مبحث بعنوان ( التطرف بين إتباعٌ الهوى والإعجابٌ بالنفس ) للشيخ رضا الصعيدي


مبحث بعنوان ( التطرف بين إتباعٌ الهوى والإعجابٌ بالنفس )
للشيخ : رضا الصعيدي

للتحميل pdf اضغط أدناه

altatarof eteba alhawa

ما هي أهم أسباب التطرف الفكري ؟
وما عواقبه ؟
وكيف تتجاوز النفس حظوظها من الانسان ؟
وكيف يختلُّ ميزان الاعتدال، وتختلط الأفكار بين ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله ؟
وما الواجب علينا مع ذكر طرف من أحوال السلف الصالح ؟

حقيقة التطرف :

جاء في زاد الأئمة والخطباء : أن التطرف ليس ظاهرةً مرتبطة بالدين وحده، بل هو سلوك إنساني قد يظهر في أي مجال يمارس فيه الإنسان انتماءه أو قناعته، فالتطرّف في جوهره ليس فكرة دينية بقدر ما هو حالة نفسية وفكرية تنشأ حين يختلُّ ميزان الاعتدال، وتختلط الأفكار بين ما ينبغي فعله وما لا ينبغي أن نفعله، سواء كان التطرف دينيًّا أو رياضيًّا أو ثقافيًّا.

ان الإسلام يدعوا الى صيانة المجتمع من كل غلوّ يفسد العقول، أو تعصّب يهدّد وحدة الصف، أو اندفاع يجرف الإنسان بعيدًا عن جادّة الاعتدال، فالإسلام في مبادئه المقاصدية وأحكامه التربوية يرسّخ ميزانًا دقيقًا يحفظ للإنسان توازنه، ويجنِّبه مغبَّة الانجرار وراء الغلو الذي يبدِّد الطاقات ويُضعف بناء المجتمع.

ان أنماط التطرّف تتشابه في جذورها، مهما اختلفت مظاهرها؛ فالتعصّب لفريقٍ رياضي قد يحمِل السماتِ نفسَها التي يظهر بها التشنُّج لمذهب أو حزب أو رأي أو جماعة، وما ذاك إلا لأن المشكلة ليست في الميادين ذاتها، بل في الذهنيّة المتشدّدة التي تحوّل الاختلاف إلى تهديد، والرأي المخالف إلى خصم يجب إسقاطه.

حقيقة العجب واتباع الهوى :

ان أهم أسباب التطرف الفكري هو اتباع الهوى والعجب بالنفس ، قال الشعبي: [إنما سمي الهوى؛ لأنه يهوي بصاحبه] ، ان كلا من اتباع الهوى والعجب بالنفس عمى للبصيرة ، لأنه يرى نفسه على حق ، والحقيقة خلاف ذلك ، قال تعالى :  قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً  [الكهف:103-104] ولذلك تعهد إبليس أن ينشر في البشر اتباع الأهواء حتى يرى الواحد منهم نفسه على الحق، فلماذا يستغفر؟ قال الأوزاعي: [قال إبليس لأوليائه: من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء، قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ قالوا: هيهات ذاك شيء قُرن بالتوحيد، قال: لأبثن فيهم شيئاً لا يستغفرون الله منه، قالوا: فبث فيهم الأهواء].

وقال ابن المبارك :

ومن البلاء وللبـلاء علامـة     ألا ترى لك عن هواك نزوعُ

العبد عبد النفس في شهواتـ           ـها والحر يشبع مرة ويجوعُ

التحذير من اتباع الهوى :

يحذّرنا الشرع الشريف من الميل مع الأهواء على حساب الأوامر والنواهي، ويوجّهنا إلى ضبط ميول النفس مهما كانت محبَّبة، قال تعالى: ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء: ١٣٥]، وقال أيضًا ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: ٢٦]، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠].

وقال تعالى :  وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا  [الأنعام:150] ..  قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ  [الأنعام:56]..  وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ  [المائدة:77] والمقصود بهذه الآيات نوع من الكفار هم أهل الكتاب:  فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ  [المائدة:48] ..  فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ  [الشورى:15].

