الصَّبْرُمِعْرَاجُ العَابِدِينَ وَسِرُّ المُقَرَّبِينَ
8 ديسمبر، 2025
منبر الدعاة

بقلم الدكتور محمد رجب أبو تليح
عضو إدارة الفتوى وبحوث الدعوة بوزارة الأوقاف
سلسلة مقامات السلوك إلى حضرة ملك الملوك المقال الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
الصَّبْرُ فِي اللُّغَةِ: الْحَبْسُ وَالْكَفُّ وَمِنْهُ: قُتِلَ فُلَانٌ صَبْرًا إِذَا أُمْسِكَ وَحُبِسَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: ٢٨] ؛ أَيِ احْبِسْ نَفْسَكَ مَعَهُمْ.
فَالصَّبْرُ:حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْجَزَعِ وَالتَّسَخُّطِ وَحَبْسُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى وَحَبْسُ الْجَوَارِحِ عَنِ التَّشْوِيشِ.
قَالَ صَاحِبُ ” الْمَنَازِلِ ” “الصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَعَقْلُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى وَهُوَ مِنْ أَصْعَبُ الْمَنَازِلِ عَلَى الْعَامَّةِ وَأَوْحَشُهَا فِي طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ وَأَنْكَرُهَا فِي طَرِيقِ التَّوْحِيدِ.
وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَصَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَصَبْرٌ عَلَى امْتِحَانِ اللَّهِ.
وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: صَبْرٌ بِاللَّهِ وَصَبْرٌ لِلَّهِ وَصَبْرٌ مَعَ اللَّهِ.
فَالْأَوَّلُ: صَبْرُ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَرُؤْيَتُهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُصَبِّرُ، وَأَنَّ صَبْرَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ لَا بِنَفْسِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: ١٢٧] يَعْنِي إِنْ لَمْ يُصَبِّرْكَ هُوَ لَمْ تَصْبِرْ.
وَالثَّانِي: الصَّبْرُ لِلَّهِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الصَّبْرِ مَحَبَّةَ اللَّهِ، وَإِرَادَةَ وَجْهِهِ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِ لَا لِإِظْهَارِهِ قُوَّةَ النَّفْسِ، وَالِاسْتِحْمَادَ إِلَى الْخَلْقِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْرَاضِ.
وَالثَّالِثُ: الصَّبْرُ مَعَ اللَّهِ وَهُوَ دَوَرَانُ الْعَبْدِ مَعَ مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ مِنْهُ وَمَعَ أَحْكَامِهِ الدِّينِيَّةِ صَابِرًا نَفْسَهُ مَعَهَا، سَائِرًا بِسَيْرِهَا مُقِيمًا بِإِقَامَتِهَا يَتَوَجَّهُ مَعَهَا أَيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهَا وَيَنْزِلُ مَعَهَا أَيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهَا.
قالوا في الصَّبْرِ ما يَشفِي القلوبَ ويُعليها، ويُصعِدُ بالنَّفْسِ من هَبْوةِ البلوى إلى أوجِ الرِّضا:
فقال سهلٌ رحمه الله : “الصَّبْرُ انتِظَارُ الفَرَجِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَهُوَ أفضلُ الخِدَمَاتِ وأعلاها”.
كأنَّهُ يُشيرُ إلى أنَّ العبدَ لا يَعبُدُ ربَّهُ بشيء أَجَلَّ من صَبرِهِ على ما يَكرَهُ رجاءَ ما يُحبّ.
وقيل الصَّبْرُ أنْ تَصْبِرَ في الصَّبْرِ :
أي لا تُطلِعْ قلبَكَ في أثنائِهِ على طَلعةِ الفَرَجِ، بل تَستسلِمَ لِلأَمْرِ كأنَّهُ غايَتُكَ، خالصًا لِمَولاكَ، لا تَرجُو الغَيرَ ولا تَستعجِلُ القَضاء.
