أبطال منسية : الصوفية وصناعة النصر عبر التاريخ
2 ديسمبر، 2025
جهاد الصوفية

بقلم الدكتور : طه عبد الحافظ أحمد الوزيري
دكتوراة فى الدعوة والثقافة الإسلامية – جامعة الأزهر الشريف
رغم تاريخ أعلام التصوف الناصع في حمل الراية والجهاد والاستشهاد في سبيل الله –تعالى-، إلا أن خصوم التصوف يتهمونهم بتضييع فريضة الجهاد، بل يتهمونهم بخذلان المسلمين وتثبيطهم، بل ويتهمونهم بالوقوف في صف الكفار ضد أهل الإسلام، ومع الباطل ضد الحق..
وحتى يكتمل تلبيسهم على مستمعيهم يجمعون كلمات السادة الصوفية عن جهاد النفس ليقولوا للناس: إن الصوفية لم يعرفوا إلا جهاد النفس!
وهذه أكاذيب كنا نبرأ بمروجيها عنها.
قد يكون في تاريخ مَن انتسب إلى التصوف وقام بخيانة أو تخاذل أو خذّل، فهل يتهم التصوف وأهله بذلك؟
إذا ضلّ فقيه مالكي أو حنبلي هل نتهم كل المالكية ومدرستهم بالضلال والخيانة والتآمر؟
يقول حاتم الأصم الصوفي: “الْجِهَاد ثَلَاثَة: جِهَاد فِي سرك مَعَ الشَّيْطَان حَتَّى تكسره وَجِهَاد فِي الْعَلَانِيَة فِي أَدَاء الْفَرَائِض حَتَّى تؤديها كَمَا أَمر الله وَجِهَاد مَعَ أَعدَاء الله فِي غَزْو الْإِسْلَام”.
(طبقات الصوفية، لأبي عبد الرحمن السلمي ص89 دار الكتب العلمية – بيروت).
إن الذين نشروا الإسلام في إفريقيا وعملوا على تحفيظ الناس القرآن الكريم هم الصوفية، وملوك المرابطين الذين فتحوا البلدان للإسلام، وقاتلوا الصليبيين على أرض الأندلس كانوا من الصوفية.
فالشيخ الأكبر لهم هو الفقيه عبد الله بن ياسين الفقيه، الذي أعاد الإسلام إلى القبائل الإفريقية التي اندثرت عندهم تعاليم الإسلام حتى إن الفتاة كانت تنام مع أخيها وتلد منه ولا يدرون أن ذلك حراما!
وأدخل القبائل الوثنية في الإسلام بعد أن جلس يؤدب ويربي ويعلم..
ثم أتي بعده المجاهد العظيم يحيى بن عمر اللمتوني وكان من أهل الزهد والورع والمجاهدة، فقاتل وفتح..
ثم الإمام العلم الورع التقي أبو بكر اللمتوني قاهر الوثنيين والشيعة، والذي تعجز الكلمات والحروف عن كتابة ما قدمه للإسلام والمسلمين من جهاد وفتح وتعليم وإرشاد..
والجميل في تصوف هؤلاء القادة العظام أن تصوفهم كان تصوف سلوك وليس مجرد تصوف فكر، فلم يشغلوا أنفسهم بالأفكار المختلفة، أو فلسفات معينة، بل كانوا يعيشون التصوف في حياتهم وكلامهم وصلواتهم وجهادهم كالحسن البصري وإبراهيم بن أدهم…
والدولة الزنكية التي أعلت راية الجهاد وقاتلت الصليبين وأخذت تسترد القلاع منهم، وكانت هي بداية الفتح الحقيقي لبيت المقدس.
والدولة الأيوبية وصلاح الدين الأيوبي كلهم من تلاميذ شيوخ التصوف ومن مريديهم.
بل والدولة المملوكية في عهدها الزاهر، فإن قطز كان من أتباع سلطان العلماء العز بن عبد السلام الصوفي، ولا ينكر أحد دوره العظيم في تجهيز الجيش الذي انتصر في عين جالوت، ولا دوره مع الشيخ أبي الحسن الشاذلي في التصدي للحملات الصليبية.
ومن المضحكات اتهامهم للصوفية بالتشيع، والذي قضى على التشيع في مصر والشام وقطع دابرهم هو المجاهد الصوفي/ صلاح الدين الأيوبي، ومن قبله المجاهد الصوفي/ نور الدين زنكي، ومن قبلهم جميعا المجاهد الصوفي/ نظام الملك خاصة وسلاطين آل سلجوق العظام الأُول عامة. ومعاركهم مسطرة في التاريخ بأحرف من نور.
