بقلم فضيلة الشيخ/ احمد عزت حسن الباحث فى الشئون الاسلامية
كانت الهجرة النبوية ارتقاء بيثرب، التي بوركت بوصول الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، فصارت المدينة المنورة، وتتابعت الأحداث لبناء المجتمع الجديد بها، ولذا سنورد بإيجاز أهم الدعائم التى شرع الرسول صلى الله عليه وسلم في تكوينها، اعتمادا على جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار، الذين يحملون في قلوبهم آيات القرآن الكريم التي تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم على مسامعهم، إضافة إلى أحاديثه الشريفة، التي يتسابقون إلى حفظها للعمل بها وتبليغها بالحكمة والموعظة الحسنة.
ترك الرسول صلى الله عليه وسلم مع ركبه الميمون غار ثور، متجهًا صوب المدينة، وكان الناس على علم بقدومه، ولذا خرجوا ينتظرونه في الموعد المتوقع للوصول، إلى أن كان على مشارف المدينة، فكانت الأناشيد المرحبة بحضوره، إلى أن حلّ بقباء، ونزل في ديار بني عمرو بن عوف، وخلال الإقامة بها استطاع أن ينشيء أول مسجد في الإسلام، والذي عرف بمسجد التقوى، وجاء فيه قوله تعالى: “لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ” التوبة: 108.
وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عدة أيام في قباء، متجها إلى قلب يثرب، وكان موكبه كبيرًا وتحركه بطيئًا، فأدركته صلاة الجمعة في ديار بني سالم بن عوف، وخطب في الناس للجمعة أول خطبة لها في الإسلام، في مكان للصلاة أقيم عليه مسجد (صغير) بحضن الوادي، ووصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ونزل بدار أبي أيوب (خالد بن زيد) الأنصاري، واشترى أرضًا أقام عليها المسجد (الأعظم) الذي صار المكان الأول للصلاة وإدارة شؤون المسلمين.
في المدينة المنورة استُقبل الرسول صلى الله عليه وسلم من الأنصار استقبالاً كبيراً جدًا ومشرفاً مرة أخرى، بعد أسبوعين من انتقاله من قباء، وتسابق الأنصار جميعاً بشتى قبائلهم على استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان كل واحد من الأنصار يريد أن تأتي ناقته صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فكل فرد من الأنصار يريد أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم عنده، لكن الرسول قال كلمة أصبحت منهجاً لحياة الصحابة بعد ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها مأمورة). أي: دعوا الناقة فإنها مأمورة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وأنا أيضًا مأمور، والمؤمنون جميعًا مأمورون: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا” الأحزاب:٣٦ .
فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يختار إذا كان الله هو الذي يختار له أمرًا من الأمور، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قد أجلس في بيت فلان أو بيت فلان، أو بيت أقربائي من بني النجار، أو بيت صحابي كبير، أو أحد ممن أحبهم، لكن إذا أمر الله عز وجل فلا مجال للهوى ولا مجال للاختيار، فالذي يأمر الناقة هو رب العالمين سبحانه وتعالى، وعلينا جميعاً أن نسمع ونطيع؛ هكذا علمهم بوضوح، وكان من الممكن أن ينزل الوحي ليقول للرسول عليه الصلاة والسلام: انزل في بيت فلان، أو ضع المسجد في هذا المكان الفلاني، لكن هذا المشهد العلني أمام الجميع، والجميع يتسابق لاستقباله صلى الله عليه وسلم ، وهو يخرج نفسه تمامًا من الاختيار ويجعل الاختيار الكامل لرب العالمين، هذا المشهد زرع معنى مهماً جدًا، سيظل معنا طول فترة المدينة المنورة، وما أكثر التشريعات والأحكام التي نزلت في المدينة المنورة، وقد لا يفقهها عامة الناس، وقد لا يدركون الحكمة من وراء الأمر، ومع ذلك عليهم أن يسمعوا ويطيعوا لله رب العالمين، وبركت الناقة في مكان معين في المدينة المنورة، وفي هذا المكان قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبني المسجد النبوي.
فأول شيء فعله صلى الله عليه وسلم في قباء هو بناء المسجد، وأول شيء فعله في المدينة المنورة بناء المسجد النبوي، وفعله هذا ليس مصادفة أو إشارة عابرة، بل هو منهج أصيل. فلا قيام لأمة إسلامية بغير تفعيل لدور المسجد؛ فالمساجد في هذا الوقت كثيرة، لكن كثيراً منها غير مُفعّل كمسجد، مخطئ من ظن أن المسجد لم ينشأ إلا لأداء الصلوات الخمس فقط، بل في بعض الدول الإسلامية يُقفل المسجد مباشرة بعد الصلاة، وكأن دوره الوحيد هو الصلاة فقط.