السيطرة على الممرات الدولية التجارية


إفريقيا… حلم إسرائيل الغالي (الجزء السابع)

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس بدرجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

في هذا الجزء الجديد من السلسلة نفتح واحدًا من أخطر الملفات التي عملت عليها إسرائيل بصمت لسنوات طويلة في عمق القارة الإفريقية، وهو ملف السيطرة على ممرات التجارة الدولية وطرق الطاقة والنقل البحري والبري والجوي، بما يشبه خريطة إحكام الطوق الاستراتيجي حول المنطقة العربية من الجنوب ومن قلب إفريقيا نفسها. فإسرائيل لم تكتفِ بالبحث عن الموارد، ولا بالتغلغل الزراعي، ولا بالذهب والألماس والسلاح، بل تجاوزت ذلك إلى التحكم في الشرايين التي تنقل ثروات إفريقيا إلى العالم، وفي الخطوط التي تمر من فوقها أو تحتها مصالح الدول الكبرى.

وتدرك إسرائيل أن التحكم في الممرات لا يقل أهمية عن امتلاك الثروات، بل هو في كثير من الأحيان أقوى وأخطر، لأنه يضمن لها موقعًا سياسيًا لا يمكن تجاوزه، ويمنحها ورقة ضغط دائمة على العواصم الأوروبية والآسيوية والعربية في لحظة واحدة. ولذلك تحركت بشكل منهجي، فوضعت قدمها في منطقة القرن الإفريقي، واستثمرت في علاقات متينة مع دول تطل على البحر الأحمر وخليج عدن، لتضمن لنفسها نافذة على أهم الممرات المائية التي تمر عبرها التجارة الدولية وصادرات الخليج وإفريقيا معًا.

وفي عمق القارة، لم تتوقف عند الشواطئ، بل مدّت نفوذها إلى الدول التي تتقاطع فيها طرق النقل البرّي والنهري والحدودي، خاصة تلك التي تتحكم في شبكات الأنهار الكبرى مثل النيل وفروعه، أو تلك التي تمثل نقاط عبور رئيسية للبضائع القادمة من وسط إفريقيا إلى الموانئ الساحلية. وبهذه السياسة تشكلت أمام إفريقيا خارطة نفوذ جديدة، لم تُبْنَ على الجغرافيا الطبيعية فحسب، بل على شبكة معقدة من المصالح التي صممتها إسرائيل بعناية، لتضمن أن يكون لها موطئ قدم في كل نقطة عبور مهمة، سواء كانت ميناء، أو مطارًا، أو طريقًا سريعًا، أو حتى خط سكك حديدية يجري التخطيط له.

وفي إطار البحث عن القوة الناعمة التي تفتح الأبواب المغلقة، استغلت إسرائيل حاجات بعض الدول الإفريقية إلى تطوير بنيتها التحتية، وبادرت بتمويل أو إدارة مشروعات في مجالات النقل والموانئ وتحليل البيانات اللوجستية وإدارة الأساطيل. وقدمت نفسها دائمًا على أنها شريك تقني خبير قادر على رفع كفاءة الممرات التجارية، بينما كانت في الحقيقة تغيّر من طبيعة تلك الممرات وتعيد تصميمها بما يخدم مصالحها الأمنية قبل الاقتصادية.

ولم تكتفِ بذلك، بل دفعت بقوة نحو بناء شبكات مراقبة واسعة تمتد على طول هذه الممرات، مستخدمة أحدث التقنيات التي تمتلكها في الرصد والمتابعة، لتجمع معلومات دقيقة عن حركة التجارة والجيوش والسفن والبضائع، وهو ما منحها تأثيرًا يتجاوز حجمها بكثير، وجعلها لاعبًا لا يمكن تجاهله في مسار التجارة العالمية. ومع مرور الوقت أصبحت بعض الدول الإفريقية تعتمد بشكل شبه كامل على الخدمات التقنية الإسرائيلية، مما جعلها أسرع في الاستجابة للضغوط السياسية، وأضعف في مقاومة أي محاولة للهيمنة.

ومع كل هذا التوسع، بدأت تظهر آثار خطيرة على الأمن القومي العربي، خاصة أن هذه الشبكات المتحكمة تقع في خاصرة العالم العربي الجنوبية. فكل حركة تجارة تمر من هنا، وكل مسار استراتيجي يمر عبر إفريقيا، أصبح عرضة لأن يكون تحت عين أو إرادة طرف خارجي يبحث عن تفوقه الخاص حتى ولو كان ذلك على حساب استقرار المنطقة بأكملها. وهكذا يتأكد للجميع أن حلم إسرائيل في إفريقيا لم يكن حلمًا اقتصاديًا بحتًا، بل كان مشروعًا سياسيًا متكاملًا يهدف إلى صناعة واقع جديد، وتشكيل توازنات جديدة، وفرض معادلات جديدة على العالم العربي تحديدًا.

وتزداد مخاطر هذا المشروع يومًا بعد يوم مع استمرار بعض القوى الدولية في منح إسرائيل مساحة إضافية للتحرك داخل إفريقيا، سواء بسبب المصالح المشتركة أو بسبب الرغبة في مواجهة منافسين آخرين كالصين وروسيا. وهنا تصبح القارة ساحة صراع هادئ من الخارج، لكنه مشتعل من الداخل، صراع لا يُراد له أن يضعف، لأن اشتعاله يضمن لإسرائيل استمرار دورها كلاعب لا غنى عنه، وللبعض الآخر ضمان استمرار الفوضى التي تفتح الأبواب لمن يملك القدرة على إدارة تلك الفوضى.

