خطبة تحت عنوان : ليس منا من دعا إلى عصبية ( التعصب وخطره ) للشيخ ثروت سويف


خطبة تحت عنوان : ليس منا من دعا إلى عصبية ( التعصب وخطره )

للشيخ ثروت سويف

بتاريخ 21 من جمادى الآخرة 1447ه الموافق 12 ديسمبر 2025م 

اقرأ في هذه الخطبة

أولاً: الناس سواسية
ثانياً : التعصب تعريفه وخطره
ثالثاً : التعصب فتنة
رابعاً : التعصب لا يكون إلا لله ورسوله
خامساً : التعصب الرياضي وأضراره

الخطبة الأولي

الحمد لله، رفَع السماءَ بغير عماد، وأرسى الأرض بالأوتاد، أحمده -سبحانه فنعمه تجلُّ عن الحصر والتعداد

وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة حق ويقين، أدخرها ليوم المعاد

وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا

وَكِدْتُ بَأَخْمُصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي

وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيًّا

وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، رفع أعلام الملة، وجاهَد في الله حقَّ الجهاد، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، البررة الأمجاد والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم التناد

أما بعد

عباد الله، احذروا وساوس الشيطان، فإنه إياكم يكيد ، ولتفريق شملكم يريد ، فقد صح بذلك الوعيد والتهديد ، أخبر به أنصح الخلق عليه الصلاة والسلام فقال فيما روي مسلم من حديث جابر بن عبدالله ((إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُم)) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه

نعم، والله إنك لتجد الرجل يقيم شعائر الدين، ويبكي من خشية الله، وفيه خير كثير، ثم تجده بعد ذلك قدْ ملئ قلبه بالعصبية، فلأجلها يحب ومن أجلها يعادي، ألا يعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى أحمد عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ.

أولاً: الناس سواسية

عباد الله : إن الناس سواء كأسنان المشط وإنما يتفاضلون بالعاقبة والمسلم ‌كثير ‌بأخيه المسلم ولا خير في صحبة من لا ترى لك مثل الذي ترى له

وإن الإسلام يرفع من شأن الإنسان ويساوي بين الناس في الأصل، والتقوى هي المعيار الوحيد للتفاضل

قال الله جل شأنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الْحُجُرَاتِ: 13].

صحَّ أنَّ ابنَ عباسٍ ــ رضيَ اللهُ عنهُما ــ قالَ: (( لَا أَرَى أَحَدًا يَعْمَلُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }، فَيَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: أَنَا أَكْرَمُ مِنْكَ، فَلَيْسَ أَحَدٌ أَكْرَمَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِتَقْوَى الله )).

إنه تعارُف يدفع التناكر، وتآلُف يدفع التخالف؛ إنه لم يجعلهم شعوبا وقبائل ليبغي بعضهم على بعض، ولا ليُذيق بعضُهم بأسَ بعض، ولا ليلعن بعضهم بعضا، ولم يجعل لغاتهم سببا في اجتماعهم ولا ألوانهم ولا أراضيهم، وإنما جعَل لهم دينًا يجمعهم ولا يفرِّقهم، ويُصلِحهم ولا يُفسِدهم، وينفي العصبية والعبية عنهم، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد، إلا أن ثمة أقواما يفسِّرون الأمور وفق ما يريدون، لا وفق حقيقتها التي أرادها لهم خالقهم، بحكمته وعدله؛ حيث يقودهم الهوى لا العقل، والطيش لا الحكمة، فهم يغلِّبون الإرادة على الإدارة، والعمى على الهدى، حتى أحدث صنيعهم هذا نهجا خداجًا غير تمام، برزت بسببه عصبية بئيسة، وقبلية مقيتة، وقومية وشعبوية وشعوبية، فإن التعصب -يا رعاكم الله- يولِّد في نفس صاحبه احتقار من ليس في فلكه، ولا هو من لونه ونسبه، وكفى بذلك إثما مبينا، وشرا مستطيرا، كيف لا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم” (رواه أبو داود).

إن الشخصية الحقيقية للإنسان تكمن في أخلاقه وأدبه وفضله، لا في نسبه أو أصله، فالأدب يرفع صاحبه ويغنيه عن التفاخر بالأنساب، والفتى الأصيل هو الذي يعرّف عن نفسه بفعله لا بما كان عليه أبوه في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».