حتَّى إنَّ الصَّبْرَ في مَثَلِهم البَليغ إذا صُبِرَ عليه صَبْرًا صادقًا، نادى “صَابِرَ الصَّبْرِ فاستغاثَ بِهِ الصَّبْرُ فَنَادَى الصَّبُورُ يَا صَبْرُ صَبْرًا!”.
كأنَّ الصَّبْرَ عَبدٌ طَيِّبٌ، فإذا نَفَذَ صَبرُ العبدِ استغاثَ به، فأجابَهُ الصَّبُورُ جلَّ وعلا بِسَكِينَةِ الإِجابَةِ وحُسْنِ العِوَضِ.
وقولِه تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، كأنه نبعٍ صافٍ من لُبابِ المعرفة “أي اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ، واصبروا على أَمرِ اللهِ، واصبروا على الأدَبِ مع اللهِ سُبْحَانَهُ فيما قدر”.
فالجمعَ بينَ الاستعانةِ والطاعةِ والرِّضا، جِسْرٌ مِنَ التَّوحيدِ إلى محبَّةِ الرَّبِّ.
فليسَ هوَ حبسَ النفسِ فحَسْب، بل تَزكِيَةٌ لِلقَلبِ، ونُورٌ يُضيءُ طُرُقَ السَّالكينَ إلى حضرةِ الكريم.
وقد سمعنا أبا عمرو الدمشقيَّ يتأمَّلُ قولَ أيُّوبَ عليه السلام: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}،فأوضحَ بِبَصِيرَتِه”أي مَسَّنِيَ الضُّرُّ فَصَبَّرْتَنِي، لِأَنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”فما شكَى إلاّ ليحمدَ، وما بَكَى إلاّ ليَشْكُرَ، فكانَ شكواهُ عبادةً، وبُكاؤهُ تسبيحًا.
وقال آخَرُ: “مَسَّنِيَ الضُّرُّ الذي تَخُصُّ بِهِ أنبياءَكَ وأولياءَكَ، بِلا استحقاقٍ مِنِّي، لَكِنْ لِأَنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”فأقرَّ بالتَّدبيرِ، وسلَّمَ للحكمةِ، ورَضِيَ بالابتلاءِ طريقًا إلى القُربِ.
ومن جوهرِ الشِّعرِ الصُّوفيِّ البَهيِّ، قولُ أبي القاسم سمنون رحمه الله :
تَجَرَّعْتُ مِنْ حَالَيْهِ نَعْمَى وَأَبْؤُسَا
* زَمَانٌ إِذَا أَمْضَى عِزَالِيهِ احْتَسَى
فَكَمْ غَمْرَةٍ قَدْ جَرَّعَتْنِي كُؤُوسَهَا
* فَجَرَّعْتُهَا مِنْ بَحْرِ صَبْرِي أَكْؤُسَا
تَدَرَّعْتُ صَبْرِي وَاخْتَلَفَتْ صُرُوفُهُ * وَقُلْتُ لِنَفْسِي: الصَّبْرُ أَوْ فَاهْلِكِي أَسَى
خُطُوبٌ لَوَ أَنَّ الشُّمَّ زَاحَمَ خَطْبَهَا * لَسَاخَتْ، وَلَمْ تَدْرِكْ لَهَا الْكَفُّ مَلْمَسَا
فهل بعدَ هذا كلامٌ؟
الصَّبْرُ ليسَ انتظارًا فحسب، بل وِردُ الأحرارِ، ووسامُ المختارينَ، وسِرُّ ارتقاءِ الصَّادقينَ فمن صَبَرَ، نَالَ؛ ومن نَالَ، رَضِيَ؛ ومن رضِيَ، رُفِعَ؛ ومن رُفِعَ، دَخَلَ رِضوانَ مَن قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا جَسَدَ لِمَنْ لَا رَأْسَ لَهُ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَيْرُ عَيْشٍ أَدْرَكْنَاهُ بِالصَّبْرِ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ ضِيَاءٌ. وَقَالَ «مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ
وإلى لقاء…..