خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ الْقَادِمَةِ تَحْتَ عٌنْوَانْ “هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟” للشيخ أَحْمَدَ إِسْمَاعِيلَ الْفَشَنِيِّ
9 نوفمبر، 2025
خطب منبرية

خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ الْقَادِمَةِ تَحْتَ عٌنْوَانْ “هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟”
للشيخ : أَحْمَدَ إِسْمَاعِيلَ الْفَشَنِيِّ
من علماء الأزهر الشريف
عَنَاصِرُ الْخُطْبَةِ:
أَوَّلًا: عِصْمَةُ الدِّمَاءِ وَحُرْمَةُ الْأَعْرَاضِ (أَسَاسُ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِسْلَامِ).
ثَانِيًا: “هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟” (النَّهْيُ النَّبَوِيُّ الْقَاطِعُ عَنِ الْحُكْمِ عَلَى السَّرَائِرِ وَالتَّكْفِيرِ).
ثَالِثًا: خُطُورَةُ التَّشَدُّدِ فِي اسْتِبَاحَةِ دِمَاءِ الْمُخَالِفِينَ بِحُجَّةِ “مَا فِي الْقُلُوبِ”
رَابِعًا (ضِمْنَ مُبَادَرَةِ صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ): “الْهَدِيَّةُ الْمَلْعُونَةُ” (تَصْحِيحُ مَفْهُومِ الرِّشْوَةِ).
الْمَوْضُـــــــــــوعُ
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْقَائِلُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.
وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الَّذِي أَرْسَى قَوَاعِدَ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَهَا الْعَالَمُ بِقُرُونٍ، فَوَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ يُعْلِنُ دُسْتُورَ الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ قَائِلًا: “إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا”. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَى آلِكَ وَأَصْحَابِكَ، سَادَتِنَا الْأَبْرَارِ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ… أَيُّهَا السَّادَةُ الْمُؤْمِنُونَ، يَا أُمَّةَ الْحَبِيبِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،إِنَّ دِينَنَا الْحَنِيفَ جَاءَ لِيَحْمِيَ الْإِنْسَانَ، كُلَّ إِنْسَانٍ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ. جَاءَ لِيَصُونَ دَمَهُ وَعِرْضَهُ وَمَالَهُ. وَمِنْ أَعْظَمِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعَهَا الْإِسْلَامُ لِسَدِّ بَابِ الْفِتَنِ وَالتَّشَدُّدِ، قَاعِدَةُ:
“الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ”. فَلَا يَحِقُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْصِبَ نَفْسَهُ إِلَهًا يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ، أَوْ يَتَّهِمَ نِيَّاتِهِمْ، أَوْ يُكَفِّرَهُمْ بِالظُّنُونِ.
وَسَنَسِيرُ فِي خُطْبَتِنَا هَذِهِ وَفْقَ الْعَنَاصِرِ التَّالِيَةِ، لِنُبَيِّنَ عَظَمَةَ هَذَا الدِّينِ فِي حِمَايَةِ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ، وَخُطُورَةَ التَّعَدِّي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ.
الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: عِصْمَةُ الدِّمَاءِ وَحُرْمَةُ الْأَعْرَاضِ (أَسَاسُ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِسْلَامِ).
يَا عِبَادَ اللَّهِ!
لَقَدْ سَبَقَ الْإِسْلَامُ كُلَّ الْمَوَاثِيقِ الدَّوْلِيَّةِ فِي إِقْرَارِ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ. وَأَوَّلُ هَذِهِ الْحُقُوقِ هُوَ “حَقُّ الْحَيَاةِ”. قَالَ تَعَالَى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾. لَاحِظُوا، قَالَ: “نَفْسًا”، وَلَمْ يَقُلْ: “نَفْسًا مُؤْمِنَةً” فَقَطْ، بَلِ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِعُمُومِهَا لَهَا حُرْمَةٌ.
وَانْظُرُوا إِلَى مَوْقِفٍ عَجِيبٍ مِنْ سِيرَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا وَاقِفًا إِجْلَالًا لِلْمَوْتِ. فَقِيلَ لَهُ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ”. فَقَالَ كَلِمَتَهُ الْخَالِدَةَ: “أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟”. اللَّهُ أَكْبَرُ! “أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟” كَلِمَةٌ تُلَخِّصُ كُلَّ مَعَانِي الْإِنْسَانِيَّةِ. إِنَّهَا نَفْسٌ خَلَقَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَهَا حَقُّ الِاحْتِرَامِ وَلَوْ خَالَفَتْنَا فِي الدِّينِ.
