خطبة بعنوان “التطرف ليس في التدين فقط ” للدكتـور : محمـد حسن داود
إمام وخطــيب ومدرس – دكتوراة في الفقه المقارن
(21 جمادى الآخرة 1447هـ – 12 ديسمبر 2025)
العناصـــــر :
الإسلام دين الوسطية والاعتدال. الإسلام يحذر من التعصب. التعصب الرياضي وعواقبه الوخيمة. دعوة الإسلام إلى التحلي بالروح الرياضية.
الموضــــــوع:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فإن الإسلام دين الوسطية والاعتدال، قال تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة: 143)، ولقد قيل للحسين بن الفضل: إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله “خير الأمور أوساطها”؟ قال: نعم في أربعة مواضع: قوله تعالى: (لَا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) (البقرة: ٦٨)، وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: ٦٧)، وقوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء: ٢٩)، وقوله تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: ١١٠).
فلا يقر الإسلام التعصب ولا التشدد ولا الغلو، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ): “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ” (رواه البخاري)، وعن جبير بن مطعم، أن رسول الله (صَلى الله عليه وسلم)، قال: “لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ” (رواه أبو داود).
وليس التطرف والتعصب والغلو ظاهرةً مرتبطة بالدين وحده، بل هو سلوك إنساني قد يظهر في أي مجال يمارس فيه الإنسان قناعته، ومن يتأمل الواقع يدرك أن أنماط التطرّف تتشابه في جذورها، مهما اختلفت مظاهرها؛ ومن ذلك التعصب الرياضي، حيث يتحول التنافس الرياضي الشريف إلى خصومة أو التشجيع الطبيعي إلى حالة ينقسم فيها الناس إلى أطراف متباعدة، ويتجاوز الأمر مجرد متابعة مباراة إلى خصومات، ومشادات، وإساءة، وشحناء لا مبرر لها، ولا شك أن في هذا نموذجا واضحا لكيف يمكن للتطرف أن يتلبس بأي مجال إذا غابت الحكمة، وفقد الإنسان القدرة على ضبط عواطفه ومشاعره وانفعالاته، وما أعظم قول سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ): ” ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يملِكُ نفسَه عندَ الغَضبِ”.
فممارسة الرياضة من الأمور المباحة شرعًا ما دامت منضبطة بضوابطها المشروعة، ولم تنحرف عن الغاية التي وضعت لها، مثلها في ذلك مثل “الرمي” الذى شجع عليه النبي (صلى الله عليه وسلمَ)؛ فعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ (رضي الله عنه)، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلاَنٍ” قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ”، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟، قَالَ: “ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ”(رواه البخاري).
كما أنها وسيلة لتنمية العقول وصقل مهارات التفكير، وحفظ قوة الجسد وسلامته، وهي كذلك من وسائل الترويح المباح الذي يزيل عن النفوس أسباب الملل، ويعيد إليها نشاطها وعزمها.
من جانب آخر فإن الإسلام دين يحرص على اجتماع القلوب، يحرص على الألفة والمودة والمحبة، إذ يقول سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “والَّذي نفسي بيدِه لا تدخلوا الجنَّةَ حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، أولا أدلُّكم علَى شيءٍ إذا فعلتُموهُ تحاببتُم أفشوا السَّلامَ بينَكم”.
كما يحذر من الاختلاف والفرقة، قال تعالى: (وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (الأنفال: 46)، كما يحذر من الوقوع في شباكها والتي منها التعصب الرياضي، فعَنْ جَابِرٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: “إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ”. فللشيطان مدخلان على المسلم ينفذ منهما لإغوائه، فإذا كان من أهل المعاصي والفسوق زين له هذه الشهوات وأوقعه في حبائلها، ليبقى بعيداً عن طريق الحق والهدى. وإذا كان العبد من أهل العبادة والصلاح زين له الغلو والإفراط ليفسد عليه دينه ويخرجه من وسطية الإسلام وسماحته.
وقد حدث في عهد النبي (صلى الله عليه وسلمَ) من المواقف والنماذج لمثل هذا التعصب الذي نراه من البعض فنهى عن ذلك؛ فعن جَابِر بن عبد اللَّه (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) قال: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: “مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: “دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ” (رواه البخاري ومسلم).