كُن ابنَ مَن شِئتَ واكتَسِب أدباً يُغنيكَ مَحمودُهُ عن النَسَبِ

إنَّ الفتى مَنْ يقولُ ها أنا ذا ليس الفتى مَنْ يقولُ كان أبي

وفي مسند أحمد قال صلى الله عليه وسلم: «انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ابْنُ الْإِسْلَامِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام: أَنَّ هَذَيْنِ الْمُنْتَسِبَيْنِ أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الْجَنَّةِ فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الْجَنَّةِ».

ويحدث الأَصْمَعِيُّ فيقول:.. بَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، إِذْ رَأَيْتُ شَابًّا مُتَعَلِقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ:

يَا مَنْ يُجِيبُ دُعَاءَ الْمُضْطَرِّ فِي الظُّلَمِ

يَا كَاشِفَ الضُّرِّ والْبَلْوَى مَعَ السَّقَمِ

قَدْ نَامَ وَفْدُكَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَانْتَبَهُوا

وَأَنْتَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَمْ تَنَمِ

إِنْ كَانَ جُودُكَ لا يَرْجُوهُ ذُو سَفَهٍ

فَمَنْ يَجُودُ عَلَى العَاصِينَ بِالْكَرَمِ

قَالَ: ثُمَّ بَكَى بُكَاءًا شَدِيدًا، وَسَقَطَ عَلَى الأَرْضِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَإِذَا هُوَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَقُلْتُ مَا هَذَا الْبُكَاءُ وَالْجَزَعُ، وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدَنِ الرِّسَالَةِ؟ فَقَالَ: “هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ يَا أَصْمَعِيُّ، إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَخَلَقَ النَّارَ لِمَنْ عَصَاهُ وَلَوْ كَانَ حُرًّا قُرَشِيًّا، أَلَيْسَ اللهُ تُعَالَى يَقُولُ: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون: 101]

ورُوِيَ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَرَّ مَعَ اَلْحَوَارِيِّينَ عَلَى جِيفَةٍ فَقَالَ اَلْحَوَارِيُّونَ مَا أَنْتَنَ رِيحَ اَلْكَلْبِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ مَا أَشَدَّ بَيَاضَ أَسْنَانِهِ وَ قِيلَ لَهُ لَوْ اِتَّخَذْتَ بَيْتاً فَقَالَ يَكْفِينَا خُلْقَانُ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا

ثانياً : التعصب تعريفه وخطره

التعصب غُلُوٌّ في الأشخاص، وفي الأُسَر، وفي المذاهب، وفي القوم، والقبيلة، وفي الطائفة، وفي المنطقة، وفي الفكر، وفي الثقافة، وفي الإعلام، وفي الرياضة، وفي كل شأن اجتماعي.

حقيقةُ التعصُّب هو: عدمُ قَبُول الحقِّ ممَّن جاءَ به، مع ظهور دليلِه؛ بسببِ ما في النَّفسِ مِن أغراضٍ وأهواءٍ وانحِيازٍ.

التعصُّبُ دِفاعٌ بالباطِل حينما يرَى المُتعصِّبُ أنه هو الذي على الحقِّ دائِمًا بلا حُجَّةٍ ولا بُرهانٍ، وغيرُه هو المُخطِئُ دائِمًا، وهو الذي على الباطِلِ دائِمًا ولو كان معه الحُجَّةُ والبُرهانُ.

والعِنادُ والانغِلاقُ والتحجُّرُ وعدمُ التوافُق ورفضُ التعايُش كلُّها أنواعٌ مِن التعصُّب، وكلُّها تمُدُّ صاحِبَها بأسبابِ الكراهية والشَّحناء، وتُفوِّتُ فُرصَ الاجتِماع والتآلُف، وحلِّ المُشكِلات، والبناءِ، والتعاوُن.

والتعصُّبُ لا يجتمِعُ مع التسامُح، والانفِتاح، وقَبُول الآخر

أما خطره

فالتعصُّبُ والعصبيَّة داءٌ فتَّاكٌ يقُودُ إلى اللَّجاجَة والتقليدِ الأعمَى، ويُولِّدُ

حجابًا غليظًا يصُدُّ عن قَبُول الحقِّ، وقَبُول الجديدِ المُفِيد، ويجعلُ

القَبِيحَ حسنًا، ويقلِبُ الحسَنَ قَبِيحًا.

