الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس: إشعاعٌ فكريٌّ متعدِّدُ الأبعاد في خدمة الأمة وقضاياها


بقلم: الأستاذ الدكتور : بكر إسماعيل الكوسوفي

السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية

الملخص:
تتناول هذه الدراسة شخصية الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس بوصفه أحد أبرز المفكرين الموسوعيين في العالم الإسلامي المعاصر، من خلال تحليل إسهاماته في مجالات التاريخ والحضارة والفكر الإسلامي، وتقييم دوره في مناصرة القضايا العادلة، خاصة قضية كوسوفا. وتبرز الدراسة طبيعة العلاقة الفكرية والإنسانية التي ربطته بالأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي، وتكشف عن عمق التعاون الذي جمعهما في الدفاع عن قضايا المسلمين في البلقان. كما تعرض الدراسة نموذج المثقف العضوي في فكر الدكتور عويس وأسلوبه النقدي في قراءة الواقع الدولي، مع تحليل بنيوي لرؤيته الحضارية ومنهجه في مقاربة التحديات الفكرية والسياسية للأمة. وتخلص الدراسة إلى أن إرث الدكتور عويس يشكل رصيدًا حضاريًا وفكريًا مهمًا، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويقدم نموذجًا رائدًا للمفكر الذي جعل من قلمه جسرًا بين المعرفة والموقف، وبين الفكر والعمل.


المقدمة
يُعَدُّ الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس (1943–2011) واحدًا من أبرز الوجوه الفكرية الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين؛ مفكرًا موسوعيًّا، ومؤرخًا حضاريًا، وكاتبًا مبدعًا جمع في شخصيته بين عمق التخصص وسعة المشاركة في قضايا الأمة. لم يكن حضوره مقصورًا على مقاعد الجامعات ولا في أروقة البحث الأكاديمي فحسب، بل كان فاعلًا مؤثرًا في مساحات الفكر والأدب والثقافة والإعلام والحركة الإسلامية، مما جعله نموذجًا متكاملاً لـ “المثقف العضوي” الذي لا يفصل بين المعرفة والواجب، ولا بين الفكر والموقف.

وقد تميّز الدكتور عويس بقدرته الفائقة على الربط بين التحليل التاريخي الدقيق وفهم الواقع المعاصر، مقدّمًا رؤى فكرية أصيلة تجمع بين المنهج العلمي الصارم والاستشراف الحضاري العميق. كما أسهم في مناقشة قضايا الأمة الكبرى، المحلية والإقليمية والدولية، وفي مقدمتها قضية كوسوفا التي شكّلت محطة مركزية في مشروعه الفكري والإنساني. فقد وقف – بقلمه ومواقفه وتحليلاته – على جراح هذا الشعب، كاشفًا أبعاد المأساة، وناقدًا ازدواجية الموقف الغربي، ومناصرًا حقّ المسلمين في البلقان بالثبات والصمود.

وتتجسد خصوصية هذا البحث في زاويتين رئيستين:

1. قراءة فكرية تحليلية متخصصة لإسهامات الدكتور عبد الحليم عويس في مجالات التاريخ والحضارة والفكر الإسلامي.

2. إبراز البعد الإنساني والعلمي للعلاقة المتميزة التي ربطته بالأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي، تلك العلاقة التي تحولت إلى جسر للتعاون الفكري والمناصرة لقضية كوسوفا، وإلى نموذج للتفاعل الحي بين المثقف المصري والمثقف الكوسوفي.
ويهدف هذا البحث إلى تقديم رؤية شاملة لإشعاع الدكتور عويس العلمي والفكري، ولمكانته الخاصة في سياق الدفاع عن القضايا العادلة، مع تحليل معمق لطبيعة تفاعله مع قضية كوسوفا، وقراءة نقدية متوازنة للعلاقة الفكرية بينه وبين الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي. كما يسعى البحث إلى إبراز صور الوفاء العلمي بين المفكرين، وتقديم شهادة تاريخية توثق مرحلة فكرية وإنسانية مهمة في علاقة الأمة بقضاياها.
المحور الأول: الأسس الأكاديمية والمنهجية