ومع دخول إفريقيا مرحلة جديدة من التنافس الدولي على الثروات والممرات والبحار والأنهار، ومع تصاعد دور التكنولوجيا في التحكم بحركة العالم، يظل التغلغل الإسرائيلي أحد أخطر الملفات التي تحتاج إلى قراءة واعية، وفهم عميق، ورؤية مشتركة تعيد التوازن إلى القارة وتحمي أمن العرب ومستقبلهم. فالتاريخ يؤكد أن من يملك الطرق يملك القرار، ومن يملك الممرات يملك السلطة، ومن يملك الموانئ يملك المستقبل.

وفي هذا المشهد الإفريقي المزدحم بالتقلبات، تتداخل الحقائق مع الأطماع، وتختلط الدعوات إلى التنمية بأصوات السلاح والمعادن والصفقات المظلمة، وتبدو القارة وكأنها تُعاد صياغتها من جديد أمام أعين العالم، بينما يقف أبناؤها بين الحلم والاضطراب، وبين الأمل والخيبة. فأحداث إفريقيا لم تعُد مجرد صراعات داخلية أو تنافس بين دول جوار، بل تحولت إلى لوحة كبرى تتشابك فيها مصالح القوى العظمى، وتتعاظم فيها شبكات النفوذ، وتتنافس فيها الدول على كل ما يمكن أن يشكل قوة في الزمن القادم؛ من المعادن النادرة إلى الممرات البحرية، ومن الزراعة إلى السلاح، ومن الأنهار إلى البيانات.

وفي قلب هذا المشهد الفوضوي تتقدم إسرائيل بخطوات ثابتة، تستفيد من كل باب يُفتح، ومن كل دولة تبحث عن الدعم، ومن كل نظام يسعى إلى النجاة وسط أمواج السياسة المتلاطمة. وتتسلل بخفة إلى الملفات الأكثر حساسية، مثل إدارة الموانئ، وتأمين خطوط التجارة، وتطوير نظم الرقابة، لتتحول شيئًا فشيئًا إلى شريك غير مرئي لكنه مؤثر، ومراقب لا يُستغنى عنه لكنه غير مرحّب به، ولاعب يفرض نفسه حتى دون أن يُدعى إلى الطاولة.

وفي الوقت نفسه تتعرض إفريقيا لزلازل سياسية متواصلة؛ انقلابات هنا، وحروب أهلية هناك، وتمدد لجماعات مسلحة تربطها مصالح مع أطراف خارجية، وتدخلات دولية تتخفى تحت غطاء التنمية أو محاربة الإرهاب. وكل ذلك يجعل القارة كأنها كتلة من النار لا تهدأ، تشعلها المصالح، ويغذيها التنافس، وتذكيها حسابات القوى التي لا ترى في إفريقيا إنسانًا بقدر ما ترى فيها ثروة ومسارًا وموقعًا وورقة ضغط.

ومع تصاعد الصراع على الممرات والطرق، تزداد قيمة كل خطوة استراتيجية تُتخذ في عمق القارة أو على سواحلها، ويكبر التأثير السياسي لأي دولة قادرة على التحكم في عقدة نقل أو نقطة مراقبة أو منفذ بحري. وقد أصبحت بعض الدول الإفريقية تعيش على وقع معادلات أكبر منها، معادلات تصنعها القوى التي تتصارع فوق أرضها، وتتحرك على حساب شعوبها التي تبحث عن لقمة العيش بينما تُباع مقدّراتها في صفقات لا تعرف الشفافية.

ومن بين كل هذه الفوضى، يظهر بوضوح أن إفريقيا أصبحت ساحة مفتوحة ليس فقط للهيمنة الاقتصادية، بل لإعادة تشكيل النفوذ الدولي كله، وأن كل ما يحدث فيها اليوم سيحدد وجه العالم خلال العقود القادمة، لأن من يملك إفريقيا يملك المستقبل، ومن يسيطر على ممراتها يملك مفاتيح التجارة العالمية، ومن يتمكن من مواردها يملك مفاتيح الطاقة والصناعة والتقنية على السواء.

وهكذا تتكشف الحقيقة الكبرى: إفريقيا ليست مجرد قارة تبحث عن التنمية، بل هي قلب العالم النابض الذي تتصارع عليه القوى الإقليمية والدولية، وقبلة الأطماع القديمة التي ترتدي اليوم ثوبًا جديدًا أكثر حداثة ودهاء. ومع استمرار هذا السباق المحموم، يبقى على العرب أن يدركوا حجم المخاطر قبل فوات الأوان، وأن يعوا أن ما يجري في إفريقيا لا ينفصل عن أمنهم القومي ومستقبلهم السياسي والاقتصادي، وأن كل غفلة تُمنح فيها الفرص للآخرين تعني خطوة جديدة نحو حصار المنطقة من الجنوب وتغيير موازين القوة التي كنا نظنها ثابتة.

إن الأحداث في إفريقيا ليست مجرد مشاهد عابرة في نشرات الأخبار، بل هي معركة صامتة تُرسم فيها خرائط النفوذ الجديدة للعالم، معركة يتقدم فيها من يملك البصيرة والقرار، ويتأخر فيها من ينتظر أو يتردد، حتى لا نصحو يومًا على قارة تغيّرت بالكامل، ونفوذ تبدل جذريًا، وعالم جديد لا مكان فيه لمن تأخر عن قراءة الحقيقة في وقتها.