وقد قال بعضُ الحُكماء:

التعصُّبُ عدُوٌّ مُستَتِر لم يُدرِك كثيرٌ مِن الناسِ خُطورتَه الماحِقة، وآثارَه المُدمِّرة .

العصبيَّة نَعرةٌ مُهلِكة تنمُو في النفسِ البشريَّة في البِيئة التي تحتَضِنُها،

يتربَّى عليها الصغيرُ، ويهرَمُ فيها الكبيرُ، رِجالًا ونِساءً، تُمزِّقُ العلاقات

الاجتماعية، وتسلُبُ رُوحَ الوحدة والأُلفة، وتنشُرُ بُذُورَ النِّفاق والفُرقة، وتُبدِّدُ الطاقاتِ، وتُضعِفُ القُوَى، وتهدِمُ البِناءَ.

وهل رأيتَ أعظمَ مِن مُتعصِّبٍ يرَى شِرارَ قَومِه خيرًا مِن خيارِ الآخرين؟!

التعصُّبُ يُورِثُ التمييزَ والانحِيازَ والتصنيفَ، ويبنِي حِجابًا كثيفًا على العقلِ والبصَرِ، ويمنَعُ مِن إدراكِ الحقِّ وابتِغائِه، والتمييز بين المصلَحةِ والمفسَدةِ.

التعصب -أيها المسلمون- يفتك بصاحبه فتكا حتى يجعل صدره ضيقا حرجا، لا يرى معه إلا نفسه، ومن كان في دائرة عصبيته، بخلاف السماحة التي تجعل صدر صاحبها دوحة واسعة الظل، ينعم بظلها كل أخ له في الدين، مهما كان بينهما من فروق اجتماعية أو اختلاف تنوُّع لا تضادّ فيه، ولا يبتر الأصول الجامعة بينهما تحت راية الدين العادلة

ولقد حذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم أشد التحذير روي الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن خرج من الطاعةِ ، وفارق الجماعةَ ، فمات ، مات مِيتةً جاهليةً ، ومن قاتل تحت رايةٍ عَمِيَّةٍ ، يغضبُ لعَصَبِيةٍ ، أو يَدْعُو إلى عَصَبِيَّةٍ ، أو ينصرُ عَصَبِيَّةً ، فقُتِلَ ، فقَتْلُه جاهليةٌ ، ومَن خرج على أمتي يَضْرِبُ بَرَّها وفاجرَها ، ولا يَتَحاشَا من مؤمنِها ، ولا يَفِي لِذِي عُهْدَةٍ عَهْدَه ، فليس مِنِّي ، ولستُ منه))

ولقدْ أخبَرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُكرِّهًا لَنَا هذا، التعصب وزاجِرًا لَنَا عنهُ: ، فيما روي مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ (( أَرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ في الأحْسابِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ، والنِّياحَةُ. وقالَ: النَّائِحَةُ إذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِها، تُقامُ يَومَ القِيامَةِ وعليها سِرْبالٌ مِن قَطِرانٍ، ودِرْعٌ مِن جَرَبٍ)

ولقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من المتعصب في سنن أبي داود فعن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليْسَ مِنَّا مَن دَعا إلى عَصَبِيَّةٍ وليسَ مِنَّا مَن قاتَل على عَصَبِيَّةٍ وليْسَ منَّا مَن مات على عَصَبِيَّةٍ». وهذا الحديث قوَّى إسناده ابن باز رحمه الله وغيره

واسمعوا إلى هذه الكلمة الحكيمة، من الحكيم عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، فقد سألوه: “ما أبطأَ بكَ عن الإسلام؟ وأنتَ مَنْ أنتَ في عقلك؟ فقال: إنَّا كنا مع قوم لهم علينا تقدُّم سِنٍّ، توازي أحلامُهم الجبالَ، ما سلكوا فجًّا فتبعناهم إلا وجدناه سهلًا، فلما أنكروا على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنكرنا معهم، ولم نفكر في أمرنا، وقدرناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتتدبرنا فإذا الأمر بين، فوقع الإسلام في قلبي”.