قال الشاطبي رحمه الله تعالى: مخالفة ما تهوى الأنفس شاقٌ عليها، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى بأهله مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال، كفار قريش خرجوا في معركة بدر وأهلكوا النفوس والأموال في سبيل الهوى الذي استقر في نفوسهم، وتمكن من قلوبهم، فحرمهم الاستفادة والاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، الهوى سواءً كان عند أبي جهل وغيره هو: حب الرئاسة، وسواءً كان عند سدنة الأصنام هو: حب الأصنام، وسواءً عند الغوغائيين والتبع هو: حب من يعتقدون أنه قدوتهم وأنه من أئمتهم وهم من أئمة النار في الحقيقة. فإذاً هؤلاء رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، أليس كذلك؟ حتى قال الله تعالى في شأنهم:  أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ  [الجاثية:23] وقال:  أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ  [محمد:14] ويقول ابن القيم رحمه الله مبيناً أهمية تخليص الأعمال من الهوى، يقول في شأن القلب وحال الإنسان: ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص.

اتباع الهوى ينافي الوسطية :

 ويؤكد ما جاء في زاد الأئمة والخطباء : قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: ٦٧]، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩]، وقوله تعالى: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ١١٠]. [الأمثال الكامنة في القرآن الكريم].. وفي  الأثر “خيرُ الأمورِ أوساطُها” [رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد مرفوعا، ورواه البيهقي من كلام مُطَرِّفِ بن عَبدِ اللَّهِ وَيَزِيدَ بن مُرَّةَ الْجُعفِيِّ] .

يقول الإمام المجد ابن الأثير: “كل خصلة محمودة، فإن لها طرفين مذمومين، مثل أن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والإنسان مأمور أن يتجنب كل وصف مذموم”. [جامع الأصول].

اتباع الهوى عجب بالنفس وذم للآخرين :

ويؤكد ما جاء في زاد الأئمة والخطباء : قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: ١١].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا … بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» [رواه مسلم].

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ» [رواه الترمذي، وأحمد].

اتباع الهوى تفرق وانهزام للجماعة :

ويؤكد ذلك ما جاء في زاد الأئمة والخطباء : عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ» [رواه أبو داود والترمذي].

قال الإمام الطيبي: “هذا من الخطاب العام الذي لا يختص بسامع دون آخر تفخيماً للأمر، شبه من فارق الجماعة التي يد الله عليهم، ثم هلاكه في أودية الضلال المؤدية إلى النار بسبب تسويل الشيطان، بشاة منفردة عن القطيع، بعيدة عن النظر، ثم سلط الذئب عليها، وجعلها فريسة له” [شرح مِشْكاة المصابيح].

الاستهانة بالذنوب والمعاصي:

فإن المتبع للهوى يقسو قلبه، وإذا قسا القلب استهان واستهتر بالذنوب والآثام، ولذلك قيل: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مر على أنفه فقال به هكذا.

اضلال الآخرين :

من أضرار اتباع الهوى ما يتعدى للآخرين وليس فقط على النفس، ولذلك فهو يضل الآخرين ويبعدهم عن الطريق، ولذلك قال عز وجل:  وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ  [الأنعام:119] ليضلون يعني يضلون غيرهم. إذاً: هذا من أضرار اتباع الهوى أنه يتعدى إلى الآخرين.

قبح صورته في القرءان :

ان الله سبحانه وتعالى قد شبه من يتبعون أهواءهم بأخس الحيوانات وأذلها وأحقرها ألا وهو الكلب، فقال عز وجل عن الرجل الذي أعرض عن آيات الله عز وجل:  وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ  [الأعراف:176].

قيل: كل حيوان يلهث من تعبٍ أو عطشٍ سوى الكلب فإنه يلهث بكل حال من الراحة والشدة والعطش والشبع والري والجوع، الكلب يلهث في كل حال.

فالرجل الذي يتبع الهوى عندما يتصور بأن حاله مثل حال الكلب، هل يا ترى يقدم على هذه الجريمة، وعلى هذه الشهوة؟! وشبههم الله تعالى مرة بالحمير، فقال:  كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ  [المدثر:50-51].

