الْطُّفُولَةُ صَانِعَةُ الْمُسْتَقْبَلِ
8 ديسمبر، 2025
منوعات

بقلم الدكتور إسلام عوض
مدير تحرير بجريدة الأهرام المصرية
الطفولةُ هي النبعُ الذي تتجددُ منهُ الحياةُ، والمرايا الصادقةُ التي تعكسُ مستقبلَ الأمةِ؛ فصلاحُ المجتمعِ يبدأُ حتمًا بصلاحِ أطفالهِ، الذينَ ليسوا مجردَ كائناتٍ ضعيفةٍ تحتاجُ إلى الرعايةِ، بلْ همْ أمانةٌ ومسئوليةٌ، واللبنةُ الأساسيةُ في بناءِ الحضارةِ والرقيِّ، والطرفُ الفاعلُ في صناعةِ المستقبلِ المنشودِ.
مِنْ هذا المنطلقِ الإنسانيِّ والإيمانيِّ العميقِ، جاءَ التشريعُ الإلهيُّ ليضعَ حقوقَ الطفلِ كـفريضةٍ سماويةٍ سبقتْ كلَّ القوانينِ والمواثيقِ الدوليةِ. إنَّ رعايةَ هذهِ المرحلةِ ليستْ هدفًا بحدِّ ذاتهِ، بلْ هيَ المنهجُ الإلهيُّ والضمانةُ الحقيقيةُ لتحسينِ فرصِ وجودةِ الحياةِ ذاتِها، ولإنشاءِ جيلٍ مؤهلٍ للقيادةِ والعمارةِ (صانعًا للمستقبلِ).
لقدْ سبقَ الإسلامُ كلَّ النظمِ الوضعيةِ في إقرارِ منظومةٍ متكاملةٍ لحقوقِ الطفلِ، بدأتْ منذُ لحظةِ وجودهِ جنينًا في بطنِ أمهِ، واستمرتْ حتى بلوغِهِ سنَّ النضجِ، حيثُ نظرَ الإسلامُ إليهِ ككيانٍ مُكرمٍ لهُ حقوقٌ واضحةٌ تصونُ جسدَهُ وعقلَهُ وروحَهُ وكرامتَهُ. هذا التكريمُ ليسَ ترفًا، بلْ هوَ تمكينٌ.
هذا التصورُ الإلهيُّ أرسى مبادئَ أساسيةً تشكلُ حصنًا منيعًا للطفلِ، بدءًا منْ حقِّ الحياةِ؛ فقدْ جعلَ قتلَ الأولادِ، خشيةَ الفقرِ أوِ العارِ، مِنْ أكبرِ الكبائرِ، مؤكدًا أنَّ الرزقَ بيدِ اللهِ وحدهُ، وهوَ بذلكَ ألغى ممارساتِ الجاهليةِ الظالمةِ. ويتجسدُ هذا التكريمُ أيضًا في حقِّ الطفلِ في النسبِ الشرعيِّ والرعايةِ الأسريةِ، فحثَّ على الزواجِ القائمِ على المودةِ والرحمةِ، كبيئةٍ طبيعيةٍ سليمةٍ للتربيةِ، وجعلَ حقَّ الطفلِ في معرفةِ نسبهِ ضمانةً اجتماعيةً لسلامةِ هويتهِ النفسيةِ والثقافيةِ وحصنًا لهُ مِنَ الضياعِ والتمييعِ الأخلاقيِّ، وهيَ حقوقٌ تضمنُ لهُ السلامةَ النفسيةَ ليكونَ فاعلًا في مجتمعهِ غدًا.
إنَّ حقوقَ الطفلِ في الإسلامِ تتجاوزُ كونها نصوصًا تكتبُ في القوانينِ، لتصبحَ منظومةً قيميةً متكاملةً تقومُ على الرحمةِ والعدلِ والكرامةِ. وهذا المنهجُ الشاملُ اهتمَّ بنشأةِ الطفلِ مِنْ الناحيةِ التربويةِ، فحثَّ على التربيةِ بالقدوةِ الحسنةِ التي يتأثرُ بها الطفلُ أكثرَ مِنَ الأوامرِ، وشددَ على أهميةِ الرفقِ والرحمةِ والمداعبةِ، فقدْ حثنا النبيُّ محمدٌ “صلى اللهُ عليهِ وسلمَ” على الرحمةِ بالأطفالِ قائلًا: “ليسَ منا مَنْ لا يرحمُ صغيرنا”، ليرسخَ بهذا الحديثِ أنَّ التربيةَ السويةَ لا تقومُ على القسوةِ؛ بلْ على الحبِّ والاحترامِ المتبادلِ، مما يغرسُ الثقةَ اللازمةَ في نفسهِ ليتحملَ مسئوليةَ القيادةِ مستقبلًا.