بَلْ حَتَّى فِي سَاحَاتِ الْقِتَالِ، حِينَ تَتَطَايَرُ الرُّؤُوسُ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِي جَيْشَهُ بِوَصَايَا الْإِنْسَانِيَّةِ الرَّاقِيَةِ: “لَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا، وَلَا مُنْعَزِلًا بِصَوْمَعَةٍ”. هَذَا هُوَ دِينُنَا، دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، الَّذِي يَعْصِمُ الدِّمَاءَ وَالْأَعْرَاضَ، وَيَمْنَعُ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا إِلَّا بِالْحَقِّ.
الْعُنْصُرُ الثَّانِي: “هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟” (النَّهْيُ النَّبَوِيُّ الْقَاطِعُ).
وَمِنْ أَعْظَمِ الضَّمَانَاتِ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ، أَنَّ الْإِسْلَامَ مَنَعَ الْحُكْمَ عَلَى “النِّيَّاتِ” وَ “السَّرَائِرِ”. فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِأَنْ نُعَامِلَ النَّاسَ بِظَوَاهِرِهِمْ، وَنَكِلَ بَوَاطِنَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَالْقِصَّةُ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ خُطْبَتِنَا الْيَوْمَ، هِيَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ وَالْبُرْهَانُ السَّاطِعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
يَرْوِي سَيِّدُنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنُ حِبِّهِ، يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ (قَبِيلَةٍ كَانَتْ تُحَارِبُ الْمُسْلِمِينَ). فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا (مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، فَلَمَّا عَلَوْتُهُ بِالسَّيْفِ قَالَ: “لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ”. قَالَ أُسَامَةُ: فَطَعَنْتُهُ فَقَتَلْتُهُ. (ظَنَّ سَيِّدُنَا أُسَامَةُ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السَّيْفِ فَقَطْ، وَلَيْسَ إِيمَانًا حَقِيقِيًّا، وَهُوَ اجْتِهَادٌ فِي سَاحَةِ مَعْرَكَةٍ).
فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، بَلَغَ ذَلِكَ سَيِّدُنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي: “يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟”. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا (أَيْ قَالَهَا لِيَحْمِيَ نَفْسَهُ). فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَضَبٍ شَدِيدٍ: “هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟”. فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
تَأَمَّلُوا يَا مُؤْمِنُونَ! رَجُلٌ مُشْرِكٌ، كَانَ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ لَحْظَةٍ، وَلَمْ يَقُلِ الشَّهَادَةَ إِلَّا وَالسَّيْفُ فَوْقَ رَقَبَتِهِ. كُلُّ الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ تَقُولُ إِنَّهُ غَيْرُ صَادِقٍ. وَمَعَ ذَلِكَ، يَغْضَبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْغَضَبَ كُلَّهُ، لِيُرَسِّخَ قَاعِدَةً: “لَا شَأْنَ لَكَ بِالْقَلْبِ، عَلَيْكَ بِالظَّاهِرِ”. إِذَا نَطَقَ بِالشَّهَادَةِ فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ.
إِنَّهُ دَرْسٌ نَبَوِيٌّ عَظِيمٌ فِي احْتِرَامِ حَقِّ الْحَيَاةِ، وَفِي مَنْعِ التَّفْتِيشِ فِي الضَّمَائِرِ.
الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: خُطُورَةُ التَّشَدُّدِ فِي اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ.
يَا عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ مُخَالَفَةَ هَذَا الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ هِيَ الَّتِي فَتَحَتْ عَلَى الْأُمَّةِ بَابَ الشَّرِّ وَالْفِتَنِ.
ظَهَرَ فِي تَارِيخِنَا، وَفِي وَاقِعِنَا الْمُعَاصِرِ، مَنْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ قُضَاةً عَلَى قُلُوبِ الْعِبَادِ. يَنْظُرُونَ إِلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ، فَيَقُولُونَ: “هُوَ مُنَافِقٌ، هُوَ مُرْتَدٌّ، لِأَنَّهُ فَعَلَ كَذَا أَوْ قَالَ كَذَا”، وَيُؤَوِّلُونَ كَلَامَهُ عَلَى أَسْوَأِ الْمَحَامِلِ، ثُمَّ يَسْتَبِيحُونَ دَمَهُ وَمَالَهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ الْفَاسِدِ.
هَؤُلَاءِ هُمُ “الْخَوَارِجُ” قَدِيمًا وَحَدِيثًا. الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ سَيِّدُنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ”.
