تفكيك النفوذ العربى فى إفريقيا
8 ديسمبر، 2025
أخبار العالم الإسلامى

إفريقيا… حلم إسرائيل الغالي(الجزء الثامن)
بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس بدرجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
في هذا الجزء الثامن من السلسلة ندخل إلى أحد أكثر الملفات حساسية في علاقة إسرائيل بالقارة السمراء… ملف لا تقوم إسرائيل بإعلانه صراحة، لكنه حاضر في كل خطوة تخطوها داخل إفريقيا: ملف تفكيك النفوذ العربي والإسلامي وإعادة رسم خريطة الولاءات في القارة لصالحها على مدى عقود طويلة. إفريقيا لم تكن في نظر إسرائيل مجرد أرض خصبة أو ثروات واعدة، بل كانت – وما تزال – جبهة استراتيجية هدفها الأول تقليص حضور العرب، وإضعاف أي قوة قد تنافسها مستقبلاً، وإعادة صياغة موازين القوى من الجذور. لذلك، فإن كل استثمار، وكل صفقة سلاح، وكل منحة زراعية، وكل شركة إسرائيلية تفتح مقرًا لها في عمق إفريقيا ليست نشاطًا اقتصاديًا بريئًا، بل جزء من منظومة متشابكة هدفها النهائي التحكم في مستقبل القارة ومنع العرب من استعادة نفوذهم التاريخي هناك.
لقد أدركت إسرائيل مبكرًا أن إفريقيا هي مخزن العالم من المياه والمعادن والطاقة والثروات الحيوية، وأن من يمسك بمفاتيح القارة يملك ورقة ضغط مهولة في السياسة الدولية. لذلك عملت على تفكيك الروابط العربية-الإفريقية بكل الطرق الممكنة: من خلال ضرب العلاقات التاريخية بين مصر ودول حوض النيل، إلى خلق صور ذهنية جديدة ترى إسرائيل “شريكًا مفيدًا” بينما تصوّر العرب كقوة غير مؤثرة. ومن خلال تشجيع الانقسامات الداخلية ودعم الأقليات المسلحة أحيانًا، ساهمت إسرائيل في خلق واقع سياسي مضطرب يسهل اختراقه والسيطرة عليه.
وفي الوقت الذي اكتفت فيه الدول العربية – في بعض الفترات – بسياسات رد الفعل، كانت إسرائيل تتحرك بخطوات محسوبة: اتفاقات أمنية، تدريب جيوش، صفقات مياه، خبراء زراعة، شبكات اتصالات، قواعد معلومات ضخمة، وأذرع إعلامية تعمل بصمت. حتى أن بعض الدول الإفريقية باتت ترى في الكيان الصهيوني “مفتاحًا للغرب”، فكلما تقربت منه فتحت أمامها أبواب الدعم الدولي.
لكن الأخطر من كل هذا هو ما يمكن تسميته بـ الهندسة الإسرائيلية للمستقبل الإفريقي. فإسرائيل لم تعد تكتفي بالاستثمارات أو بالتدريب العسكري، بل باتت تؤثر في صناعة النخب السياسية، وفي بناء القيادات الجديدة، وفي تشكيل الوعي الجمعي لدى الشباب الإفريقي من خلال برامج تعليمية وإعلامية ضخمة. إنها حرب ناعمة لم يدرك كثيرون حجمها، لكنها قادرة على تغيير صورة المستقبل تمامًا خلال سنوات قليلة.
وفي ظل هذا التمدد الممنهج، تصبح القارة الإفريقية ساحة مفتوحة للصراع: صراع على النفوذ، وصراع على الثروات، وصراع على القرار السياسي، وصراع على هوية الإنسان الإفريقي ذاته. وما كان بالأمس حلمًا لإسرائيل أصبح اليوم مشروعًا كبيرًا تتحرك فيه بجرأة، مدعومة بشبكات معقدة من المصالح والمعلومات والعلاقات.
ومع كل خطوة إسرائيلية داخل إفريقيا يرتفع منسوب القلق العربي؛ لأن خسارة إفريقيا ليست مجرد خسارة علاقات أو استثمارات، بل خسارة عمق استراتيجي تاريخي كان يشكل خط الدفاع الثاني عن الأمن القومي العربي. ومع كل تقدم للوجود الإسرائيلي، تتراجع فرص إعادة بناء الدور العربي ما لم يتم التعامل بحسم مع خطورة الوضع الراهن.
وفي النهاية… حين ننظر إلى إفريقيا اليوم، لا نراها مجرد قارة صامتة تنتظر من يطرق بابها، بل نراها قلبًا نابضًا يتصارع عنده الكبار، وتتشابك فوق أرضه أحلام الدول ومخططات العواصم البعيدة. وهنا تحديدًا يتضح حجم ما تفعله إسرائيل؛ فمشروعها في إفريقيا ليس مشروع نفوذ عابر، ولا رغبة في موارد إضافية، بل هو محاولة لإعادة صياغة جغرافيا القوة على الأرض، وإعادة رسم خرائط الولاءات، وكسر العمق العربي من أحد أهم مداخله الاستراتيجية. إن إسرائيل لا تتعامل مع إفريقيا كفرصة، بل كمعمل جيوسياسي كبير تُصنع فيه مستقبلات السياسة والأمن والطاقة والمياه، وتُختبر فيه التكتلات والتحالفات، ويُعاد فيه ترتيب العالم من جديد.