تخرج عويس من جامعة القاهرة حاملًا الدكتوراه في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، مما وفر له قاعدة صلبة للتحليل التاريخي المنهجي. تميزت كتاباته بالدقة العلمية والموضوعية، والربط الواعي بين الماضي والحاضر. لم يكن مجرد مؤرخ يسرد الأحداث، بل كان محللاً يقرأ التاريخ برؤية فلسفية تستشف الدروس وتستخرج العبر. أشرف على عشرات الرسائل العلمية في جامعات مختلفة، مما وسع من تأثيره الأكاديمي وغرس منهجه في أجيال من الباحثين.

المحور الثاني: الإسهامات الفكرية والعلمية المتعددة

كان عويس مفكرًا مبدعًا لا يقبل حصر جهوده في مجال واحد. فألف وكتب في:

• التاريخ والحضارة الإسلامية: بتفكيك مراحلهما وربطهما بالواقع المعاصر.
• الفكر الإسلامي والفرق: بنظرة تحليلية ناقدة.
• قضايا معاصرة: مثل حقوق الإنسان، مكانة المرأة، الاقتصاد الإسلامي، والتكافل الاجتماعي، مقدّمًا رؤى إسلامية أصيلة.
• موسوعة التاريخ الإسلامي: التي أشرف عليها، وكانت عملًا ضخمًا جمع جهود عدة باحثين.
المحور الثالث: النشاط الثقافي والإعلامي والدبلوماسي
لم يقتصر عويس على الكتابة الأكاديمية، بل:
• شارك في مؤتمرات دولية في أوروبا وأمريكا والعالم الإسلامي، ناقش فيها صورة الإسلام والعلاقات بين الحضارات.
• قدّم رؤى نقدية للغرب، كاشفًا عن تناقضات خطابه الديمقراطي وحقوق الإنسان، خاصة تجاه المسلمين.
• كتب في الإعلام الإسلامي، وأشرف على رسائل في هذا المجال، مؤكدًا على ضرورة وجود إعلام يعبر عن هوية الأمة.

المحور الرابع: التزامٌ بقضايا الأمة وريادةٌ في المناصرة الدولية

تجاوز إسهام الدكتور عبد الحليم عويس حدود التأصيل الأكاديمي ليشمل ميدان العمل الفكري التطبيقي في خدمة قضايا الأمة الإسلامية المعاصرة، محليًا ودوليًا. لم يكن مجرد مُعلق على الأحداث، بل كان باحثًا فاعلًا يغوص إلى جذور المشكلات، ويقترح حلولًا تتسم بالواقعية مع التزامها بالثوابت الإسلامية.

يتجلى هذا التوجه في مستويين رئيسيين:

أولاً: التشخيص الموضوعي ومعالجة القضايا الداخلية للأمة:

انطلق عويس من فهم عميق لطبيعة “الغزو الفكري” وآثاره على كيان الأمة. وعالج – عبر مؤلفاته ومحاضراته – مجموعة مترابطة من القضايا الحيوية التي تشكل تحديات داخلية، معتمدًا منهجية تربط بين الفكر والواقع، وتراعي الزمان والمكان.

ومن أبرز هذه القضايا:

• إصلاح البناء الاجتماعي: من خلال كتابه “نظام الأسرة في الإسلام”، وتناوله لـ “التكافل الاجتماعي”، سعى إلى تحصين النواة الأساسية للمجتمع.

• استيعاب طاقات الشباب: بتقديم رؤية إسلامية أصيلة لمشكلات الشباب وسبل توجيه طاقاتهم.

• العودة إلى المنهج الحضاري: بتشريح مشكلات الحضارة الإسلامية وسبل إعادة بنائها.
• مواجهة التحديات الفكرية والاقتصادية: عبر الحديث عن ثقافة المسلم في مواجهة التيارات الوافدة، وطرح رؤى عملية في الاقتصاد الإسلامي وسبل تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمعات المعاصرة.

• نقد المشروع الغربي: بتحليل الفكر والمفكرين الغربيين، وكشف الأسس الفلسفية للمشروع الحضاري الغربي.