إذن فالتعصب الرياضي مذموم شرعا وعرفا لما ينتجه من آثار مذمومة وعواقب وخيمة؛ فهو باب إلى الفرقة والاختلاف، يحمل على التنابز بالألقاب والتراشق بالسباب والسخرية، بل ربما وصل التعصب الرياضي بأصحابه إلى حد الفرقة بين الزوجين، والتقاطع بين الصديقين، والهجر بين الأخين، أو ربما وصل إلى الاعتداء بين هذا وذاك. والمؤمن كما جاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود (رضي الله عنه)، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ” (رواه الترمذي).
فالتعصب الرياضي يوقع في شباك الغضب: ولقد جاء عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَغْضَبْ قَالَ الرَّجُلُ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَا قَالَ ، فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ”.
يفتح أبواب الجدال والمراء، والنبي (صلى الله عليه وسلمَ) يقول: “أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا”. ويقول سيدنا عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): “المراءُ لا تُعقلُ حكمتُه، ولا تُؤمنُ فتنتُه”.
يوقع في الغيبة، والله تعالى يقول: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) (الحجرات: 12).
يفضي إلى التنمر والسخرية، والله (عز وجل) يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (الحجرات: 11)، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلمَ) قال: “لا تحاسَدُوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغَضُوا ولا تدابَرُوا، ولا يبِعْ بعضُكمْ على بيعِ بعضٍ، وكُونُوا عبادَ اللهِ إخوانًا، المسلِمُ أخُو المسلِمِ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ، ولا يَحقِرُهُ، التَّقْوى ههُنا – وأشارَ إلى صدْرِهِ – بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلِمَ، كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ، دمُهُ، ومالُهُ، وعِرضُهُ”.
إن الرياضة ليست للاختلاف والتعصب والتغالب بالألفاظ، وإنما في الرياضة مظهرا لحسن الأخلاق وجمال السلوك، فالخلق الرياضي القويم، يتقبل الهزيمة كتقبل الفوز، ويعترف لغيره بالتفوق، كما يعترف لنفسه، فلا يغمطه حقه، كما علمنا الإسلام وهو ما يسمي بالروح الرياضية.
ولقد ضرب لنا سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ) أروع الأمثلة التي نأخذ منها أعظم الدروس والعبر في هذا الشأن، فعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رضي الله عنها) قَالَتْ خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلْ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: “تَقَدَّمُوا فَتَقَدَّمُوا”، ثُمَّ قَالَ لِي: “تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ” فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ” فَقَالَ لِلنَّاسِ: “تَقَدَّمُوا فَتَقَدَّمُوا” ثُمَّ قَالَ: “تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ” فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ “هَذِهِ بِتِلْكَ”.
وعَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه)، قال: كانَ للنبيِّ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) ناقَةٌ تُسَمَّى العَضْباءَ، لا تُسْبَقُ – قالَ حُمَيْدٌ: أوْ لا تَكادُ تُسْبَقُ – فَجاءَ أعْرابِيٌّ علَى قَعُودٍ فَسَبَقَها، فَشَقَّ ذلكَ علَى المُسْلِمِينَ حتَّى عَرَفَهُ، فقالَ: “حَقٌّ علَى اللَّهِ أنْ لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِنَ الدُّنْيا إلَّا وضَعَهُ” (رواه البخاري).
إن من المحزن أن يتحول جمال الرياضة إلى أن يكون سوقا كبيرا تروَج فيها بضاعة التعصب، وما ينتج عن ذلك من ازدياد البغضاء والشحناء، ونشر العداوة بين الأصدقاء، والأقارب، وزملاء المهنة، ومن ثم فالواجب علينا أن نعلم أن من مقاصد الرياضة تنمية الجسد، وتربية الروح على الانضباط، والترويحُ عن النفس، فلا يصح منا أن نجعلها ألما للنفس وتعكيرا لصفوها، واضطرابا لهدوئها، أو انتشارا للأحقاد والضغائن بين النفوس.
كما يجب علينا احترام المنافس، فقد جعلت الشريعة الإسلامية العدل والاحترام ركيزتين في التعامل حتى مع الخصوم، فكيف بالمنافسة الرياضية، قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا) (المائدة: ٨)، (أي: لا يحملكم بغض أو منافسة على تجاوز الحقّ).
كما يجدر بنا صون اللسان، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ): “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ” (رواه البخاري).
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، واصرف عنا سيئها، واحفظ مصر من كل مكروه وسوء، واجعلها اللهم أمنا أمانا سخاء رخاء يا رب العالمين