وكذلك دولة السلاجقة والدولة العثمانية.
إن المتأمل في الجهاد عند الصوفية يراهم لا يقدمون عليه لأنه فرض كفاية أو فرض عين، أو حتى لمجرد الحصول على ثواب!
إن الجهاد عندهم هواية ونزهة محببة إلى قلوبهم، إنهم يستعدون للجهاد وكأنهم يستعدون لليلة زفافهم!
أدرك أن ما أكتبه الآن لا يستوعبه عقل من هذه العقول التي سيطر عليها الفكر المادي، أما أهل الله فإن حياتهم كلها جهاد للشيطان وللنفس وللهوى وللعدو…
يقول حاتم الأصم: “كنا مع شقيق البلخي ونحن مصافو الترك، في يوم لا أرى فيه إلا رؤوسا تندر، وسيوفا تقطع، ورماحا تقصر، فقال لي شقيق ونحن بين الصفين: كيف ترى نفسك يا حاتم؟ تراه مثله في الليلة التي زفت إليك امرأتك؟ قلت: لا والله! قال: لكني والله أرى نفسي في هذا اليوم مثله في الليلة التي زفت فيها امرأتي”.
(حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للأصبهاني ج8 ص64، مطبعة السعادة).
واقرأوا هذه المواقف البطولية للمجاهد الصوفي العظيم: “كَانَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله يَقُول مَا غزونا غَزْوَة قطّ إِلَّا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا ويخبرني بِجَمِيعِ مَا يتَّفق لي ولأصحابي فِي تِلْكَ الْغَزْوَة وَله رَضِي الله عَنهُ فِي شَأْن الْجِهَاد والرجولية حِكَايَة ظريفة وَهِي أَنه: غزا مرّة غَزْوَة ثمَّ قدم مِنْهَا مَعَ أَصْحَابه فَوجدَ زَوجته فُلَانَة بنت الشَّيْخ أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن بكار قد توفيت وَصلى النَّاس عَلَيْهَا بِجَامِع الْقرَوِيين، وإمامهم الشَّيْخ غَازِي ابْن الشَّيْخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن غَازِي الإِمَام الْمَشْهُور، فوصل الشَّيْخ أَبُو عبد الله وَوجد جنازتها على شَفير الْقَبْر وَالنَّاس يحاولون دَفنهَا، فَقَالَ لَهُم: مهلا ثمَّ تقدم وَأعَاد الصَّلَاة عَلَيْهَا مَعَ أَصْحَابه الَّذين قدمُوا مَعَه، فبادر النَّاس إِلَيْهِ بالإنكار فِي تَكْرِير الصَّلَاة فِي الْجِنَازَة بِالْجَمَاعَة مرَّتَيْنِ، فَقَالَ لَهُم على البديهة: صَلَاتكُمْ الَّتِي صليتم عَلَيْهَا فَاسِدَة لكَونهَا بِغَيْر إِمَام!
فَقَالُوا لَهُ: كَيفَ ذَلِك يَا سَيِّدي؟
قَالَ: لِأَن شَرط الإِمَام الذكورية وَهِي مفقودة فِي صَاحبكُم! لِأَن الَّذِي لم يتقلد سَيْفا فِي سَبِيل الله قطّ وَلم يضْرب بِهِ وَلَا عرف الْحَرْب كَمَا كَانَ نَبينَا -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَلم يتعبد بالسيرة النَّبَوِيَّة فَكيف يعد إِمَامًا ذكرا بل إمامكم وَالله من جملَة النِّسَاء”
إن متهمي التصوف بالصد عن سبيل الله وتضييع الجهاد هذا الموقف وحده كاف لإشعارهم بالخزي والخجل، بل بإشعارنا جميعا بذلك، فما وزننا جميعا إن وُزِنّا بأطفال هؤلاء!
فإن رأيت من يتهم الصوفية بترك الجهاد وموالاة الأعداء قل له: أنت كذاب.
وإن رأيت تاركا للجهاد مواليا للأعداء ويقول: أنا صوفي، قل له: أنت كذاب، فلا المسلمون ولا الصوفية ولا أصحاب النخوة يشرفون بك عضوا بينهم