هذه المعالجات لم تكن تنظيرًا مجردًا، بل كانت محاولة جادة لتقديم “مشروع فكري” متكامل يواجه التحديات الداخلية بمنطق إسلامي مستنير.

ثانياً: التحليل النقدي للعلاقات الدولية والمناصرة الفاعلة للقضايا العادلة:

تميز عويس برؤية ثاقبة لطبيعة العلاقة بين الغرب (أوروبا وأمريكا) والعالم الإسلامي. لقد قدم تحليلاً نقديًا حادًا، كشف فيه عن التناقض الجوهري بين الشعارات الغربية (كالديمقراطية وحقوق الإنسان) والممارسات الفعلية، خاصة تجاه المسلمين.

قضية كوسوفا: نموذجًا للفعل المناصِر ومدرسة في التضامن الفعّال

في هذا الإطار، تبرز قضية كوسوفا كحالة دراسة تطبيقية فريدة، تُجسِّد انتقال الدكتور عبد الحليم عويس من موقع الناقد المحلل إلى موقع المناصر الفاعل والمشارك الوجداني. فمع وقوع المذابح المروعة في تسعينيات القرن الماضي، لم يكتفِ بالتحليل الأكاديمي البارد للمأساة، بل غاص بقلبه وقلمه في عمق المعاناة، مُحوِّلاً كتاباته إلى خطاب مُحفِّز ومواسٍ. كتب مقالات حماسية، منها المقال الذي أشار إليه تلميذه ورفيق دربه الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي، داعيًا أهل كوسوفا إلى الصبر والثبات”، ومؤكدًا أن “مهما طال الليل فلابد من طلوع الفجر”. لقد رأى في نضالهم جزءًا جوهريًا من معركة الوجود والهوية الإسلامية في أوروبا، وهو ما جعله في عيون المثقفين الكوسوفيين “من المناضلين عن شعب كوسوفا وقضيته”.

ولم يكن دعمه معنويًّا فحسب، بل تجلى في التقدير العلمي والعملي للجهود الميدانية، كما في تقييمه المُشرِّف لدور ممثل كوسوفا في مصر آنذاك، الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي. فقد رأى عويس في الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي نموذجًا للمثقف العضوي المجاهد، ووصفه بأنه كان “جسراً رائعاً” ينقل وقائع الملحمة البلقانية يوماً بيوم إلى العالم العربي، مُزوَّدًا بالأرقام والوثائق وشهادات الضمائر الأوروبية الحية. وأشاد بدوره المتعدد كـ “ممثل رسمي” و”إعلامي” و”دبلوماسي”، جمع بين الثقافة الشرعية والثقافة العصرية لخدمة القضية. هذا التقدير لم يكن مجرد ثناء، بل كان اعترافاً أكاديمياً وسياسياً بأهمية العمل المؤسسي والدبلوماسي في فضح الممارسات الصربية والأوروبية التي وصفها بأنها وصلت إلى مستوى “أسفل سافلين”، حيث تتلذذ بهتك الأعراض وقتل الأطفال وهدم المساجد تحت غطاء قانوني زائف.

وهكذا، حوّل عويس قضية كوسوفا من مجرد حدث إخباري إلى درس حضاري عميق:

1. درس في فضح الازدواجية الغربية: حيث كشف كيف أن أوروبا التي تتشدق بالديمقراطية وحقوق الإنسان كانت “تعطي الأسلحة لأعدائهم (المسلمين) بالليل”، وتعطل أي قرار دولي لصالحهم.

2. درس في التضامن الإسلامي العضوي: من خلال إبرازه نموذج التعاون بين المثقف المصري (عويس) والمثقف الدبلوماسي الكوسوفي (بكر إسماعيل) كتجسيد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “المؤمنون كالجسد الواحد”.

3. درس في الأمل المنهجي: ربط بين التضحيات الراهنة ورؤية مستقبلية يرى فيها عودة المسلمين إلى المجد، ليس للانتقام، بل “ليقدموا العدل والتسامح واحترام الآخرين” تحقيقاً لرسالة الرحمة العالمية.

