البشعة… بين خرافة الواقع وميزان الشريعة والقانون

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس بدرجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

تُثار بين الحين والآخر قضية “البشعة” التي يلجأ إليها بعض أبناء القبائل في فضّ النزاعات، وهي ممارسة قديمة تعتمد على تعريض المتَّهَم للنار أو وضع لسانه على حديدة مُحمَّاة ليثبت براءته. وبرغم انحسار هذه العادة في العقود الأخيرة، فإن مجرد استمرارها في بعض المناطق يثير أسئلة جوهرية: هل هي من لوازم القضاء العرفي المشروع؟ أم أنها تخلف يناقض الشريعة الإسلامية والعقل والقانون ويُعد نوعًا من إيذاء النفس وإدعاء معرفة الغيب؟

الحقيقة الدامغة أن البشعة، في ميزان الشرع والعقل، ليست سوى فعل لا يمت بصلة للدين، ولا يستند إلا إلى خوف الإنسان وغريزة النجاة. الإسلام جاء بشريعة قائمة على البينات والأدلة، على العدل والإنصاف، على القَسَم المشروع الذي يشرّفه الله في القرآن، وليس على تعريض النفس لضرر بدني يُخالف كل مقاصد الشريعة الخمسة، وعلى رأسها حفظ النفس. فكيف يمكن أن نعدّ حرق اللسان أو جلد الإنسان “قضاءً عرفيًا”، وهو في جوهره مبني على التنجيـم والظنون وإقحام النار في إثبات البراءة أو الإدانة؟

البشعة ادعاءٌ باطل بامتلاك قدرة غيبية، وتعلق بوهم أن النار “تكشف الحقيقة”، وهذا يدخل في أبواب الشرك بالله لأنه يربط معرفة الغيب بأدوات بشرية، بينما الغيب لله وحده. كما أن فيها إيذاءً جسديًا صريحًا، والنبي ﷺ نهى عن إيذاء النفس، وجعل من أُصيب بضرر بسبب الآخرين مسؤوليتهم، فما بالك إذا كان الضرر يُنَفَّذ عمدًا باسم العرف؟

أما من الناحية القانونية، فالقانون المصري واضح في تجريم أي فعل يتضمن إيذاءً بدنيًا متعمدًا، بل إن مجرد إجبار شخص على الخضوع لهذه الممارسات يُعد جريمة تهديد وإكراه، ويعاقب عليها القانون. الدولة الحديثة لا تعرف “النار” كوسيلة إثبات، بل تعرف التحقيق العلمي، وتقارير الطب الشرعي، والشهود، والبراهين، وأدوات العدالة التي تحفظ كرامة الإنسان ولا تهدرها.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن القضاء العرفي للقبائل جزء أصيل من الثقافة البدوية، وله أدوار كبيرة في الإصلاح وفض النزاعات، وهو — في صورته الصحيحة — يعتمد على حكماء القبيلة، وعلى السمع والعقل والشهود، وليس على الممارسات المؤذية. وهذا يعني أن البشعة ليست ركناً أصيلًا في القضاء العرفي، بل عادة قديمة تجاوزها الزمن، ونبذها كبار مشايخ القبائل أنفسهم لأنها تُسيء لتراثهم وتاريخهم.

اليوم، مع زيادة الوعي وانتشار التعليم والقانون، لم يعد مقبولًا أبداً أن تظل هذه الممارسة قائمة، ولا أن تُنسب إلى الدين، ولا أن تُحمَل على أنها “جزء من العرف”. العرف المحترم هو ما وافق الشريعة ولم يُخالف القانون، وما تحقق فيه العدل ولم يتضمن ظلمًا أو إيذاءً أو تجاوزًا.

لقد آن الأوان لوقفة صادقة من علماء الدين، ورجال القانون، والمثقفين، وشيوخ القبائل، ليتفق الجميع على أن البشعة ليست إلا فعلًا متخلفًا يناقض الدين ويجرح الكرامة الإنسانية، وأن القضاء العرفي الحقيقي أكبر من أن يُختزل في نار تُحمَّى على ألسنة المتخاصمين. العدل لا يُنتزع بالنار، بل يُؤخذ بالبينة، ويُقام بالحق، ويُردع بالشرع والقانون.

