لَوْ عَلِمْتَ كَيْفَ يُحِبُّكَ.. لَذَابَ قَلْبُكَ شَوْقًا إِلَيْه (رِسَالَةٌ لِتَرْقِيقِ الْقُلُوبِ الْقَاسِيَةِ)

بقلم الشيخ :  أحمد إسماعيل الفشني
من علماء الأزهر الشريف

بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى إِمَامِ الْمُحِبِّينَ، وَسَيِّدِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أَمَّا بَعْدُ..

أَيُّهَا الْمُحِبُّ، هَلْ سَأَلْتَ نَفْسَكَ يَوْمًا: كَيْفَ يَرَانِي اللَّهُ؟ هَلْ يَشْغَلُكَ الْخَوْفُ مِنْ عِقَابِهِ عَنِ التَّلَذُّذِ بِحُبِّهِ؟

دَعْنِي أَخُذُ بِيَدِكَ الْيَوْمَ لِنَنْظُرَ نَظْرَةً مُغَايِرَةً، لِنَرَى “الْوَدُودَ” جَلَّ جَلَالُهُ، الَّذِي يَتَوَدَّدُ إِلَى عِبَادِهِ بِالنِّعَمِ، وَيَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِالْعَطَايَا، وَهُمْ يَتَبَغَّضُونَ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي!

أَتَدْرِي كَمْ هُوَ رَحِيمٌ بِكَ؟

تَأَمَّلْ مَعِي هَذَا الْمَشْهَدَ النَّبَوِيَّ الْبَاكِيَ..

فِي سَبْيٍ مِنْ سَبَايَا الْمَعَارِكِ، رَأَى الصَّحَابَةُ امْرَأَةً مَلْهُوفَةً تَجْرِي وَتَبْحَثُ بِجُنُونٍ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى وَجَدَتْ صَبِيًّا لَهَا، فَأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ (مِنْ شِدَّةِ الْحَوْفِ وَالْحُبِّ).

فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّحَابَةِ وَقَالَ: “أَتُرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟”.

قَالُوا: لَا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَلَّا تَطْرَحَهُ.

فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً تَفِيضُ أَمَانًا: “لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا”.

يَا اللَّهُ! هَلْ تَسْتَوْعِبُ؟ حُبُّ اللَّهِ لَكَ، وَخَوْفُهُ عَلَيْكَ، وَرَحْمَتُهُ بِكَ، أَكْبَرُ مِنْ حُبِّ أُمِّكَ الَّتِي حَمَلَتْكَ وَأَرْضَعَتْكَ! فَكَيْفَ تَهْرُبُ مِمَّنْ هُوَ أَرْحَمُ بِكَ مِنْ نَفْسِكَ؟

هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ بِالْوَصْلِ..

الْمُلُوكُ فِي الدُّنْيَا، إِذَا أَرَدْتَ الدُّخُولَ عَلَيْهِمْ، وَقَفْتَ بِالْبَابِ سَاعَاتٍ، وَقَدْ يُؤْذَنُ لَكَ أَوْ لَا. أَمَّا مَلِكُ الْمُلُوكِ، فَهُوَ الَّذِي يَتَنَزَّلُ إِلَيْكَ كُلَّ لَيْلَةٍ!

يَنْتَظِرُكَ أَنْتَ.. يَنْتَظِرُ أَنْ تَخْلُوَ بِهِ.. يُنَادِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَنْتَ نَائِمٌ:

“مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟”.

يَعْرِضُ عَلَيْكَ حَوَائِجَكَ، وَيَعْرِضُ عَلَيْكَ مَغْفِرَتَهُ، قَبْلَ أَنْ تَطْلُبَهَا! أَيوجد مُحِبٌّ يَفْعَلُ هَذَا مَعَ مَحْبُوبِهِ سِوَاهُ؟

يُعْطِيكَ عَلَى النِّيَّةِ مَا لَا يُعْطِيهِ عَلَى الْعَمَلِ..

مِنْ كَمَالِ حُبِّهِ لَكَ، أَنَّهُ جَعَلَ “هَمَّكَ” بِالْخَيْرِ حَسَنَةً!

يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: “إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ.. وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ أَكْتُبْهَا شَيْئًا (وَفِي رِوَايَةٍ: كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً)، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً”.

انْظُرْ إِلَى الْمِيزَانِ.. الْهَمُّ بِالْخَيْرِ مَحْسُوبٌ، وَالْهَمُّ بِالشَّرِّ مَعْفُوٌّ عَنْهُ بَلْ وَمَأْجُورٌ إِنْ تَرَكْتَهُ! إِنَّهُ يُرِيدُ لَكَ النَّجَاةَ بِأَيِّ طَرِيقٍ.

يَا صَاحِبَ الْقَلْبِ الْبَعِيدِ..

لَوْ عَلِمْتَ كَيْفَ يَدْفَعُ عَنْكَ الْبَلَاءَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ.. لَذَابَ قَلْبُكَ حُبًّا.

كَمْ مِنْ مَرَّةٍ سَاقَ إِلَيْكَ رِزْقًا لَمْ تَحْتَسِبْهُ؟

كَمْ مِنْ مَرَّةٍ سَتَرَكَ وَأَنْتَ تَعْصِيهِ، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَفْضَحَكَ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ؟

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: “لَوْ كَشَفَ اللَّهُ الْغِطَاءَ لِعَبْدِهِ، وَأَظْهَرَ لَهُ كَيْفَ يُدَبِّرُ لَهُ أُمُورَهُ، وَكَيْفَ أَنَّ اللَّهَ أَحْرَصُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، لَذَابَ قَلْبُ الْعَبْدِ مَحَبَّةً لِلَّهِ، وَلَتَقَطَّعَ قَلْبُهُ شُكْرًا لِلَّهِ”.

رِسَالَةٌ خِتَامِيَّةٌ..

لَا تَعْبُدِ اللَّهَ بِجَسَدٍ حَاضِرٍ وَقَلْبٍ غَائِبٍ.. اعْبُدْهُ “حُبًّا”.

قُلْ لَهُ فِي سُجُودِكَ الْيَوْمَ:

“أُحِبُّكَ يَا رَبِّ.. أُحِبُّكَ لِأَنَّكَ خَلَقْتَنِي، وَأُحِبُّكَ لِأَنَّكَ سَتَرْتَنِي، وَأُحِبُّكَ لِأَنَّكَ رَزَقْتَنِي، وَأُحِبُّكَ لِأَنَّكَ صَبَرْتَ عَلَيَّ رَغْمَ تَقْصِيرِي”.

جَرِّبْ أَنْ تُكَلِّمَهُ بِلُغَةِ الْحُبِّ، وَسَتَرَى كَيْفَ سَتَتَحَوَّلُ حَيَاتُكَ إِلَى جَنَّةٍ قَبْلَ جَنَّةِ الْآخِرَةِ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ كُلِّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنَا إِلَى حُبِّكَ، وَاجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الظَّمَأِ.. آمِينَ.