شجرة الفوضى تثمر في السودان
28 أكتوبر، 2025
أخبار العالم الإسلامى

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
حين تُسقى الأرض بدماء الأبرياء بدل الماء، وتُروى شجرة الوطن بدموع الجياع والمشردين، فلا عجب أن تُثمر فوضى لا تُعرف لها جذور ولا حدود. السودان اليوم يعيش مأساة إنسانية لا تشبه سوى نفسها، دولة كانت تنبض بالحياة والثقافة والنيل، صارت ميدانا للصراع، تتنازعها الأهواء والمصالح، وتتناحر فوق ترابها قوى الداخل والخارج، حتى تحولت إلى خريطة من الرماد.
ما يجري في السودان ليس صراعا عاديا على السلطة، بل هو سقوط أخلاقي وإنساني لكل من استباح أمن وطن عريق من أجل الكراسي والبزات العسكرية. إن شجرة الفوضى التي زرعت منذ سنوات بأيدٍ خفية، تمد اليوم جذورها في عمق الأرض السودانية، وتُسقى بسلاحٍ خارجي وبوقودٍ من الكراهية والانتقام.
الأخطر من ذلك أن العالم يقف متفرجًا، يتحدث عن “القلق” بينما تنهار المدن وتحترق القرى، وتتحول النساء والأطفال إلى لاجئين في وطنهم، بلا مأوى ولا دواء ولا أمل. هذه ليست فوضى عابرة، بل خطة مرسومة بذكاء شيطاني، لتمزيق ما تبقى من وحدة السودان ونهب خيراته وإغراقه في دوامة لا تنتهي من الصراعات.
وما أشد الألم حين نرى أبناء الوطن الواحد يتقاتلون بلغة الرصاص بدل الحوار، وكأن التاريخ لم يعلمهم أن الحرب لا تلد إلا الموت، وأن المنتصر فيها هو الخسارة نفسها.
لقد آن الأوان للعقلاء أن يستفيقوا، وأن يدركوا أن السودان لا يحتمل مزيدًا من الجراح، وأن من يظن أنه سينجو من نار الفوضى واهم، لأن النار حين تشتعل لا تفرق بين عدوٍ وصديق.
إن ما يحدث في السودان اليوم ليس مجرد اضطراب سياسي أو صراع عابر على سلطة أو منصب، بل هو فصل جديد من فصول النزيف العربي، تُكتب صفحاته بدماء الأبرياء، ويُقرأ عنوانه في وجوه الجائعين والمشردين الذين ذاقوا مرارة النزوح والضياع. إنها مأساة وطنٍ كان يمكن أن يكون منارة للسلام، فصار عنوانًا للفوضى والانقسام، لأن البعض اختار أن يُسكت صوت العقل، ويفتح الباب أمام جنون السلاح.
شجرة الفوضى التي تمد جذورها في أرض السودان، لم تُزرع بالأمس، بل نُثرت بذورها منذ سنين حين تهاون الجميع في مواجهة دعاة الخراب، وتركوا الوطن نهبًا للمصالح الإقليمية والدولية، تارة باسم الديمقراطية، وتارة باسم الحرية، حتى صار الوطن ساحة لتصفية الحسابات. واليوم، تتشابك أغصان هذه الشجرة الملعونة في كل بيتٍ وكل شارعٍ وكل روحٍ أنهكها الخوف، فلا يجد الشعب سوى أنينٍ يختنق بين الركام.
غير أن الأوطان لا تموت، وإن أرهقها النزيف. فالسودان الذي أنجب المفكرين والعلماء والشعراء، لن يبقى رهينة الفوضى إلى الأبد، لأن بين أبنائه رجالًا ونساءً يعرفون قيمة التراب الذي يسكنونه، ويحلمون بوطنٍ يحتضنهم لا يطعنهم. سيأتي يوم تُقطع فيه جذور الفتنة، وتُحرق أغصان الفوضى، وتُزرع في أرضها شجرة سلامٍ جديدة، تُظل الجميع بعدلها، وتثمر أمنًا واستقرارًا.
ولعل ما يمر به السودان اليوم يكون درسًا لكل أمةٍ غفلت عن أن الفوضى لا تأتي صدفة، بل تُزرع عمدًا حين يبتعد الناس عن وعيهم ووحدتهم. فليكن هذا الألم بداية صحوة، ولتكن الدماء الزكية التي سالت جرس إنذار يوقظ النائمين. فالوطن لا يُحمى إلا بأبنائه، ولا يُبنى إلا بسواعد من يؤمنون أن لا سلاح أقوى من العقل، ولا راية أكرم من راية السلام.
سيبقى السودان، رغم كل ما مرّ، أرضًا لا تعرف الهزيمة، وإن انحنت تحت وطأة الجراح، فستنهض من جديد كما تنهض الشمس كل فجر، لتعلن أن الليل مهما طال، فإن الفجر قادم لا محالة.