لذلك، فإن مناصرة عويس لكوسوفا لم تكن عاطفة عابرة، بل كانت امتدادًا طبيعيًا لمنهجه الفكري الشامل، وترجمة عملية لموقفه النقدي من الحضارة الغربية، وتطبيقًا رفيعًا لفكرة التوحيد بين الفكر والعمل. وهو ما دفع الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي إلى تأليف كتاب خاص يوثق هذا الجانب المشرق، مؤكدًا أن أفكار عويس كانت تُنمي الشعور بالوطنية وترفع الروح المعنوية وتجلي الحقائق “كما هي لا كما يذكرها الآخرون”.

ونختتم هذا القسم بهذه الرؤية الشاملة التي جمعت بين التشخيص الداخلي الدقيق والتحليل الخارجي النقدي، وترجمتها إلىمواقف مناصرة عملية وشراكات فاعلة كما في حالة كوسوفا، أثبت الدكتور عبد الحليم عويس أنه كان “شخصية إسلامية فذة”، كما وصفه تلامذته. لقد جسّد نموذج المثقف العضوي المُتضامن، الذي لا يرى الفكر منعزلاً عن الألم ولا البحث منفصلاً عن النضال. فكان بحق أحد أولئك “الرجال القلائل الذين تحمسوا لدينهم وإسلامهم”، وترك إرثًا فكريًّا ونضاليًّا وإنسانيًّا يُحتذى به في مواجهة تحديات الأمة المعاصرة، مُذكرًا بأن “العاقبة للمتقين” مهما طال زمن الظلم.

المحور الخامس: تحليل نقدي لعلاقة التضامن الفكري: عويس وإسماعيل نموذجًا

1. طبيعة العلاقة: من التلاقي الفكري إلى التضامن العضوي

لم تكن العلاقة بين الرجلين قائمة على المصادفة، بل على التلاقي حول مشروع فكري مُشترك: الدفاع عن الهوية الإسلامية في مواجهة محوها، وفضح الازدواجية الغربية، ونقل معاناة الأقليات المسلمة المستضعفة. في هذا الإطار، كان الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي – بصفته ممثلًا دبلوماسيًا وإعلاميًا لكوسوفا وجماعات البلقان المسلمة في القاهرة –المصدر الميداني المباشر والمترجم الثقافي للأحداث. بينما كان الدكتور عويس هو المحلل الأكاديمي والمُؤطر الفكري والمُضخم الإعلامي لتلك المعاناة داخل الحيز الثقافي المصري والعربي.

2. عويس في عين شاهد العيان: شهادة الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي كوثيقة تحليلية

يكشف كتاب الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي وزياراته المتكررة لعويس عن مستويات عميقة من التقدير النقدي:
• التقدير الأكاديمي والتربوي: يصفه بكر إسماعيل بـ “المربي الفاضل” و”المفكر المبدع”. هذا الوصف لا يشير فقط إلى إشرافه على الرسائل العلمية، بل إلى دوره في تربية الوعي الحضاري لدى جيل كامل، ومن ضمنهم المثقفون الوافدون مثل بكر إسماعيل نفسه، حيث وجد فيه مرشدًا فكريًا.

• التقدير النضالي والوطني: يرفع بكر إسماعيل من مكانة عويس ليجعله “من المناضلين عن شعب كوسوفا وقضيته”. هذه ليست مجازًا بل حقيقة سياسية: فكتابات عويس وشهاداته كانت سلاحًا معنويًا وقانونيًا في معركة إثبات الحقوق. إنها نضالية فكرية حوّلت الأكاديمي إلى طرف فاعل في الصراع.

• الاعتراف بالدور الجسر: يوثق بكر إسماعيل كيف كان عويس حاضنة فكرية وداعمة أساسية لجهوده في مصر، مما يعكس فهم عويس العملي لدور المثقف في خلق مساحات آمنة وداعمة للقضايا العادلة.

