تقبيل يد العلماء والصالحين… أدبٌ نبوي وسلوكٌ إسلامي أصيل
10 ديسمبر، 2025
شبهات حول قضايا التصوف

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
هل يُعدّ تقبيل يد العلماء والصالحين نوعًا من التعظيم المذموم، أم هو خُلُقٌ كريم من آداب الإسلام الرفيعة؟
سؤالٌ يتردّد كثيرًا في الأذهان، وتتنازعه مواقف متباينة، غير أنّ النصوص الثابتة و هدي السلف الصالح يضعان الأمر في موضعه الشرعي السليم.
فهذا الفعل لم يكن غلوًّا ولا مظهرًا من مظاهر التعظيم الباطل، وإنما كان توقيرًا لأهل الفضل، واعترافًا بمكانة العلم والصلاح، وسلوكًا درج عليه السلف، واقتفى أثره الخلف، في ضوء ما ثبت عن النبي ﷺ وصحابته الكرام.
تمهيد
يثور في الأوساط المختلفة سؤالٌ طالما تردَّد صداه:
هل يُعدّ تقبيل يد العلماء والصالحين نوعًا من التعظيم المذموم؟
أم هو خُلُقٌ كريم من آداب الإسلام الرفيعة التي سار عليها السلف الصالح وارتضاها أهل العلم؟
ومع اختلاف الأفهام، تبقى النصوص الثابتة، وهدي السلف، وأقوال الفقهاء هي المرجع الأصوب لفهم هذه المسألة، ووضعها في إطارها الشرعي السليم.
وقد دلت الروايات الصحيحة، وعمل السلف الصالح، واتفاق جمهور الفقهاء على أن تقبيل يد أهل الفضل والعلم والصلاح سُنّة أدبية جليلة، لا شائبة فيها ما دامت منضبطة بضوابط الشرع، بعيدة عن الغلو والمبالغة.
التقبيل في سيرة النبي ﷺ وصحابته
تزخر السنة النبوية بنصوصٍ صحيحة تُثبت جواز تقبيل اليد، بل ووقوعه في حضرة النبي ﷺ من غير إنكار ولا نهي، مما يدلّ على مشروعيته، ويجعله من الآداب الرفيعة التي استحبّها أهل العلم.
تقبيل يد النبي ﷺ
حديث زارع – “لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبّل يد النبي ﷺ”.أبو داود:
حديث كعب بن مالك – الطبراني: لما نزل عذره «أخذ بيد النبي ﷺ فقبّلها».
حديث ابن عمر :”فدنونا من النبي ﷺ فقبّلنا يده”.أبو داود
حديث بُريدة :”أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقبّل يده ورجله”.الحاكم وصححه
تقبيل كبار الصحابة بعضِهم بعضًا
سيدنا عليٌّ والعباس – الأدب المفرد:ثبت بإسناد صحيح أن عليًا رضي الله عنه قبّل يد العباس ورجليه.
وفد عبد القيس – البخاري في الأدب وأحمد وغيرهما:
أن الوفد لما قدموا المدينة قبّلوا يد النبي ﷺ ورجليه،
وقد حسّنه ابن عبد البر، وجوده الحافظ ابن حجر.
التبرك بما مسَّ يد النبي ﷺ
أنس بن مالك – مسند أحمد:قال ثابت البناني لأنس رضي الله عنه: “أرني يدك أقبّلها؛ فإنها مست يد رسول الله ﷺ”.
سلمة بن الأكوع – الأدب المفرد ومسند أحمد:
أخرج يده التي بايع بها النبي ﷺ، فقام القوم يقبّلون كفّيه تبركًا بأثر المصافحة.
خلاصة دلالة هذه النصوص
إن هذه الروايات الكثيرة، وتعدد طرقها، واتفاق أهل العلم على ثبوت بعضها،
كلّ ذلك يدل دلالة بيّنة على أن تقبيل اليد أدبٌ مشروعٌ،
مارسه الصحابة مع النبي ﷺ ومع بعضهم بعضًا،
واستنبط منه الفقهاء جواز التقبيل بل استحبابه لمن استحقه من أهل الفضل والدين.
الحكم الشرعي عند الفقهاء
جمهور العلماء من المذاهب الأربعة على جواز تقبيل يد العالم والصالح والبرّ، بل عدَّه بعضهم من السنن الجليلة وآداب الاحترام. قول الإمام النووي الشافعي
قال في المجموع: “تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته، أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يُكره، بل يُستحب.
فإن كان لغناه أو جاهه أو شوكته عند أهل الدنيا، فمكروه شديد الكراهة.”
كلام النووي – وهو من كبار محققي الشافعية – لا يخالفه أحد من الأئمة الأربعة في الجملة، بل هو معبِّر عن روح المذهب وعن هدي السلف.
ضابط الاستحباب عند الفقهاء
يكون التقبيل مستحبًّا إذا كان صادراً عن تقديرٍ لعلمٍ، أو احترامٍ لصلاحٍ وزهدٍ، أو تعظيمٍ لشرفٍ ديني، أو توقيرٍ لكبيرٍ أو والدٍ أو معلّمٍ يستحق التكريم.
ويكون مكروهًا إذا انبنى على أسباب دنيوية؛ كالغنى، أو السلطان، أو الجاه، أو كان بدافع خوفٍ أو طمعٍ مما في أيدي الناس.
لماذا استحبّه العلماء؟
لأنه مظهر من مظاهر التواضع:
فالتواضع لأهل العلم خُلُقٌ راسخ من شيم أهل الإيمان، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتواضعون للنبي ﷺ ولِمَن أخذوا عنه العلم والهداية.
ولأنه تعظيم لشعائر الدين:
فتكريم العلماء هو في حقيقته تكريم للدين الذي يحملونه، وقد قال تعالى:
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.
ولأنه من آداب توقير الكبار:
فالنبي ﷺ قرر هذا المبدأ العظيم بقوله:
“ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا”.
هل في تقبيل اليد غلوّ أو شِرك؟
الجواب: كلا؛ ما دام التقبيل جارياً في إطار الأدب الشرعي، خاليًا من اعتقاد النفع أو الضرّ، فليس فيه أدنى شبهة غلو ولا لون من ألوان الشرك.
وإنما هو تكريمٌ لأهل القرآن والعلم والصلاح، وتعبيرٌ عن التوقير والاحترام، على نحو ما جرى عليه هدي الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي ﷺ ومع كبارهم من أهل الفضل.
آداب تقبيل اليد
أن يصدر التقبيل عن محبة صادقة وتوقير كريم، لا عن ذلٍّ أو مهانة.
وألّا يتحوّل إلى عادة مطّردة قد تُفضي إلى الغلو أو تورث الكِبر في النفوس.
وأن يُراعى في ذلك حال الشيخ أو العالم، فلا يُحمَّل ما يجهده أو يُوقعه في الحرج.
وأن يكون التقبيل عنوانًا للتوقير المشروع، لا مظهرًا للتمجيد المذموم.
الخلاصة
إن تقبيل يد العلماء والصالحين سنة أدبية كريمة،
ثابتة بالسنة العملية، متوارثة عن الصحابة،ومقررة في المذاهب الأربعة،وهو علامة احترام وتوقير، لا تُنافي التوحيد ولا تؤدي إلى غلو،متى التزم المسلم آدابها وضوابطها.
وهذا هو هدي النبي ﷺ وصحابته الكرام،وكلام كبار الفقهاء من أمثال الإمام النووي،الذي جمع بين الدليل والفقه،فاستقر الحكم على استحباب التقبيل عند وجود سبب ديني،وكراهته إذا كان لدنيا أو جاه.