وفي نهاية هذا الطرح، لا بد أن نقف أمام حقيقة واضحة كالشمس: إن البشعة ليست مجرد ممارسة بدائية عابرة، ولا حادثة فردية يمكن التغاضي عنها، بل هي علامة على صراعٍ عميق بين وعيٍ يريد أن يتقدّم، وتقاليد بالية تشدّ المجتمع إلى الخلف بكل ما أوتيت من قوة. هي نقطة التقاء بين الخوف والجهل، بين الرغبة في إثبات البراءة بأي ثمن، وبين غياب الثقة في القانون وفي أدوات العدالة الحديثة. وهذا بحد ذاته يفرض علينا أن نسأل: أي مستقبل نريده؟ وأي مجتمع نسعى إليه؟

إن استمرار البشعة في أي تجمع بشري، مهما كان محدودًا، يعني أننا لا نزال نعطي للخرافة مساحة في حياتنا اليومية، ونسمح لها بالتسلل إلى منظومة القضاء العرفي العريق الذي لطالما قام على الحكمة لا على النار، وعلى العقل لا على الحديدة المحماة. إن التمسك بتلك الممارسة هو انتكاسة فكرية قبل أن يكون خطأً دينيًا، وهو إساءة للعرف البدوي قبل أن يكون إساءة للإنسان نفسه.

لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم بينما بعض أفراده يظنون أن النار قادرة على كشف الصادق من الكاذب، أو أن الله يربط كشف الحقيقة بحرارة الحديد لا بنور العقل. لا يمكن لشعب يسعى لبناء دولة قوية أن يسمح بعادة تنتهك الكرامة وتقتل إنسانية الإنسان، بينما الشريعة التي نؤمن بها جاءت رحمة للعالمين، وجاء قانون الدولة ليكون مظلة حماية لجميع المواطنين بلا تمييز.

لقد علّمنا الإسلام أن الظن لا يُغني من الحق شيئًا، وأن العدل أساس الملك، وأن حفظ النفس مقدم على كل تقليد وعادة. وعلّمنا الواقع أن المجتمعات التي تُقدّم حياتها للعلم والقانون هي التي تنتصر، لا تلك التي تستسلم للخرافة وتبحث عن الحقيقة بين ألسنة النار.

واليوم، نجد أنفسنا أمام مسؤولية تاريخية: مسؤولية إصلاح المفاهيم، وإنقاذ شباب القبائل من ممارسات لا تزيد إلا اتساع الهوة بين الماضي والمستقبل. مسؤولية أن نقول بوضوح: نعم للعرف الذي يحقق إصلاح ذات البين، ولا للتقاليد التي تُهين الإنسان وتُهدر كرامته. نعم للقضاء العرفي الذي يُصلح ولا يُفسد، ويجمع ولا يفرق، ويحتكم لعقول الرجال لا لحرارة الحديد.

علينا أن ندرك أن المجتمعات لا تُبنى بالقوة، ولا بالرهبة، ولا بتعذيب المتهم لإثبات براءته، بل تُبنى بالتوعية والتربية واحترام القانون، وبإحياء دور العلماء والمثقفين وشيوخ القبائل الشرفاء الذين يدركون أن الشرف الحقيقي ليس في التمسك بعادة بالية، بل في الترفع عنها حفاظًا على إنسانية الإنسان.

إن البشعة ليست اختبارًا للبراءة، بل اختبارًا لوعينا. وليست محنة للمتهم، بل محنة للمجتمع بأكمله. ولن يتغير شيء إلا إذا قرر كل فرد أن يدافع عن الكرامة الإنسانية كما يدافع عن أهله وأرضه وقيمه. وعندما يتحول الصوت الفردي إلى وعي جماعي، ستسقط الخرافة من تلقاء نفسها، وسيندثر هذا الفعل كما اندثرت ممارسات كثيرة كانت يومًا تُعد “حقًا” وهي في حقيقتها باطل مبين.

إن اللحظة التي نختار فيها أن نقف ضد البشعة هي لحظة نعلن فيها احترامنا لأنفسنا، ولعقولنا، ولديننا، وللقانون الذي يحمي الجميع. لحظة نقول فيها: إن الإنسان أغلى من العادة، وأعلى من الخرافة، وأقدس من أي نار.

وهكذا، يصبح الوعي هو ميزاننا، والعدل هو قضيتنا، والإنسان هو غايتنا… وما أجمل أن ننحاز للإنسانية في زمنٍ تكثر فيه الفتن ويقلّ فيه العقلاء.