3. عويس يرد التقدير: تحليل نقدي لشهادة عويس عن الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي

يقدم نص شهادة عويس عن الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي(الواردة في السرد) تحليلًا سياسيًا وأدبيًا عميقًا:

التحليل السياسي:

• شرعنة الدور الدبلوماسي الدكنور بكر إسماعيل الكوسوفي: لم يكن وصف عويس لإسماعيل بـ “الجسر الرائع” مجرد مديح، بل كان إضفاء شرعية أكاديمية وسياسية على الدور التمثيلي لإسماعيل في مصر، في وقت كانت فيه كوسوفا تُكافح من أجل الاعتراف الدولي.

• تفكيك الرواية الصربية/الغربية: من خلال الإشادة بدور بكر إسماعيل في نقل “الوقائع كما هي” مدعومة بالوثائق والشهادات الأوروبية، كان عويس يُسقط المصداقية عن الرواية الإعلامية السائدة ويؤسس لرواية مضادة قائمة على الأدلة.

• بناء تحالف الضحايا: بربطه معاناة كوسوفا بالبوسنة وألبانيا تحت عنوان “الملحمة الدموية”، كان عويس يبني إطارًا تحليليًا يجمع شتات المأساة البلقانية في وجهة واحدة، هي “العنصرية الأوروبية الصليبية” ضد الوجود الإسلامي.

التحليل الأدبي والخطابي:

• لغة التضامن العضوي: استخدام عويس مصطلحات مثل “الأخ الفاضل”، المؤمنون ذمة واحدة”، “يد واحدة”، “قلب واحد”، ليست مصطلحات عاطفية فحسب، بل هي استحضار لمفردات الخطاب الإسلامي السياسي الذي يؤسس للتضامن على أساس العقيدة، متجاوزًا حدود القومية والجغرافيا.

• الصورة المجازية الفعالة: صورة “الجسر” التي أطلقها على إسماعيل هي صورة مركزية. فهي تعني أن عويس نفسه كان “الحاضنة” أو “الضفة الآمنة” التي يرسو عليها هذا الجسر في العالم العربي، مما يكمل دائرة التواصل.

• النبرة النبوية المستقبلية: ختم عويس شهادته بالحديث عن عودة المسلمين إلى المجد لتقديم “العدل والتسامح”، وهو ما يحوّل النضال من رد فعل دفاعي إلى مشروع حضاري بديل، مُستلهم من حديث القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.

4. الخلاصة: العلاقة كإرث فكري مشترك

علاقة عويس وإسماعيل هي نموذج مصغر لفعالية الشبكات الفكرية الإسلامية العابرة للحدود. لقد حوّلا العلاقة الشخصية إلى أداة لـ:

• إنتاج معرفة مناصرة: تحويل المعاناة الميدانية إلى خطاب تحليلي نقدي.

• بناء التحالفات: خلق تحالف بين المثقف الأزهري المصري والمثقف الدبلوماسي الكوسوفي.

• توثيق التاريخ: تقديم سردية تاريخية بديلة عن أحداث البلقان، موثقة بشهادات مباشرة وتحليل فكري رصين.

وفي الختام تم توضيح العلاقة بين الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس والأستاذ الدكتور بكر إسماعيل أن تأثير المثقف الحقيقي لا يُقاس بعدد مؤلفاته فحسب، بل بقدرته على تحويل أفكاره إلى تحالفات، وتحويل تحالفه إلى صوت للضعفاء، وتحويل هذا الصوت إلى وثيقة تاريخية تخلد الموقف وتؤسس للقدوة. لقد كان عويس، من خلال هذه العلاقة، يجسد “المثقف العضوي” بامتياز، الذي لا ينفصل فكره عن مأساة أمته، ولا تحليله عن تضامنه العملي. وشهادة الدكتور بكر إسماعيل وكتابه ليسا فقط تكريمًا لرجل، بل هما تكريم لمنهج فكري نضالي، وتأكيد على أن قضايا الأمة تحتاج دومًا إلى هذه الجسور المزدوجة: جسر ينقل المعاناة من الميدان، وجسر يُؤطرها فكريًا ويُضخمها أخلاقيًا في قلوب وعقول الأمة. وهذا الإرث من التضامن الفاعل هو ما يضمن استمرارية الأثر، ويجعل من عبد الحليم عويس نموذجًا خالدًا للمفكر الذي عاش لقضية أمته، فخلدته القضايا وشهداء الحق.