سوء العاقبة في الدنيا والآخرة :

ان الله عز وجل حرم الإمامة على متبع الهوى فقال تعالى : قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ  [البقرة:124] [البقرة:124] ، وقال :  بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ  [الروم:29]  ، فالظالم حرم من الإمامة لاتباع هواه ، فمتبع الهوى قد حرم من الإمامة في الدين، فلا يمكن أن يجعله الله عز وجل إماماً يؤتم به في الدين وهو متبع للهوى، فهو ليس بأهل لأن يطاع، ولا أن يكون إماماً ولا متبوعاً في الخير. وجعل الله متبع الهوى بمثابة عابد الوثن، فقال تعالى:  أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ  [الجاثية:23] وجعل الله حظار جهنم -الشيء الذي يحوط جهنم- الهوى والشهوات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) .. لأنه لما خلق الله جهنم قال لجبريل: اذهب فانظر إليها. قال في الحديث: (اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحدٌ فيكفر، فأمر بها فحفت بالشهوات، وقال لجبريل: ارجع فانظر إليها، فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد) قال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع الهوى من المهلكات، فقال: (أما المهلكات: فهوىً متبع، وشحٌ مطاع، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه).

 قال الفضيل بن عياض في كلام على أن اتباع الهوى يحرم العبد من إصابة الحق، ومن معرفة الدليل، ومن التوفيق في أمور الدنيا والآخرة، يقول: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات، انقطعت عنه موارد التوفيق.

ويسجل لنا جَابِر بن عبد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هذا الموقف النبوي الجليل الذي يحذر فيه أمته من دعوى الجاهلية “العصبية”، فيقول: كُنَّا فِي غَزَاةٍ  فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» [رواه البخاري ومسلم]. فكسع: أي ضربه من الخلف.

قال الإمام النووي: “وأما تسميته صلى الله عليه وسلم ذلك “دعوى الجاهلية”، فهو كراهة منه لذلك، فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا، ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال ذلك، وفصل القضايا بالأحكام الشرعية، فإذا اعتدى إنسان على آخر حكم القاضي بينهما، وألزمه مقتضى عدوانه كما تقرر من قواعد الإسلام”. [شرح النووي على صحيح مسلم].

وعن الزُّبَيْر بْن العَوَّامِ رضي الله عنه، قال: قال النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» [رواه الترمذي، وأحمد].

وقال تعالى: ﴿إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الفتح: ٢٦].

بين سبحانه ما كان عليه المشركون من جهالات وحماقات استولت على نفوسهم، فقال: ﴿إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾، والحمية: الأنفة والتكبر والغرور والتعالي بغير حق، يقال: حمي أنفه من الشيء -كرضي- إذا غضب منه، وأعرض عنه. [التفسير الوسيط].

ثمرات مخالفة هوى النفس :

البشرى بالجنة :

قال الله تعالى:  وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى  [النازعات:40-41] قال مجاهد : هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله:  وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى  [النازعات:40-41]. إذاً من أين أتى نهي النفس عن الهوى؟ كيف حصل للإنسان أن ينهى نفسه عن الهوى؟ حصل له هذا الشيء بالخوف من الله عز وجل، لأن الله قال:  وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى  [النازعات:40-41] ولذلك كان نهي النفس عن الهوى هي نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو سبب البلوى، وينبوع الشر، وقلَّ أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى.

لما مات سفيان الثوري رآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى، فحاسبني حساباً يسيراً ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أجول بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حساً ولا حركة إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد؟ فقلت: سفيان بن سعيد، قال: تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوماً؟ -تحفظ أنك يوم من الأيام قدمت الله على هواك؟- قلت: إي والله، فتأخذني النثار من كل جانب، والنثار ما يلقى على العروس عادة أو على الحضور قال: فأخذني النثار من كل جانب.

مخالفة الهوى جهاد للنفس :

قال تعالى : ؟!  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا – [العنكبوت:69] ، ولو تأمل صاحب الهوى، أو الذي يأتيه الهوى ما له من العاقبة الحسنة إذا خالفه هواه، ومن النور الذي يدخله الله في قلبه، لثبت عند هذا ووقف، قال بعض السلف : الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده. تأمل! الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، فتح مدينة بأكملها من شخص واحد أمر عسير جداً، لكن أعسر منه أن يخالف الإنسان هواه.