ومِنْ أهمِّ هذهِ الحقوقِ، حقُّ الطفلِ في التعليمِ؛ باعتبارهِ فريضةً دينيةً ووسيلةً لعمارةِ الأرضِ وخدمةِ الإنسانيةِ، وهوَ حقٌ يهدفُ إلى تكوينِ وعيهِ وإعدادهِ ليكونَ صانعَ قرارٍ وعضوًا فعَّالًا في المستقبلِ. وهذا العلمُ النافعُ هوَ السلاحُ الذي يحمي فكرَ الطفلِ مِنَ الجهلِ والانحرافِ، ومِنَ الوقوعِ فريسةً للشائعاتِ المضللةِ والمعلوماتِ الكاذبةِ، وهوَ ما دفعَ المؤسساتِ الإسلاميةِ قديمًا إلى توفيرِ التعليمِ مجانًا، كترجمةٍ عمليةٍ لهذا الحقِّ.
وعلى الجانبِ الماديِّ والاجتماعيِّ، أقرَّ الإسلامُ حقَّ الطفلِ في النفقةِ العادلةِ دونَ تقصيرٍ، وضمنَ لهُ نصيبَهُ في الميراثِ حتى لوْ كانَ رضيعًا، لتبقى الأسرةُ متماسكةً وعادلةً، مما يوفرُ لهُ الأمانَ الاجتماعيَّ اللازمَ للانطلاقِ نحو الإنجازِ.
ومعَ ذلكَ، تواجهُ هذهِ الحقوقُ اليومَ تحدياتٍ ضخمةً في عصرنا الرقميِّ المفتوحِ؛ حيثُ أصبحَ الطفلُ يعيشُ وسطَ شاشاتٍ مضيئةٍ أكثرَ مما يعيشُ بينَ الأيدي الحانيةِ، وباتَ معرضًا لخطرِ الإهمالِ المعنويِّ والعاطفيِّ، والتنمرِ الإلكترونيِّ، والمحتوى العنيفِ أوِ المضللِ الذي يهددُ براءتَهُ ويشكلُ وعيًا زائفًا. وهنا تكمنُ أخطرُ التحدياتِ التي قدْ تحولُ دونَ أنْ يكونَ هذا الجيلُ “صانعًا” للمستقبلِ، بلْ مستهلكًا تابعًا لهُ.
ولذا، فإنَّ الإصلاحَ الحقيقيَّ والعودةَ لروحِ الإسلامِ يكمنُ في إدراكِ الآباءِ والمربينَ أنَّ أولادهمْ أرواحٌ مستودعةٌ وأمانةٌ لديهمْ سيسألُونَ عنهمْ ويحاسبُونَ أشدَّ الحسابِ عنْ تقصيرهمْ في حقهمْ يومَ القيامةِ، وأنَّ رعايتهمْ عبادةٌ يؤجرونَ عليها.
ويجبُ إعادةُ بناءِ الوعيِ الأسريِّ والمؤسساتِ التعليميةِ والإعلاميةِ على أساسٍ إنسانيٍّ وإيمانيٍّ، لتربيةِ الطفلِ على الاختيارِ الواعي والرقابةِ الذاتيةِ المستمدةِ مِنَ الإيمانِ، فيقولُ اللهُ تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراءِ 36). إنَّ التمكينَ الحقيقيَّ للطفولةِ يبدأُ مِنْ تحصينِ الوعيِ، لا مِنْ المنعِ القسريِّ.
ومِنْ منطلقِ المبدأِ القرآنيِّ، يجبُ أنْ نحرصَ أيضًا على تعليمِ الطفلِ أنْ يستخدمَ التقنيةَ بحرصٍ ومسئوليةٍ، كما يجبُ تخصيصُ الآباءِ وقتًا للحديثِ واللعبِ المشتركِ معَ أبنائهمْ بعيدًا عنِ الشاشاتِ؛ لغرسِ الأمانِ العاطفيِّ والتحصينِ الأخلاقيِّ؛ لأن الإيمانُ هوَ جدارُ الحمايةِ الحقيقيُّ في عالمٍ مفتوحٍ لا تحكمهُ الحدودُ.
في النهايةِ، التربيةُ السليمةُ للطفلِ يجبُ أنْ يتسعَ مفهُومُها ليشملَ التربيةَ الرقميةَ الصحيحةَ، التي لا ترفضُ التكنولوجيا رفضًا كاملًا، بلْ هيَ تسخيرها لخدمةِ القيمِ الإنسانيةِ والمجتمعِ، وتعليمِ الأطفالِ أنْ يكونوا صُنَّاعَ محتوىً هادفٍ وناجحٍ، لا مجردَ مستهلكينَ سلبيينَ. وعندما نُحسنُ تأديبَ ورعايةَ هذهِ الطفولةِ، نكونُ قدْ أنشأنا جيلًا رقميًا يحملُ الروحَ الإسلاميةَ الأصيلةَ، وبذلكَ تتحولُ التكنولوجيا مِنْ وسيلةِ خطرٍ إلى وسيلةِ تقدُمٍ، وتُصبحُ الطفولةُ بحقٍّ هيَ صانعةُ الحياةِ والمستقبلِ المشرقِ للأمةِ.