مختارات من أقوال الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي عن الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس

1. في وصف شخصيته العلمية والأخلاقية:

• “شخصية متميزة علماً، ولغة، وفكراً، وأسلوباً، وقد حشد كل جهده وإمكانياته لخدمة الإسلام والمسلمين.”

• “مفكر مبدع متفنن ذو ثقافة عالية، وخبرة واسعة، ودراية تامة بالتاريخ والحضارة والفلسفة الإسلامية.”

• “مربي فاضل… أشرف على نحو عشرين رسالة ماجستير ودكتوراه.”

• “باحث منصف، ومفكر ملم بالعلوم والفنون.”

2. في تقييم منهجه الفكري وأسلوبه:

• “تميزت كتاباته بالواقعية، وملامسة الحقائق والوصول إليها أينما كانت دون حيد أو زيف، مما يجعل القارئ والمثقف على ثقة تامة بما في كتبه.”
• “مصنفاته كلها متحلة بالابتكار والإبداع، نُخْلاً، وتعليقاً، ومنهجاً، وأسلوباً، ولغة.”
• “شخصية إسلامية فذة، تحفظ الواقع حفظاً جيداً، وتعرف الحقائق وأينما تكمن، إذا ما تحدث لا يجانب الحقيقة، ولا يبعد عن الواقع.”

3. في تحديد دوره النضالي وخدمته للأمة:

• “من الشخصيات النادرة التي يبخل أن يجود الزمان بمثلها.”
• “من الرجال القلائل الذين تحمسوا لدينهم وإسلامهم.”
• “من المناضلين عن شعب كوسوفا وقضيته.”

• “عاش واقع العالم الإسلامي وقضاياه الحيوية داخلية وخارجية، وحاول بشتى الطرق والوسائل المتاحة اقتراح ووضع الحلول اللازمة.”

4. في العلاقة الشخصية والتقدير الخاص (من خلال شهادة عويس عنه):

• وصفه عويس بأنه: “أخ فاضل… جسراً رائعاً ينقل إلى الناطقين بالعربية وقائع الملحمة يوماً بيوم.”

• “مسلماً ملتزماً بقضية دينه وشعوب البلقان… مجاهداً في سبيل أن يتواصل التفاعل بيننا وبينهم.”

رأي الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم (رئيس جامعة الأزهر سابقاً)

يقدم فضيلة الدكتور أحمد عمر هاشم في تقديمه للكتاب رأياً مزدوجاً، يُقيم فيه جهود كل من الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي والدكتور عبد الحليم عويس:

1. في تقييم جهود الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي:

• يصف دراسته (الكتاب) بأنها: “حلقة في سلسلة جهود” الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي.
• يحدد طبيعة هذه الجهود بأنها: “للدفاع عن الإسلام والمسلمين في ركن منسى ومجهول من أركان العالم الإسلامي، وهو بلاد البلقان.”
• يشكره صراحة على: “جهوده المشكورة” كمندوب لكوسوفا في مصر.

2. في تقييم جهود الدكتور عبد الحليم عويس:
• يُشكر الدكتور عويس على: “جهوده في مناصرة قضية كوسوفا.”
• يُثني على سعة اهتمامه: “واهتمامه – كمفكر إسلامي – بالقضايا الإسلامية بعامة.”
3. الرؤية العامة والإطار الحضاري الذي يضعه الد\كتور أحمد عمر هاشم:
• يضع الصراع في البلقان ضمن إطار الصراع الحضاري، ويرى أن ما حدث في كوسوفا هو “نسخة مكررة” مما حدث في البوسنة والهرسك.
• يفسر هذه الأحداث بأنها نتاج “حضارة معادية للدين والروح والمادية والمبادئ” تستبيح دماء المسلمين، ويربطها بقراءة معينة “لتعاليم التوراة”.
• يستحضر الرسالة الحضارية للإسلام من خلال آيتين قرآنيتين أساسيتين:
• وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ – مؤكداً أن رسالة الإسلام عالمية الرحمة.
• وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ – مؤكداً أن الدين دين أخلاق، ورداً على الصورة المشوهة التي تروجها الحضارة المعادية.

