فرادى… من المهد إلى اللقاء

بقلم الأستاذة : سيدة حسن 

وُلدنا فرادى، وسنسير فرادى، وسنُبعث فرادى وسنقف بين يدي الله فرادىومهما ازدحمت حولنا الوجوه وتعددت العلاقات تبقى الرحلة – في حقيقتها – فردية تمامًا.قال تعالى: “ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة”
(الأنعام: 94)

كأن الله جلّ جلاله يُذكّرنا بأن الأصل وحدة الإنسان أمام مولاه،وأنّ كل ما في الدنيا مؤقّت: الرفقة، والأسماء، والمناصب، وحتى الأجساد فمنذ أن نزل آدم إلى الأرض، بدأت رحلة العودةرحلة طويلة لا تكتمل إلا حين تعود الأرواح إلى موطنها الأول.

وبين الميلاد والرجوع يُمهلنا الله زمناً نسير فيه على دربٍ من اختبارٍ ومعرفة
لنتعلم كيف نرى، وكيف نفهم، وكيف نرجع.فكل لحظة في الحياة محطة من تلك الرحلة الفردية لا يسيرها أحد عنك، ولا يتحملها غيرك.

قال أحد العارفين: “من لم يعرف نفسه، لم يعرف ربَّه، ومن عرف طريقه، سلكه ولو وحده.”

وفي مشهدٍ مهيب، يصور القرآن لحظة انكشاف تلك الحقيقة الكبرى:
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ۝ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾
مشهد رهيب يبيّن أن كل إنسان سيكون منشغلاً بنفسه وحدها، بلا التفاتٍ إلى أقرب الناس إليه.

ومع أن الرحلة فردية فليست دعوةً للعزلة عن الحياة،ولا للتخلي عن الواجبةفالعمل، والأهل، والرسالة في الأرض من تمام عبودية الإنسان.لكن الخطر حين يتحوّل الانشغال بالواجب إلى غفلةٍ عن الوجود،وحين ننسى أننا – وسط كل تلك المسؤوليات – نسير وحدنا في طريقٍ آخر، لا يراه سوانا.

قال تعالى: “يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يومًا لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئًا.”
(لقمان: 33)

فلتكن محبتك لأهلك وعملك عبادةً، لا غفلةولتعلم أن لكل واحدٍ منهم رحلته الخاصة التي لا يمكنك أن تسيرها عنه كما أنك أنت وحدك مسؤول عن زادك، وعن صلاتك، وعن نقاء نيتك، وعن طريقك الذي يوصلك إلى الله.

يقول بن عطاء الله السكندرى :“اجتهادك فيما ضُمِن لك، وتقصيرك فيما طُلب منك، دليلٌ على انطماس البصيرة.”

فازرع، وعمر وامنَح من حولك الحبّ لكن لا تَغِب عن نفسك،فأعظم الخسارة أن يهتم الإنسان بالجميع… ثم ينسى نفسه

اللهم اجعل رحلتنا إليك هينةً مطمئنة،واجعل لقاءنا بك لقاءَ المحبين الراضين.فما أجمل أن نعود إليك كما بدأتَنا أنقياء، كما خرجنا من يد قدرتك أول مرة.