كان بعضهم يطوف في البيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال:

أهوى هوى الدين واللذات تعجبني           فكيف لي بها واللذات والدين

قال: أنا أهوى الدين، لكن اللذات التي أراها تعجبني، فكيف أجمع بين هوى اللذات وبين الدين؟ فقالت المرأة: دع أحدهما تنل الآخر..

قال الشافعي:

إذا حار وهمك في معنيين وأعـيـاك حيـث الهـوى والصـواب

لم تستطع أن ترجح أيهما، ولم تعرف أيهما الهوى وأيهما الصواب

فدع ما هويت فـإن الهــوى يقـود الـنفـوس إلـى ما يُعـاب

قال أحد السلف : اعلم أن البلاء كله في الهوى، والشفاء كله في مخالفتك إياه، قال بعض الحكماء: إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه.

وفي الحديث : (… فإن من ورائكم أيام صبر، الصبر فيها مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم).

قال تعالى:  فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ  [القصص:50] وقال تعالى في نقص الكفار:  إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى  [النجم:23].

ان اتباع الهوى عمى للبصيرة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك الشيء يعمي ويصم) أي: يعمي عن الرشد ويصم عن الموعظة، وضبطها شيخٌ لي في النحو قرأت عليه: يعمي ويصمي.. وقال علي رضي الله عنه: الهوى عمى.

مخالفة الهوى سبيل الى امارة الدنيا :

تأمل حال يوسف وفكر لما دعته امرأة العزيز  وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ  [يوسف:23] يوسف الآن أمام هذا الموقف، امرأة جميلة وصاحبة منصب وهي سيدة، وهو عبدٌ, وهو غريبٌ عن بلده وشابٌ، وهو أعزبٌ، وقد غلقت الأبواب، وغاب الرقيب، وسيدها ليس له غيرة، لأنه قال بعد ذلك:  يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ  [يوسف:29] ليس للسيد غيرة، وليس هناك أحدٌ يشاهد، واجتمعت دواعي وقوع الفاحشة أمام يوسف عليه السلام مما لا يجتمع مثله بين رجل وامرأة قط، لما حدث هذا الأمر ؟؟؟

الجواب : تأمل لو أن يوسف عليه السلام وافق هواه ووقع على تلك المرأة، هل سيصبح نبياً صديقاً؟!!!! قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذه القصة نحواً من ألف فائدة، ولعل الله أن يعينني لإفرادها بمصنفٍ مستقلٍ.

مخالفة الهوى اسظلال بظل العرش :

يقول ابن القيم رحمه الله في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) كيف نالوا هذا الظل؟ يقول: إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى.

إن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه؛ لأن عنده من القوة والنفوذ والسيطرة ما يستطيع به بسهولة أن يتابع هواه، فلما قاوم نفسه وقاوم هواه، وحكم شرع الله تعالى، ولم يتبع شهواته، وعدل بين الرعية كان له الظل يوم أن تدنو الشمس من رءوس العباد. والشاب المؤثر عبادة الله على داعي الشباب لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، لولا أن هذا الشاب الذي نشأ في طاعة الله خالف هواه لما نشأ في طاعة الله، والرجل الذي قلبه معلقٌ بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة هواه الداعي له إلى أماكن اللذات، خالف الهوى الذي يدعوه إلى الذهاب إلى أماكن اللذات، وصار يذهب إلى أماكن العبادة والمساجد، أعقب الله عز وجل له الأجر الجزيل بأن أظله في ظل عرشه.

والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه (هوى الرياء) وهوى أن يشاهده الناس، وأن يتحدثوا عن كرمه لم يقدر على ذلك، لو ما خالف هذا الهوى لما صار في هذا المكان يوم القيامة.

 والذي دعته المرأة الشريفة الجميلة، فخاف الله عز وجل وخالف هواه، نال نفس الكرامة. والذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشيته، إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيلاً عليهم يوم القيامة.