الخلاصة:
يرى الدكتور أحمد عمر هاشم أن جهود الرجلين (إسماعيل وعويس) متكاملة ومشكورة؛ فإسماعيل هو المجاهد الميداني والناقل الأمين للقضية من أرض المعانة، وعويس هو المفكر الإسلامي الذي يمنح القضية الإطار الفكري والحضاري والمناصرة في ساحة الفكر العربي. وكلاهما، في نظره، يؤدي واجباً في الدفاع عن الإسلام والمسلمين ومواجهة الحضارة المادية المعادية، ضمن الرؤية الأزهرية التي تؤكد على أخلاقية وعدالة وسماحة الرسالة الإسلامية العالمية.

بالاعتماد على النصّ الثرِيّ الذي قدّمتموه، وعلى العلاقة العلمية والوجدانية المتبادلة بين الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي والدكتور عبد الحليم عويس رحمه الله، أقدّم لكم قصيدة أصلية جديدة كتبْتُها على لسان الدكتور بكر إسماعيل، تُجسِّد مشاعر الوفاء وعمق العلاقة، ثم أتبِعُها بتحليلٍ أدبيٍّ مفصّل يناسب سياق البحث الأكاديمي.
القصيدة

“رِحْلَةُ الضِّيَاءِ… إلى رُوحِ أَبِي الفِكْرِ عَبْدِ الحَلِيمِ عُوَيْس”
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي
1
يا صاحِبَ الفِكْرِ، يا مَنْ كانَ مُلْهَمَنا
والمُصْطَفَى مِنْ نَدَى الأرْواحِ يَسْقِينا
2
غادَرْتَ مُصْراً… ولكنْ في كُوْسُوفا صَدًى
يبقى، ويهتِفُ: لَبَّيْكَ الفَتى الحانِيَا
3
كُنْتَ الأَبَا حينَ ضاقَ الحِمْلُ في بَلَدٍ
تَنْزِفُ الجِراحُ… فكنتَ العَوْنَ، والقُرْآنَ، والتِّينَا
4
كُنْتَ الذي يَحْمِلُ الآلامَ في قَلَمٍ
حتى غدا القَلَمُ المَكْلُومُ دِيوَانَا
5
يا مَنْ سَكَبْتَ على الجَرحِ البَلْقَانِيِّ مَوْعِظَةً
فيها الحَقِيقَةُ ضَوْءاً لا يُدَارِينَا
6
كنتَ الجَسُورَ الذي يَسري بصادِقِهِ
بينَ الضِّياءِ… وبَيْنَ الخَوْفِ يَحْمِينَا
7
ومَا كتبْتَ… سوى تَاريخِ أمَّتِنا
يَجْري صَفِيّاً، كما الأنهارُ تَجْرِينَا
8
يا مَنْ رَفَعْتَ كِتاباً كانَ يُوثِقُنِي
ويُشْهِدُ الكونَ أنَّ الحَقَّ يَكْفِينَا
9
هذي رِحالُكَ… لم تَغْبِبْ وإنْ رَحَلَتْ
لكنَّ فِكْرَكَ باقٍ في مَدَانِينا
10
فارْقُدْ هَنِيئاً، فَصَوْتُ الحَقِّ مَرْفُوعٌ
ومَا سَقَيْتَ لِوَجْهِ اللهِ يُحْيِينَا

التحليل الأدبي للقصيدة

1. البنية العامة والموضوع

القصيدة تقوم على محورين رئيسيين:

1. الحزن الهادئ على رحيل الدكتور عبد الحليم عويس، في إطار رثائي غير انفعالي.
2. الوفاء الفكري والنضالي، حيث يتجسد الدكتور عويس باعتباره جسرًا و أبًا فكريًا و حاملاً لآلام كوسوفا.