إن الإسلام قد جعل التعصب لا على اللون ولا على القبيلة ولا على الجنس بل يكون على العقيدة والدين، قال عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وليس من العصبية أن يحب الإنسان قومه فعن فسيلة واثلة قالت سمعت أبي يقول سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: ((لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم)) الأدب المفرد .

ثم اعلموا -يا رعاكم الله– أنه ما مِنْ متعصِّب إلا كان رائده الهوى، والهوى يعمي ويصم، وما رئي متعصب قط عُرِفَ بالعدل والإنصاف، ولا متعصب متحلٍّ بالحلم والأناة، ولا متعصب وسطي، إنما المتعصب إمَّعة مقلِّد، عاصب عينيه خلف هواه، ومن هو معجَب به، وهو -دون ريب- داء مُعدٍ، ونتاج عَدْوَاهُ إصابةُ المتعصب بالاضطراب تجاه الصواب، فيرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويعيب على غيره ما هو واقع في أسوأ منه، إنه ما من امرئ إلا ولديه نقص من وجه، مهما بلغ في علمه وجاهه، ونَسَبِه ومذهبه، وكثيرون ممَّن يتجاهلون نقصَهم يجعلون دونَه ستارَ التعصب، ليُخفُوا من ورائه ما لا يريدون محلَّه إلا الكمال الزائف.

إذا استحضرنا ذلكم كله فلنعلم أنه لم يأت التعصب بلفظه ومعناه في الكتاب والسنة إلا على وجه الذم، وأنه ضربٌ من الطبائع الجاهلية، التي لا تستوي ومكارم الإسلام ومصالحه، فقد قال الله -جل شأنه-: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)[الْفَتْحِ: 26]، وقال صلى الله عليه وسلم: “إن الله -عز وجل- قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية وفخرَها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخرَهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكُونُنَّ أهونَ على الله من الجعلان، التي تدفع بأنفها النتن” (رواه أبو داود)

ثالثاً : التعصب فتنة

لقد حذر الله عز وجل هذه الأمة من محنة الفرقة وأنها هي السبب المباشر في هلاكها فقال عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}[الأنعام: 65]، وروى ابن كثير في تفسيرها بضعة عشر حديثاً في الصحاح، ما رواه الترمذي عن عبد الله بن خباب بن الأرت عن أبيه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فأطالها قالوا يا رسول الله صليت صلاة لم تكن تصليها قال أجل إنها صلاة رغبة ورهبة وإني سألتُ ربي ثلاثًا ، فأعطاني اثنتينِ ، ومنعني واحدةً ؛ سألتُ ربي أنْ لا يُهْلِكَ أمتي بالسَنَةِ ، فأعطانيها ، وسألتُهُ أن لَّا يُهْلِكَ أمتي بالغرَقِ ، فأعطانِيها ، وسألْتُهُ أن لَّا يَجْعَلَ بأسَهم بينَهم ، فمنَعَنِيها ) الترمذي

عباد الله: إن التعصب يؤدي دائماً إلى الفرقة والشتات، وقد حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً ونموذجاً للعصبية التي تؤدي إلى التناحر والفرقة فنهى عن ذلك وعده من أمور الجاهلية، في الحديث : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع أحد الصحابة من الأنصار ينادي: “يا للأنصار”، فَرَدَّ عليه أحد المهاجرين: “يا للمهاجرين”، فقال صلى الله عليه وسلم: “ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله، كسَع رجلٌ من المهاجرين رجلًا من الأنصار، -أي: ضَرَبَهُ-، فقال صلى الله عليه وسلم: “دَعُوها فإنها مُنتِنَةٌ” (رواه البخاري، ومسلم)

قال القرطبي: “منتنة: أي: مستخبَثة، قبيحة؛ لأنَّها تثير الغَضب على غير الحق، والتقاتُل على الباطل، ثم إنها تجرُّ إلى النار، كما قال: “مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ”(المفهم: 9/ 326).

