أحوال المهاجرين في المدينة بعد الهجرة
1 ديسمبر، 2025
قبس من أنوار النبوة

المقال الأول من سلسلة (هجرة النبى).
بقلم فضيلة الشيخ/ احمد عزت حسن
الباحث فى الشئون الاسلامية
بدأ أهل مكة في اضطهاد المؤمنين، وزادوا في تعذيبهم، فلم يعد أمامهم سبيل إلى النجاة إلاّ ترك بلادهم وأموالهم، وعزموا على أن يشتروا عقيدتهم بما يملكون من متاع الدنيا، وأن يضحّوا في سبيلها بكلّ شيء ولو كان هذا الشيء هو الوطن الغالي على نفوس الناس؛ من أجل هذا ضحَّى المسلمون بالوطن والأهل والمال والولد فرارًا بدينِهم وعقيدتهم، ولكن إلى أين يتَّجهون؟
لقد ذهبوا إلى الحبشة فوجدوا فيها أمنًا وسلامًا، ولكنَّهم لم يجِدوا فيها تربة صالحة تحتضِن تلك البذور حتَّى تنمو، وليست الغاية من الهجرة الخلود إلى الرَّاحة، واقتناص فرص الأمن والطُّمأنينة، وإنَّما هي خطوة إيجابيَّة لنشْر الدَّعوة، وتثبيت العقيدة وإقامة الدَّولة الَّتي هي أمل المؤمنين، وليست أرض الحبشة ميدانًا لهذا العمل العظيم، لقد ثار أهلُها على النجاشي؛ لأنَّه أعلن إسلامه لمَّا سمع ما سمع من وفْد المهاجرين، فكيف هذه البلاد تسمح بنشْر الدعوة وإقامة الدولة؟ لذلك لا بدَّ من البحث عن مكان صالحٍ يلجأ إليه المهاجرون.
اتجه المسلمون إلى المدينة، حيث هاجروا جماعات وفرادى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم في مكة ينتظر أمر ربِّه، حتَّى أذن له في الهجرة فاصطحب أبا بكر رضي الله عنه وودَّعا مكَّة وسارا إلى المدينة، ودخلاها في يوم الاثنَين الثاني عشر من شهر ربيع الأوَّل، واستقْبل الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ومن قبلهما المهاجرين من المسلمين بالحفاوة والتَّكريم.
أحوال المهاجرين في المدينة بعد الهجرة النبوية:
لم تكن الهجرة النبوية صورة لتجربة سابقة، بل جاءت حدثًا فريدًا في تاريخ البشرية، مشمولًا بالرغبة في التحول بالإسلام إلى حياة جديدة، تشمل الحاضر والمستقبل، وبناء مجتمع فريد، لم يستسلم المهاجرون فيه لكسل أو تراخٍ، وانتظارٍ لمعونات الآخرين، إذ كانوا قوة فاعلة ومؤثرة، زاد نموها وانتماؤها، وأسهم في ذلك أن الهجرة لم تكن دفعة واحدة، بل جاءت تحميلًا خفيفًا متتابعًا على بيئة صارت بالرسول صلى الله عليه وسلم مهيأة للإرواء والارتواء، قبل أن تنطق فيما بعد إلى خارج الجزيرة العربية.
لَقَدْ وَاجَهَ المُهَاجِرُونَ صُعُوبَةُ اخْتِلَافِ المُنَاخِ، فَالمَدِيْنَةُ بَلَدَةٌ زِرَاعِيَّةٌ، تُغَطِّي أَرَاضِهَا بَسَاتِيْنُ النَّخِيْلِ، وَنِسْبَةُ الرُّطُوبَةِ فِيْهَا أَعْلَى مِنْ مَكَّةَ.
فقَدْ أُصِيْبَ العَدِيْدُ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ بِالحُمَّى، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَفِي «الصَّحِيْحَيْنِ» مِنْ حَدِيْثِ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ، فَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَاشْتَكَى بِلَالٌ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَكْوَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: «اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا، وَمُدِّهَا، وَحَوِّلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ».
وفِي البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيْثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: « لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا قُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟، قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِه **وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ.
وَكَانَ بِلَالٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً**بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ**وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:«اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ».
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ بِلَالًا قَالَ بَعْدَ شِعْرِهِ: اللهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ ثُمَّ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : “اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ”.
قَالَتْ: وَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللهِ، قَالَتْ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا -تَعْنِي مَاءً آجِنًا- والمَاءُ الآجِنُ هُوَ المُتَغَيِّرُالرِّيْحُ”.
وَفِي البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ، خَرَجَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ، حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ، وَهِيَ الْجُحْفَةُ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا”.
وَكَانَ الحُمَّى قَدْ أُصِيْبَ الكَثِيْرُ حَتَّى عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – لَمْ تَسْلَمْ مِنَ الوَبَاءِ. فَفِي البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيْثِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: “دَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ قَدْ أَصَابَتْهَا حُمَّى فَرَأَيْتُ أَبَاهَا فَقَبَّلَ خَدَّهَا، وَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ”.