يسود القصيدة طابع يجمع بين الرثاء التقليدي ونبرة وجدانية حديثة، مما يعكس طبيعة العلاقة بين الرجلين كما وردت في البحث.

2. الصور البلاغية

القصيدة اعتمدت على صور دالة ومترابطة مع رسالتكما البحثية:

أ– الاستعارة المركزية: “الجسر”
وهي تنسجم مباشرة مع وصف عويس للدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي بأنه “جسر رائع”، فانعكست هنا بصورة معاكسة تستخدم الجسر للدلالة على عويس نفسه، تأكيدًا للعلاقة المتبادلة.

ب– صورة “القلَم المكلوم”
حتى غدا القلم المكلوم ديوانًا
تصور قلم عويس ككائن يشعر بالألم، ولكنه يحوّله إلى معنى.

ت– صورة “الضياء” و”الملحمة البلقانية”
الإشارة إلى الضياء تعكس حضوره الفكري، بينما الجراح البلقانية تشير إلى كوسوفا وظروف الحرب.

3. الإيقاع والأسلوب

الوزن متقارب الشطرين، قائم على جرس موسيقي هادئ يناسب الرثاء.
القافية المتنوعة (ينا/يَا/نَا) تمنح الإيقاع مرونة وانسيابًا.

اللغة فصيحة قريبة من خطابات الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي وكتاباته، وفيها روح التأمل والمهابة العلمية.

4. البعد الدلالي والفلسفي
القصيدة لا تركز على الفقد وحده، بل على استمرار الأثر، وهو محور رئيس في كتاب الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي عن الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس.
يظهر تصوير عويس كمفكر عضوي:
• يحمل الجراح
• يكتب الحقائق
• لا يفصل الفكر عن الألم
• يمثل فاعلية الفكر الإسلامي المعاصر

الخاتمة:
يتضح من خلال الدراسة أن الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس يشكل نموذجًا فريدًا للمفكر الموسوعي الذي تجاوز حدود التخصص الأكاديمي ليصنع مشروعًا فكريًا حيويًا يلامس قضايا الأمة وينخرط فيها بوعي ومسؤولية. لقد استطاع أن يربط بين التاريخ والحضارة والفكر والواقع، مقدّمًا قراءة نقدية واعية للتحديات الداخلية والخارجية، ومانحًا الأمة رؤية مستقبلية متوازنة تُعيد الثقة بذاتها وتنهض بها على أسس حضارية أصيلة.

وتبرز قضية كوسوفا – في سياق مشروعه الفكري – مثالًا حيًا على قدرته على تحويل الفكر إلى موقف، والتنظير إلى ممارسة، والمساندة إلى فعلٍ مؤثر. فقد شكّلت كتاباته وتحليلاته وشهاداته دعمًا معنويًا وسياسيًا مهمًا لهذا الشعب، الأمر الذي جعله – في نظر المثقفين الكوسوفيين – أحد أبرز الأصوات العربية المدافعة عن قضاياه العادلة.

كما أكدت الدراسة أن العلاقة التي جمعت بين الدكتور عبد الحليم عويس والأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي لم تكن مجرد علاقة شخصية، بل كانت نموذجًا للتكامل الفكري والوجداني والميداني بين مفكرين ينتميان إلى فضاء حضاري واحد، هدفهما واحد هو الدفاع عن الحق والهوية والإنسان. وتحولت هذه العلاقة إلى وثيقة تاريخية تُبرهن على دور المثقفين في بناء الجسور، وفي تحويل المعاناة إلى وعي، والوعي إلى موقف، والموقف إلى إرث فكري خالد.

وبهذا، فإن إرث الدكتور عبد الحليم عويس لا يتمثل في كتبه فحسب، بل في منظومته الفكرية والأخلاقية التي جمعت بين العلم والعمل، بين التأصيل والتحليل، وبين الحضارة والإنسان. وهو إرث يستحق أن يُقرأ ويُدرّس ويُستلهم في مواجهة تحديات العصر، وفي صناعة مستقبل أفضل للأمة.