قال ابن القيم -رحمه الله-: “الدعاء بدعوى الجاهلية؛ كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب، والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بعض يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه، وعباد الله: إذا كان التعصب مذموما في شريعتنا الغرَّاء فإنه يدخل في حكمه كل وسيلة تذكيه، سواء كانت على صورة أفراد أو هيئات أو جماعات أو نوادٍ، وسواء كان شِعْرا أو نثرا أو شعارا، فإن ما حرمت غايته حرمت وسيلته، وإذا أُحسِن ضبط الوسائل فلن توصل إلى غايات مذمومة، والمرء العاقل يدرك أن التعصب ضرب من الكبر والاستعلاء وادعاء الكمال، والحقيقة أن للمتعصب عورات وللسان أَلْسُنًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” (رواه أحمد وغيره)

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ... هَا هُوَ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلٌ عَرَبِيٌّ مِنْ قَبِيلَةِ غِفَارٍ، يَتَكَلَّمُ فِي نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَيُقَاطِعُهُ بِلاَلٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – بِلاَلٌ الْحَبَشِيُّ، الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ، الَّذِي أَصْبَحَ سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، بِلالٌ الَّذِي تَزَوَّجَ هَالَةَ النَّسِيبَةَ الشَّرِيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أُخْتُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ: “وَدِدْتُ أَنَّي زَوَّجْتُ بِلالًا إحْدَى بَنَاتِي”. وَقَالَ كَلِمَتَهُ الشَّهِيرَةَ: “أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا” – قَاطَعَ بِلالٌ أَبَا ذَرٍّ فِي الْحَدِيثِ، فَنَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: تُقَاطِعُنِي يا ابْنَ السَّوْدَاءِ!، قَالَ بِلالٌ: “وَاللهِ لأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ، غَضِبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَامْتُقِعَ وَجْهُهُ، وَتَأَثَّرَ كَثِيرًا، وَدَخَلَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَائِفٌ، دَخَلَ فَسَلَّمَ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ هَلْ رَدَّ عَلِيَّ السَّلامَ أَمْ لَا مِنَ الْغَضَبِ؟، وَالْتَفَتَ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَنِّبًا وَمُؤَدِّبًا، فَقَالَ: “أَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ”. أَيْ مَا زَالَ فِيكَ خِصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْجَاهِلِيَّةِ! نَدِمَ أَبُو ذَرٍّ وَبَكَى، وَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَعَلَى كِبَرِ سِنِّي؟ أَيْ: أَفِيَّ جَاهِلِيَّةٌ عَلَى كِبَرِ سِنِّي؟ قَالَ: “نَعَمْ”، خَرَجَ أَبُو ذَرٍّ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ضَاقَتْ بِهِ الدُّنْيَا، فَلَقِيَهُ بِلالٌ، فَوَضَعَ أَبُو ذَرٍّ رَأْسَهُ عَلَى التُّرَابِ، وَقَالَ: لَا أَرْفَعُ رَأْسِي حَتَّى تَطَأَهُ بِقَدَمِكَ، أَنْتَ الْكَرِيمُ، فَبَكَى بِلالٌ وَاحْتَضَنَ أَبَا ذَرٍّ فَوْقَ التُّرَابِ، وَقَالَ: وَاللهِ، لَا أَطَؤُكَ بِرِجْلِي.

رابعاً : التعصب لا يكون إلا لله ورسوله

أَيُّهَا المؤمنون! جعل الله عَزَّ وَجَلَّ قوام هٰذَا الدين عَلَىٰ الاتِّبَاع، ولم يجعله عَلَىٰ محض التقليد وَالتَّعَصُّب، اتِّبَاع رسول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بعثه الله إلينا نبيًّا خاتمًا رسولًا، فمن أطاعه؛ دخل الجَنَّة، ومن عصاه؛ دخل النَّار، قَالَ الله جَلَّ وَعَلَا في حق نصارى نجران لمَّا قدموا عليه صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وادّعوا أنهم يحبون الله، وأنهم يطيعون الله، وأنهم يعبدون الله، أنزل الله اختبارهم في آل عمران

فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 31، 32

وَالاتِّبَاع يا عباد الله هو اتِّبَاع لهذا النَّبِيّ بعلم ورشَد، لا محض تقليد وتعصُّب؛ ولهذا لما استبَّ رجل يهودي مع رجلٍ مسلم في سوق من أسواق المدينة وهما يتبايعان سلعة، قَالَ المسلم: “لا وَالَّذِي اصطفى مُحَمَّدًا عَلَى البشر”، فَقَالَ اليهودي: “لا وَالَّذِي اصطفى موسى عَلَى البشر”، فلطم المسلم اليهودي، فجاء اليهودي شاكيًا إِلَىٰ النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فعل هٰذَا المسلم، وهو معدود من الصَّحَابَة، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -ناصر الحق، غير متعصبٍ لصاحبه، قَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى بن عمران» فإني أفيق يوم القيامة، «فإن النَّاس يُصعقون يوم القيامة فأفيق، فإذا موسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم أنه جوزي بصعقة الطور؟»

إنَّ من التَّعَصُّب المذموم يا عباد الله: ما يثير الشحناء والبغضاء، ويورث في القلوب الضغائن: التَّعَصُّب للقبيلة، وَالتَّعَصُّب للعرق، وَالتَّعَصُّب للأرض، وَالتَّعَصُّب الَّذِي درج الآن بين شباب من المسلمين، وهو التَّعَصُّب الرياضي لناديه الَّذِي يشجعه أو لفريقه الَّذِي يحبه، هٰذَا التَّعَصُّب المذموم أورث في النَّاس أحقادًا، تأخذ عَلَىٰ ذلك سنين، قبل أن تزول عن صدورهم وعن قلوبهم.

روى النسائيُّ وصحَّحه ابْنُ حِبَّانَ عن الحارثِ الأشعريِّ -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “مَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ” -أي من مجموع أهل جهنم- قال رجلٌ: يا رسول الله وإِنْ صَام وصلَى؟ قال: “نَعم، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ بِمَا سَمَّاهُمُ الله الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ الله”(مسند أحمد 22961).

فال القرطبي: “وقد أبدل الله مِن دعْوى الجاهليةِ دعْوَى المسلمين، فيُنادَى: يا للمسلمين” (المفهم: 9/326

مجالس الدهماء تروجها ، وأشعار الجهلاء ترددها، كلما خبت نارها جاء من يسعرها، ويحذر من نسيانها والغفلة عنها إنها العصبية الكروية

ذَكَرَ الذَّهَبِيُّ أَنَّ الزُّهْرِيَّ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ قَدِمْتَ؟ قَالَ الزُّهْرِيُّ مِنْ مَكَّةَ. قَالَ: فَمَنْ خَلَّفْتَ يَسُوْدُهَا؟ قُلْتُ: عَطَاءٌ. قَالَ: أَمِنَ العَرَبِ أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قُلْتُ: مِنَ المَوَالِي. قَالَ: فِيْمَ سَادَهُم؟ قُلْتُ: بِالدِّيَانَةِ وَالرِّوَايَةِ. قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الدِّيَانَةِ وَالرِّوَايَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُسَوَّدُوا.

فَمَنْ يَسُوْدُ أَهْلَ اليَمَنِ؟ قُلْتُ: طَاوُوْسٌ. قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ، أَوِ المَوَالِي؟ قُلْتُ: مِنَ المَوَالِي.

قَالَ: فَمَنْ يَسُوْدُ أَهْلَ الشَّامِ؟ قُلْتُ: مَكْحُوْلٌ. قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ، أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قُلْتُ: مِنَ المَوَالِي، عَبْدٌ نُوْبِيٌّ أَعْتَقَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ هُذَيْلٍ.

قَالَ: فَمَنْ يَسُوْدُ أَهْلَ الجَزِيْرَةِ؟ قُلْتُ: مَيْمُوْنُ بنُ مِهْرَانَ، وَهُوَ مِنَ المَوَالِي.

قَالَ: فَمَنْ يَسُوْدُ أَهْلَ خُرَاسَانَ؟ قُلْتُ: الضَّحَّاكُ بنُ مُزَاحِمٍ مِنَ المَوَالِي.

قَالَ: فَمَنْ يَسُوْدُ أَهْلَ البَصْرَةِ؟ قُلْتُ: الحَسَنُ مِنَ المَوَالِي.

قَالَ: فَمَنْ يَسُوْدُ أَهْلَ الكُوْفَةِ؟ قُلْتُ: إِبْرَاهِيْمُ النَّخَعِيُّ.