لَقَدْ قَتَلُوا سَيِّدَنَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَقَتَلُوا سَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ذَاهِبٌ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، بِحُجَّةِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ “نِفَاقٍ” (وَحَاشَاهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا).
وَكَمْ نَرَى الْيَوْمَ مَنْ يُكَفِّرُ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُفَجِّرُ الْمَسَاجِدَ وَالْأَسْوَاقَ، زَاعِمًا أَنَّهُ يُطَهِّرُ الْأَرْضَ مِنَ “الْمُرْتَدِّينَ”! وَلَوْ سَمِعُوا صَيْحَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟”، لَكَفُّوا أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ عَنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضِهِمْ.
وَصَدَقَ الشَّاعِرُ حِينَ قَالَ مُحَذِّرًا مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ:
لَا تَحْكُمَنَّ عَلَى النَّوَايَا إِنَّهَا عِلْمٌ تَفَرَّدَ بِاطِّلَاعِهِ رَبِّي
فَاحْكُمْ بِمَا يَبْدُو لِعَيْنِكَ ظَاهِرًا وَدَعِ السَّرَائِرَ لِلْعَلِيمِ بِالْقَلْبِ
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ…فَيَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ، نَصِلُ إِلَى الْعُنْصُرِ الرَّابِعِ، ضِمْنَ مُبَادَرَةِ “صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ”، وَهُوَ عُنْصُرٌ هَامٌّ جِدًّا يَتَعَلَّقُ بِطَهَارَةِ الْمُجْتَمَعِ وَنَزَاهَتِهِ، وَهُوَ: “خُطُورَةُ الرِّشْوَةِ”.لَقَدْ انْتَشَرَتْ بَيْنَ بَعْضِ ضِعَافِ النُّفُوسِ مُسَمَّيَاتٌ خَادِعَةٌ لِلْحَرَامِ، فَيُسَمُّونَ الرِّشْوَةَ “هَدِيَّةً”، أَوْ “إِكْرَامِيَّةً”، أَوْ “شَايًا”، أَوْ “تَفْتِيحَ دِمَاغٍ”. وَمَهْمَا غَيَّرُوا اسْمَهَا، فَهِيَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَرَامٌ وَسُحْتٌ وَنَارٌ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
وَقَدْ لَعَنَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْرَافَ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ كُلَّهَا، فَقَالَ: “لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ” (وَهُوَ الْوَسِيطُ بَيْنَهُمَا). وَاللَّعْنُ هُوَ الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يُطِيقُ أَنْ يُطْرَدَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِأَجْلِ دُرَيْهِمَاتٍ زَائِلَةٍ؟!
وَلْنُصَحِّحِ الْمَفْهُومَ: “الْهَدِيَّةُ” لِلْمُوَظَّفِ الْعَامِّ بِسَبَبِ وَظِيفَتِهِ هِيَ “رِشْوَةٌ” مُقَنَّعَةٌ.
اسْمَعُوا إِلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي تَقْطَعُ كُلَّ شُبْهَةٍ: اسْتَعْمَلَ سَيِّدُنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ “ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ” عَلَى جَمْعِ الصَّدَقَاتِ. فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ: “هَذَا لَكُمْ (أَيْ مَالُ الزَّكَاةِ)، وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ (هَدَايَا خَاصَّةٌ بِي)”. فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: “مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؟ أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ”.
إِنَّهَا قَاعِدَةٌ نَبَوِيَّةٌ حَاسِمَةٌ: لَوْ كُنْتَ جَالِسًا فِي بَيْتِكَ بِلَا وَظِيفَةٍ، هَلْ كَانَ سَيُهْدِيكَ أَحَدٌ هَذَا الْمَالَ؟ إِذَا كَانَ الْجَوَابُ “لَا”، فَهِيَ رِشْوَةٌ وَلَيْسَتْ هَدِيَّةً.
فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا عِبَادَ اللَّهِ، وَطَهِّرُوا أَمْوَالَكُمْ مِنَ السُّحْتِ، فَإِنَّ: “كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ”.
الدُّعَاءُ…
اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ، وَأَعْمَالَنَا مِنَ الرِّيَاءِ، وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ، وَأَعْيُنَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ.اللَّهُمَّ اكْفِنَا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ.اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَعْصِمُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهُمْ، وَلَا يَتَتَبَّعُونَ عَوْرَاتِهِمْ.اللَّهُمَّ احْفَظْ بِلَادَنَا مِصْرَ وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ:إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَاذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ…