بقلم د. بدر الفيومي دكتوراه في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي المعاصر
كان العرب الأوائل يمتلكون قدرة فطرية فائقة على التقاط المعاني من أقل الإشارات، إذ صقلتهم حياة الصحراء القاسية، فصاروا يقرأون العلامة قراءة الخبير الذي لا يحتاج إلى فلسفة معقدة أو اصطلاحات نظرية ليصل إلى الحقيقة.
ومن هذا النسق الفطري العميق جاءت إجابة ذلك الأعرابي (القرن الأول الهجري أوائل القرن الثاني الهجري) حين سُئل: كيف عرفت ربك؟، فأجاب بكلمات قليلة تختصر مسارًا طويلًا من التأمل (إن البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟).
ومما يثير التعجب أن هذا الأعرابي، على بساطة عيشه وقلة اطلاعه على دقائق العلوم وما استقر في بيئات الحضر من جدل ومعارف، نطق بجملة تبدو لأول وهلة ثمرة فطرة بدوية لا تعرف التعقيد. غير أنّها، عند التأمل، تكشف عن اختزال مذهل لما ملأ كتب الفلاسفة من براهين، وما بناه كل واحد منهم من نسق عقلي في تفسير وجود الله، وما وضعه المتكلمون من أدلة ومصطلحات دقيقة في بحثهم عن المبدأ الأول، حيث جمعت عبارته، في بساطتها الظاهرة، خلاصة مسارات فكرية امتدت لقرون، وكأنها تلخّص في سطور ما لم تستطع المجلدات المتراكمة جمعه على هذا النحو من الإيجاز والإحكام. فيبدوا من كلماته كأنها استعادة صافية للفطرة الأولى قبل أن تتكاثف حولها طبقات الجدل العقلي.
فإذا ما نظرنا في المسالك المتعددة التي برهنت على معرفة الإنسان بخالقه؛ فسنجد أن الفلاسفة القدماء، مثل أفلاطون (427 ق.م 347 ق.م) وأرسطو (384 ق.م 322 ق.م) وغيرهما ، كانوا يرون أن إدراك العلة الأولى هو ذروة النشاط العقلي الإنساني؛ فالعالم عند أفلاطون منظومة من المدركات التي تستند إلى مثال أعلى كامل، وعند أرسطو حركة مستمرة لا يمكن تفسيرها إلا بمحرّك أول لا يتحرك، غنيّ بذاته، لا يحتاج إلى شيء، بينما تحتاج إليه كل الأشياء.
هذه البذرة العقلية الأولى صارت لاحقًا أساسًا لنظريات البرهان العقلي التي امتد أثرها إلى الفلسفة الإسلامية. ثم جاء بعدهم الفلاسفة المسلمون فعمّقوا هذا البناء، وأعادوا صياغته بصورة أكثر نضجًا واتساقًا. فأبو نصر الفارابي (872م 950م) حاول ربط المنطق الأرسطي بنظرة كونية أكثر روحانية، ورأى أن سلسلة الموجودات تتدرج من الأدنى إلى الأعلى حتى تصل إلى الواجب الأول الذي لا يفتقر في وجوده إلى غيره. وبعده جاء ابن سينا (980م 1037م) ليقدّم واحدًا من أعظم الأدلة الفلسفية في تاريخ الفكر الإسلامي؛ وهو برهان (واجب الوجود)، القائم على التمييز بين الممكن الذي يحتاج إلى سبب، والواجب الذي يستغني بنفسه، وهو الدليل الذي ترك أثره على الفلاسفة والمتكلمين معًا.
وقد توسع ابن سينا في شرحه حين رأى أن كل ما في العالم ممكن الوجود، والممكن لا يقوم بذاته، فإذا جمعنا سلسلة الممكنات كلّها فإن العقل يُلزمنا بالبحث عن موجود ليس في ذاته مفتقرًا إلى غيره، بل هو أصل الوجود ومصدره.
ولم يقف تطور الفلاسفة عند هذا الحد، فقد جاء ابن رشد (520هـ 595هـ) ليقدم قراءة نقدية ويعيد ترتيب الأدلة العقلية مستندًا إلى ما سماه (دليل العناية) و(دليل الاختراع)؛ فانتظام الكون على هذا النحو يدل على قصد، وإحكامه يدل على عقل، وتماسك أجزائه يدل على حكمة. وهو بهذا حاول أن يجعل البرهان قريبًا من الحسّ الإنساني، لا مجرد استدلال تجريدي. وهكذا نجد أن المسار الفلسفي بأكمله من أفلاطون إلى ابن رشد كان سعيًا مستمرًا نحو تفسير وجود العالم عبر علة أولى أو محرّك أول أو واجب وجود.
