنية بالصور الفنية، واختلفت أيضا في طريقة التركيب الصوتي، والصرفي، والدلالي، واختيار الألفاظ المناسبة للسياق اللغوي، والمقامي، وجميل السبك، وروعة التأليف بين المفردات؛ ولذلك فإن القرآن الكريم معجز في أسلوبه، وألفاظه، ودلالاته، وتشريعاته، وأحكامه، ومواعظه، وآدابه، وقَصصه، وعِبَرِه.. وبالجملة فإن لغة القرآن الكريم تمثل قمة الفصاحة، والبلاغة العربية؛ ولذلك حفظت للغة العربية قواعدها وبلاغتها، وتحدى القرآن الكريم بها المعارضين، أو المتشككين من الإنس، والجن، وجميع الخلائق إلى أن تقوم الساعة، بأن يأتوا بمثله، أو حتى بأصغر سورة منه، قال جَلَّ في عُلاه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ وقال جَلَّ جلاله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ صدق الله العظيم.

ثم إن العربية انفردت عن غيرها من اللغات بمميزات شتى يضيق المقام عن حصرها؛ فمن خصائصها الإعراب، والاشتقاق، والتعريب، والعروض الذى هو ميزان الشعر، والعربية هى التى تتحقق فيها التوازنات الصوتية بين الحروف، والحركات، وبين المخارج، والصفات، وتحافظ على الإيقاع المقطعي، والتنغيم، وتحقق الهدف الدلالى الذى يبروز الحدث، ويصور المعنى .. وإضافة إلى ما سبق فإن اللغة العربية هى لغة العلم والفكر والدين والأدب والتراث، ولسان الشرائع والأحكام، هي لغة الجمال والإبداع والحضارة الإنسانية التي تعكس أصالة الماضي وواقعية الحاضر وآمال المستقبل وطموحاته.

ولم لا وهي أقدم اللغات على وجه الأرض، وهي لغة الوحي، ولغة أهل الجنة، وستظل ببركة القرآن الكريم ثَرِيَّة لا ينضب معينها، وبحرا لا يجفُّ مداده؛ إذ تتمتع بكامل خصائصها من ألفاظ، وتراكيب، ونحو، وصرف، وأدب، وبلاغة..

ولقد نزل القرآن الكريم في أزهى عصور اللغة العربية، وأرقى أدوار تهذيبها، ولم تخرج لغة القرآن الكريم، ومفرداته عن الألفاظ العربية، لكنها اختلفت، سواء من حيث الصياغة الموضوعية للنظريات العلمية، أو الصياغة الأدبية البيانية، الغنية بالصور الفنية، واختلفت أيضا في طريقة التركيب الصوتي، والصرفي، والدلالي، واختيار الألفاظ المناسبة للسياق اللغوي، والمقامي، وجميل السبك، وروعة التأليف بين المفردات؛ ولذلك فإن القرآن الكريم له صفة إعجازية من حيث المحتوى وأيضا من حيث الشكل، فهو معجز في أسلوبه، وألفاظه، ودلالاته، وتشريعاته، وأحكامه، وإخباره عن الغيبيات، ومواعظه، وآدابه، وقَصصه، وعِبَرِه، وإعجازه العلمي، قال الله جل في علاه: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} صدق الله العظيم.

ورغم نزول القرآن الكريم باللسان العربي، إلا أن لحروفه، وحركاته، وكلماته، وتراكيبه سمات خاصة، وأسرارا عميقة، سمت به فوق كلام العرب، ومهما بلغ الباحثون، وأرباب العربية من مهارات لغوية، ومحصول معرفي، وخبرة في الدراسات الصرفية والنحوية والدلالية والصوتية، فسيظل التعبير القرآني هو المعجزة الخالدة، التي بهرت العلماء، بله المتخصصين في شتى العلوم، ومختلف المعارف على مَرِّ العصور، وكَرِّ الدهور.

إن اللفظ في القرآن الكريم يرتبط ارتباطا لغويا، أو غير لغوي بما قبله، أو بما بعده، أو بهما معا، فاللفظ لبنة من لبنات التركيب، وجزء منه، واختيار اللفظ المناسب يمنح النص إحكاما وتماسكا؛ ولذلك فإن للنص القرآني خصوصية بارزة في وحدة الموضوع، وتناغم التعبير، وتصاعد الأحداث، ودقة التصوير، وتسلسل التراكيب، وتعلق بعضها ببعض، وتعميق المقاصد الدلالية، وتلاحم أفكاره المنظمة المتآلفة، وحبك صياغته المنسجمة، ومن المعلوم أن الكلمة دائمة التعرض للنقل من تركيب إلى آخر، وهي في كل مرة تحمل في ثناياها ظلالا خاصة، وبُعْدا دلاليا ينبثق من مضمون السياق الذي وضعت فيه؛ لأن السياق هو الذي يستلهم معنى المفردة، ويحدد آفاق المعنى، من خلال الموقف، والحالة النفسية والاجتماعية، والظروف المحيطة بالأداء.. وما إلى ذلك.