إن الخطر الحقيقي ليس فقط فيما تفعله إسرائيل، بل فيما قد ينتج عنه بعد سنوات: جيل من القادة الأفارقة تربى على يدها، حكومات تعتمد على خبرائها، شركات كبرى لا تستطيع العمل دون موافقتها، جيوش تستورد سلاحها منها، وشعوب تُصدَّر لها أفكارها الإعلامية والسياسية. إنه تغلغل لا يُرى بسهولة، لكنه يُحدث تحولًا جذريًا في الوعي قبل أن يحدثه في الاقتصاد أو الأمن. وفي وسط هذا كله، يظل السؤال الأكثر إلحاحًا: هل يدرك العرب خطورة ما يجري؟ هل يدركون أن خسارة إفريقيا تعني خسارة ثقل سياسي، وخسارة نفوذ قومي، وخسارة شراكات كانت يومًا ما عماد العلاقات التاريخية؟
إن القارة السمراء تُكتب على صفحاتها الآن معادلات جديدة، وفي كل معادلة تقف إسرائيل بثبات كمؤثر رئيسي، بينما يقف العرب في كثير من الأحيان بعيدين، يراقبون أكثر مما يتقدمون، ويتفاعلون أقل مما يخططون. وإذا استمرت هذه الفجوة، فلن يعود العرب فقط متأخرين عن لحظة الحسم، بل قد يجدون أنفسهم خارج التوازنات المقبلة تمامًا، وقد تتشكل إفريقيا على نحو يبتعد عنهم كل يوم، بينما تنسج تل أبيب خيوط علاقة طويلة الأمد مع الجغرافيا الإفريقية والإنسان الإفريقي والدولة الإفريقية.
وما يجعل المشهد أكثر تعقيدًا، هو أن إفريقيا ليست قارة سهلة تُخضعها الوعود، ولا قارة يمكن امتلاكها بالقوة، بل هي أرض ذات طبيعة خاصة، تحترم من يفهمها وتتقلب على من يتجاهل تاريخها. وإسرائيل – ببراغماتيتها ودهائها السياسي – فهمت جيدًا أن النفوذ لا يُنتزع دفعة واحدة، بل يُبنى كحائط طويل يُضاف إليه حجرٌ فوق حجر… اتفاقٌ صغير هنا، دورة تدريبية هناك، شركة اتصالات، مختبر زراعي، صفقة سلاح، دعم سياسي في محفل دولي… ومع الوقت تتحول التفاصيل الصغيرة إلى منظومة نفوذ هائلة.
ولهذا، فإن المستقبل الإفريقي لن يكون كما كان، لأنه يُعاد هندسته الآن، وأصوات كثيرة تتنافس على صياغته، بينما العرب يملكون تاريخًا طويلًا في القارة، وثقافة مشتركة، وتراثًا إنسانيًا وإسلاميًا عميقًا، لكنهم بحاجة إلى إعادة تفعيل هذا التاريخ، وتحويله من ذكريات إلى قوة حقيقية على الأرض. لأن القارة التي تركوها خلفهم يومًا، أصبحت اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، وأصبحت بوابة النفوذ العالمي في عصر تتغير فيه موازين القوة بسرعة مذهلة.
إن إفريقيا اليوم هي الامتحان الحقيقي لقدرة العرب على استعادة دورهم ووعيهم بمصالحهم الكبرى. فإما أن يتحركوا بوعي، بخطط واضحة، وبمشاريع حقيقية تستطيع منافسة المشروع الإسرائيلي، وإما أن يظل المشهد أسيرًا لتوسع صهيوني يعرف جيدًا إلى أين يريد الوصول. وفي وسط هذا الصراع الطويل، سيبقى سؤال واحد يطرق باب التاريخ: من سيمتلك قدرة التأثير على مستقبل القارة؟ ومن سيكتب السطر الأخير في كتاب إفريقيا… العرب الذين عرفوها منذ آلاف السنين، أم إسرائيل التي تحاول اليوم أن تصنع لنفسها تاريخًا جديدًا فوق أرض ليست لها؟
ومهما طال الطريق، ستظل إفريقيا الشاهدة الحية على من فهم قيمتها، ومن أهملها، ومن استثمر فيها بعقل وقلب، ومن دخلها طمعًا في الثروات أو بحثًا عن مجد سياسي عابر. لأن القارة السمراء لا تنحاز إلا لمن يعي قدرتها على تشكيل العالم من جديد. وفي هذا الميدان الواسع، لا مكان للضعفاء، ولا مكافأة للمتأخرين، ولا رحمة لمن يسلم مناطق نفوذه لغيره. فإما أن يكون للعرب مكان في مستقبل إفريقيا، أو يتركوا الآخرين يكتبون المشهد وحدهم… وهذه هي الحقيقة الأعمق في كل ما يجري اليوم.