بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي إمام وخطيب ومدرس بدرجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
الدعاء ليس مجرد كلمات تُقال بين الهمس والبكاء، ولا طقوسًا روحية يعيشها الفرد في عزلته، بل هو قوة جماعية تسري في شرايين الأمة، وتوحد القلوب حين تتفرق الطرق، وتستنهض العزائم حين يشتد البلاء. إن الدعاء الوطني هو أسمى صور الانتماء الروحي للوطن، لأنه عبادة ترتفع فيها الأيدي طلبًا للحفظ، وتخشع فيها القلوب رجاءً للسلام، وتتوحد فيها الوجوه نحو قبلة واحدة: حفظ بلادنا من كل سوء.
لقد أمر الله تعالى بالدعاء ووعد بالإجابة، فقال عزّ وجل: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ فكيف إذا كان الدعاء من أجل وطنٍ يعيش فيه أهلنا، وأولادنا، ومستقبلنا، وترابُه جزء من نبض قلوبنا؟ إن دعاء الفرد قوة، ودعاء الأمة جيشٌ كامل من نور.
ومن أعظم الأدعية التي رسخت في كتاب الله، تلك الدعوة الخالدة لسيدنا إبراهيم عليه السلام حين جعل الأمن الوطني محور دعائه، فقال: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾
ثم كررها مرة أخرى في سياق آخر، ليؤكد أهمية الأمن في حياة الشعوب: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ﴾ وهنا تتجلى الحكمة الإلهية؛ فالأمن قبل الرزق، والاستقرار قبل النعمة، وحفظ الوطن أساس كل عمران.
وقد دعا النبي ﷺ لأمته دائمًا، ولأمنها، ولخير بلادها، وكان يقول: «اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا». فالدنيا التي فيها معاش الناس لم تكن إلا وطنًا يعيشون فيه، يعملون فيه، ويحلمون فيه، ويحملون همّ إصلاحه وحفظه.
وفي موضع آخر، أخبر النبي ﷺ بأن نعمة الأمن من أعظم النعم، فقال: «من أصبح منكم آمناً في سِربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا». فالأمن ليس رفاهية، بل ضرورة، وعبادة الدعاء الوطني هي أحد أسس الحفاظ عليه.
إن الدعاء من أجل الوطن ليس مجرد واجب عاطفي، بل هو عبادة تقوي اللحمة بين الناس، وتجمع بين القلب والعمل، وتذكّر الجميع بأن الحفظ الحقيقي يأتي من الله قبل أن يأتي من الجيوش والدروع. وعندما يرفع الشعب دعاءه إلى السماء، يصبح الوطن كيانًا محروسًا بعين لا تنام، وقوة لا تُهزم، ورحمة لا تُقارن.
في زمن تتزاحم فيه الأخطار، وتكثر فيه الفتن، وتشتدّ فيه المعارك على المعاني قبل الحدود، تبقى عبادة الدعاء الوطني درعًا معنويًا يحمل الأمة فوق موج الخوف، ويعيد ترتيب المشهد داخل القلوب. إن الدعاء الوطني ليس مجرد صوت يعلو في المساجد أو يتردد في القلوب، بل هو عهدٌ بين الإنسان ووطنه، يتجدد كلما اشتدت العواصف.
إن دعاءنا لوطننا هو شهادة حبّ نرفعها إلى السماء، وتأكيد يقين بأن الأرض التي نحيا عليها أمانة، وأن الله سبحانه هو الحافظ والمعين، وهو القائل: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ﴾. فما من وطن اشتدت عليه المحن إلا ورفعه الدعاء، وما من شعب اجتمع قلبه على كلمة واحدة إلا منح الله له القوة والوحدة والبركة.
وستظل أيدينا مرفوعة، وقلوبنا خاشعة، وألسنتنا رطبة بدعاء صادق: اللهم احفظ هذا الوطن من كل شر، واجعل حدوده آمنة، وعيونه ساهرة، ورجاله ثابتين، اللهم ارزق أهله الطمأنينة، واملأ قلوبهم محبة ووحدة، وأبعد عنهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
إن الأوطان لا تُحفظ بالقوة وحدها، بل تُحفظ بالدعاء والعمل والولاء، وتنهض حين يتوحد شعبها على كلمة الخير. وسيبقى الدعاء الوطني نبضًا خالدًا، يمرّ عبر الأجيال، ويسكن في الذاكرة، ويرفع صوت الوطن إلى السماء: اللهم هذا وطننا، فاحفظه، واجعله بلدًا آمنًا سخاءً رخاءً إلى يوم الدين.