الواجب علينا :

الاعتراف للآخرين بالفضل  :

قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ [المائدة: ٨]، أي: لا يحملكم بغض أو منافسة على تجاوز الحقّ ..وقال الله سبحانه وتعالى:  وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ  [الأعراف:85] فالهوى يجعلك تبخس فلاناً حقه، وفلاناً جميله، وتنكر فضل فلان عليك، لا، تجرد إلى الله من هذا الهوى، أقر بفضل فلان وفلان من أهل الفضل، ولا تتعصب لعالم على آخر، اتبع الحق بدليله، لا تتبع هواك في انتقاء الأحكام….تجرد وتفكر، تجرد لله عز وجل، قل: أنا أخطأت، قولك: إنني مخطئ يزيدك في أعين الناس جلالةً وقدراً، خلاف ما يصور لك الشيطان، وما يصور لك اتباع الهوى من أنه ينقصك ويدني منزلتك، كلا، إن كثيراً من السلف من الأسباب التي وصلوا إليها أنهم كانوا معترفين بأخطائهم، عمر بن الخطاب كان يقف على المنبر، ويعلن أمام الناس أنه مخطئ، ولذلك شهد التاريخ لنا بعظمة عمر ؛ لأنه كان من جوانب عظمته أنه كان يقر بخطئه وهو خليفة المسلمين، الرجل الذي يجب أن يظهر أمام الناس بأحسن صورة، حتى لا يقول الناس أخطأ الخليفة.

مخالفة هوى النفس :

قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحدٍ إلا وله شيطان) أي: يأمر بالشر، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره بالشر، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (إلا أن الله أعانني عليه فأسلم) قيل: إن هذا الشيطان أسلم أي: صار مسلماً، وقيل: المعنى: فأسلم أنا من شره، أي: حتى الشيطان للرسول صلى الله عليه وسلم أسلم، فصار الرسول صلى الله عليه وسلم لا أحد يأمره بالشر. فإذاً هذا منتهى النعيم العظيم أن الإنسان يسيطر على هواه، فلا يدخل الهوى عليه، ولا يجد عليه سبيلاً.

ويتجرد الإنسان إلى الله عز وجل من هوى الفوضى الذي يحمله على عدم ضبط مواعيده، وعلى عدم الانضباط في طلب العلم والإقبال على مائدة القرآن والسنة. تجرد إلى الله، بعض الناس يأتيه الهوى، فيقول: أنا أستطيع أن أتعلم لوحدي، أنا أستطيع أن أمشي لوحدي، وهذا في نفسه هوى الفوضوية هو الذي يعمي عينيه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية).

الاستعانة بالله عز وجل وربط القلب به سبحانه:

أيها الإخوة: أول ما يحتاج الإنسان في معالجته الاستعانة بمولاه على هذا الأمر، وهو الله عز وجل، ولذلك -أيها الإخوة- كان لا بد من فتح الطريق مباشرةً بين العبد وبين ربه في استعانته بمولاه على هذا الهوى الذي يصيبه، ولذلك كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي و الطبراني و الحاكم عن زيد بن علاقة رضي الله عنه وهو حديث صحيح وهو في صحيح الجامع ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) رواه الترمذي وهو حديث صحيح، وكان إبراهيم يدعو فيقول: [اللهم اعصمني بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ومن اختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى بغير هدى، ومن سبيل الضلال، ومن شبهات الأمور، ومن الزيغ واللف والخصومات].

اتقوا الشبهات :

إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه.. فأحياناً في بعض التصرفات الإنسان قد يشتبه عليه أكلة من الأكلات، هل هذه الأكلة فيها شيء محرم، أم ليس فيها شيء محرم؟ وليس عنده دليل يقطع فيها بأنها محرمة، فهل يأكل، أو لا يأكل؟ ينظر ماذا تميل إليه نفسه، غالباً يجد أن نفسه تميل إلى الأكل، فإذاً يخالف الهوى ولا يأكل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا الشبهات) وغالباً ما تهوى النفس الوقوع في الشبهات، فلذلك لا بد من المخالفة، وهذا من أكبر العلاجات.