قَالَ: فَمِنَ العَرَبِ، أَمْ مِنَ المَوَالِي؟ قُلْتُ: مِنَ العَرَبِ.

قَالَ: وَيْلَكَ! فَرَّجْتَ عَنِّي. قَالَ الزُّهْرِيُّ: قُلْتُ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، إِنَّمَا هُوَ دِيْنٌ، مَنْ حَفِظَهُ، سَادَ، وَمَنْ ضَيَّعَهُ، سَقَطَ.

وقد جمع الله الناس بالإسلامِ، ونَسَبهم إليه؛ فهو أشرف أنسابهم، فإنْ أحب امرؤٌ فليحب عليه، وإن خصَّ امرؤٌ بالمحبة مَا لم يحمل على غيرِهم ما ليس يحِلُّ له، فهذه صلة ليست بمعصية. وقد قال ابن مسعود -رضي الله عنه- كما عند أبي داود: “مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الَّذِى رُدِّيَ فَهُوَ يُنْزَعُ بِذَنَبِهِ”(سنن أبي داود 5117).

قال الخطابي: “معناه أنه قد وقع في الإثم، وهلك كالبعير إذا تردَّى في بئرِ فصار ينزع بذَنَبِه، ولا يقدر على الخلاص”(معالم السنن 4/ 148)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[المائدة: 55-56].

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم

الخطبة الثانية

الحمدُ لله، الحمدُ لله حمدَ الشَّاكِر، سبحانه وبحمدِه لا يُحصِرُ نِعمَه حاصِر،

خيرُه فائِض وإنعامُه وافِر، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له

شهادةً أدَّخِرُها ذُخرًا لليوم الآخِر، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ

الله ورسولُه خيرُ حامِدٍ وأفضلُ ذاكِر، صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهِرين،

وأصحابِه الغُرِّ الميامِين كلُّهم لدينِ الله ناصِر، والتابِعين

ومَن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا الكثيرَ المُتكاثِر.

أما بعدُ:

خامساً : التعصب الرياضي وأضراره

إن التعصب أضراره ومساوئَه التي سوَّدَت صحائِفَ التاريخ،

وكَم واجَهَ الأنبياءُ – عليهم السلام – والمُصلِحُون مِن عوائِقَ في

طريقِ هدايةِ الناسِ وإصلاحِ البشريَّة، وقائِدُ ذلك ورائِدُه التعصُّبُ.

وقد قال إمامُهم ورائِدُهم إلى النار:

{ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ }

[غافر: 29].

إن القضيةَ ليست في متابعَةِ الرِّياضةِ، أو عدَمِها، بلِ القضيَّةُ الَّتي على عقلائِنا، وعَلى الترْبَوِيِّين بخاصةٍ أن يعْتَنُوا بها هي التعصُّب الرياضيُّ، كيف يُسيْطر المتابعُ على مشاعرِه؟ وكيف يتغلَّبُ على نَزَغَاتِ الشيطانِ والهوى؟

لِنُناقِشِ القضيَّةَ مع أبنائِنا؛ لِنُحاوِرْهُم عن معنى الهزيمةِ في الرياضةِ، ومعنى الانتصارِ، وبحمدِ الله فإنَّ النماذِجَ التي حكَّمَتْ عقْلَها ونظرَها هي الغالبةُ والطاغِيَةُ، ولكنَّ النارَ تبدأُ من مُسْتَصْغَرِ الشرَّرِ، فَكَمْ مِن مشجِّعٍ أضر بنفسه! وكَمْ مِن صحيحٍ مَرِضَ! وكَمْ من صديقَيْن تقاطَعَا! والله

بسببِ التعصُّبِ سُفِكَت الدماء، وضاعَت الحُقوق، وفشَا الظُّلم.

في التعصُّب هَدرٌ لطاقاتِ الأمة عجِيب، بل هو مِن أعظم مُعوِّقات التنمية،

فإذا دخَلَت العصبيَّةُ خُططَ التنمية، فقُل على أهلِها السلام، وسواءٌ في

ذلك الرياضية الاقتصاديَّة، أو السياسيَّة، أو التعليميةَّ، أو الإداريَّة، أو الثقافيَّة،

أو الدينيَّة، أو غيرِها.

هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة فقد أمركم الله بذلك في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.