غير أن كل هذه البنية العقلية، على عمقها وتماسكها، تُلخَّص في النهاية في العبارة الفطرية التي نطق بها ذلك الأعرابي ( الأثر يدل على المسير). أي أن العالم لا يقوم بنفسه، بل يدل على صانع. فهذا البناء العقلي الضخم، برغم دقته، لا يختلف في جوهره عن كلمة الأعرابي: أن الأثر يدل بالضرورة على المؤثر. فقول الفيلسوف إن الحركة تحتاج إلى محرّك، ليس إلا توسعة فلسفية لعبارة البدوي: “الأثر يدل على المسير”.
لكن الفيلسوف يستخدم لغة معقّدة تجذب المتخصصين، أما الأعرابي فيكتفي بصوت الفطرة الذي لم يُصب بالازدحام النظري. وإذا ما انتقلنا إلى ما جاء به المتكلمون المسلمون فنجد أنهم بذلوا جهودًا واسعة لصياغة أدلة عقلية على وجود الله وصفاته. فالمعتزلة (حوالي سنة 105 هـ / 723 م) اعتمدوا على مبدأ (التحسين والتقبيح العقلي) وقرّروا أن العقل قادر على معرفة الخالق من خلال حدوث الأجسام وتغيّر الأعراض.
ثم جاء الأشاعرة (حوالي سنة 300 هـ / 912 م) -في معرض ردهم وحجاجهم على الفلاسفة والمعتزلة- ليثبتوا حدوث العالم بدليل (تغير الأشياء)، ورأوا أن كل حادث لا بد له من محدث.
وواصل الماتريدية (القرن الثالث الهجري) براهينهم مؤكدين أن الكون لا يستقل بوجوده. وقد ظهرت في كتبهم مصطلحات دقيقة مثل الجوهر والعرض، والقديم والحادث، والفاعل المختار، والعلّة والسببية، وانشغلوا بجدالات طويلة مع الفلاسفة حول علاقة الله بالعالم وطبيعة الخلق وحدوث الزمان.
وبالرغم من كل هذا التعقيد، فإن لبّ أدلتهم كلها هو أن التغيّر يدل على المحدث، وأن الحدوث يدل على الخالق، وهي صورة أخرى لعبارة الأعرابي التي ربط فيها بين الأثر والمسير. فالمتكلم يجلس في حلقته يستدل بالأجسام والأعراض، والأعرابي يفحص الأثر في الرمال؛ والنتيجة أن كليهما ينتقل من الشيء إلى سببه، ومن الظاهر إلى الباطن، ومن المحدود إلى اللامحدود. وهذا موافق للنصوص الشرعية نفسها التي تدعو إلى النظر والتفكر.
فالنص القرآن يخاطب الإنسان بلغة أقرب للبدوي من الفيلسوف (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)، (وفي الأرض آيات للموقنين)، (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) . هذه النقولات القرآنية لا تطالب العقل ببناءات معقدة، بل تستفز الحس الأولي الذي يسكن الإنسان قبل أن يتعلم المصطلحات.
مما يدل أن على طريق الوحي يوقظ الفطرة نفسها التي تكلم بها الأعرابي. وبرغم ما قد يوحي بتباعد هذه المناهج في ظاهرها، إلا أننا نؤكد أنها تلتقي على أصل واحد، أن الكون ليس عبثًا، وأن وجوده دليل على خالق قادر حكيم. فالفيلسوف يصل إلى ذلك عبر الحركة والعلّة، والمتكلم يصل إليه عبر الحدوث والتغير، والأعرابي يختصر الرحلة كلها حين يربط بين أثر في الرمال ووجود مسير مستدلا بدليل الفطرة أن لكل أثر مؤثرًا، ولكل نظام منظّمًا، ولكل انتظام حكمة. وهذا يفسر لماذا ظل كلام البدوي حيًا رغم مرور القرون، بينما تظل صفحات طويلة من الجدل الكلامي لا يقرؤها إلا المتخصص.
وفي المحصّلة، يتضح أن عبارة الأعرابي لم تكن ردًّا عابرًا ولا حكمة عفوية، بل كانت تلخيصًا بالغ الدقة لمسار طويل في الفكر البشري؛ إذ جمعت، ببساطتها، ما توسّع فيه الفلاسفة في برهان العلة الأولى، وما شيّده المتكلمون في دليل حدوث العالم. حيث بلغ الأعرابي الغاية من أقرب طريق، حين نظر إلى السماء والأرض بعين الفطرة السليمة غير المثقلة بالتجريد، فوجد في انتظامهما وإحكامهما ما يجعل وجود الخالق أوضح من أن يفتقر إلى برهان مطوّل أو استدلال معقد. وهكذا صارت جملة واحدة منه قادرة على اختصار فلسفة قرون بأكملها.