ولذلك كان السياق هو العنصر الحاسم، والمرجعية الأولى في الكشف عن دلالة اللفظ، وفهم معنى الكلام، ومع هذا كله فإن القرآن الكريم هو منبع الهداية والصلاح، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} صدق الله العظيم.

ومن المعلوم أن القرآن الكريم هو الشيء الوحيد في الكون الذي ظل ثابتا على حاله في الدنيا، وسيظل دون أي تغيير أو تحريف أو زيادة أو نقصان إلى آخر الزمان، يوم أن يرث الله تعالى الأرض، ومن عليها.

لذلك أهيب بكم أن تعَمِّروا بيوتكم بتلاوة القرآن الكريم؛ لتطمئن قلوبكم، وتتجدد طاقاتكم، وتصفو أذهانكم، وتقوى ذاكرتكم، ومناعاتكم، ويكثر خيركم، وتزداد البركة، وتَحْضُرُ الملائكة بيوتكم، وتَهْجُرُها الشياطين، أما من داوم على قراءة القرآن، فقد عَلَتْ درجته في الجنة، واستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، وكما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يقالُ لصاحبِ القرآنِ: اقرأْ وارتقِ، ورتِّلْ، كما كنتَ تُرَتِّلُ في الدنيا، فإنَّ منزلَكَ عند آخرِ آيةٍ تقرؤُها».

وحَفِّظوا أولادكم القرآن الكريم في سِنٍّ مبكرة، من عمر ثلاث سنوات؛ لأن الاستيعاب في هذه المرحلة العمرية يكون أسرع، وأثبت للحفظ، ومعلوم أن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، وحفظ القرآن الكريم شَرَفٌ في الدنيا، وفَوْزٌ في الآخرة، وإن أشرف شيء، وأعلاه، وأنفسه، وأغلاه هو كلام الله جلَّ في عُلاه؛ ففيه الهداية، والإرشاد، والتهذيب، والإصلاح، وفيه الخير، كل الخير لمن حفظه، وفهمه، وتدبره، وعمل به؛ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالقرآن الكريم هو ينبوع السعادة في الدنيا والآخرة، لكن لمن آمن به، وعمل بمقتضى ما ورد فيه، واستفاد من هدْيه وآدابه، ووقف عند أوامره ومراضيه، وبَعُدَ عن مساخطه ونواهيه، وتفكر فيما اشتملت عليه آياته من أحكام، وآداب، وتوجيهات.

والقرآن الكريم فيه خير كثير، وعلم غزير، مباركٌ في أثره، ومباركٌ في تأثيره، ومبارك بكل أنواع البركة، هو هداية للقلوب، وشفاء للصدور، وذهاب للهموم، وإصلاح للنفوس، وتهذيب للعقول، وطمأنينة للنفس والروح، هو كما قال جل في عُلاه: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلْأَلْبَٰبِ} صدق الله العظيم.

وغير خاف على أحد الدور الكبير الذي يقوم به الأزهر الشريف فى الحفاظ على اللغة العربية، وانتشارها فى العالم الإسلامي، فهو الجامع، والجامعة منذ أكثر من ألف عام، وهو كعبة العلم، والمركز الذى علَّم العربية، والعلوم الشرعية، وسرت منه أنوار العلم، والمعرفة، فى مشارق الأرض، ومغاربها، وأمَدَّ الأمة بأكابر الأئمة، والعلماء عبر كرِّ الدهور، ومَرِّ الأزمان.

وأهيب بمن مَنَّ الله عليه بأن فطره على لغة القرآن الكريم ألا يتحدث بالإنجليزية، ويتباهي بها في الحوار، ويتواصل عن طريقها مع الأقران، وأحذر من كتابتها على اللافتات، والملصقات، والكراسات، واللوحات الإعلانية، والماركات المحلية، وكأنها صارت نمط الحياة..

إن كل هذا لن يستطع إقصاء لغتنا العربية، أو إضعافها؛ لأنها لغة غنية بألفاظها، متصرفة في جذورها، لغة الفصاحة، والبيان، والإيجاز، والإعراب، والمترادفات، والاشتقاق.. ثم إن لها قداسة مستمدة من ارتباطها بالقرآن الكريم، كتاب الله تعالى المعجز.

وإن العربي الذي يتغزل في لغة غير لغته، ويفضل لغة الغرب، وحضارته على اللغة العربية، وعلومها، وآدابها، لا ريب سيفقد فكره، ولسانه، وهويته، وانتماءه، ولقد حاول قبلا المستشرقون، والمستغربون، غزاة العقول ومعاول الهدم، دعاة التغريب، ومزاعم التجديد، وإحلال اللاتينية، واليونانية محل العربية لمهاجمة كتاب الله عز وجل.. لكنهم فشلوا فشلا ذريعا؛ لأنهم أهل الزيغ، أبناء الضلال، وحسب العربية فخرا أنها لغة القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} صدق الله العظيم، فما أجمل الاستماع إلى القرآن، وترك ما سواه؛ لأن البقاء للكلام الذي لا تبليه الأيام، ولا تغيّر من قدره الأصوات العارضة، والله من وراء القصد والنية.