مكر الصهاينة.. وخداع الأمم تحت عباءة السلام الزائف


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي

إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

 

في كل مرحلة من مراحل التاريخ، يطلّ المكر الصهيوني برأسه، متجددًا في الأساليب، متلوّنًا في الأوجه، لكنه ثابت في الهدف والمضمون، وهو السيطرة والخداع وخلخلة القيم الإنسانية والدينية، وإعادة صياغة العالم وفق أهوائهم. تلك العقلية التي وصفها القرآن الكريم بدقة حين قال:( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، لتبقى الآية شاهدًا على دهاءٍ بشريٍّ محدودٍ أمام تدبيرٍ إلهيٍّ محكم لا يُردّ.

منذ أن وُضع حجر الأساس لفكرة الدولة الصهيونية، لم يتوقف المشروع عن اللعب على أوتار العالم، مرة باسم الدين، ومرة باسم المظلومية، وثالثة باسم الدفاع عن النفس، حتى أصبح الكذب سلاحًا والدعاية عقيدةً، والتضليل علمًا تُدرّسه مراكز بحثهم وإعلامهم. كانوا دائمًا يتقنون صناعة الأكاذيب ويجعلون منها حقائق متداولة حتى صدّقها بعض ضعاف العقول والضمائر، بل وساهموا في ترويجها، وتاريخهم شاهد على ذلك منذ أقدم العصور.

منذ عهد الأنبياء، مارس بنو إسرائيل الخداع والمكر، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وقتلوا الأنبياء الذين دعوهم إلى الحق، وبدلوا التوراة وفق أهوائهم ليخدعوا الشعوب. قال تعالى: (يحرفون الكلم عن مواضعه)،
وقال أيضًا: (وقتلهم الأنبياء بغير حق).
تلك الصفات التي لازمَتهم قرونًا طويلة ظهرت بوضوح في كل مرحلة من مراحل التاريخ القديم والحديث، من خيانتهم للعهد مع نبي الله موسى عليه السلام، إلى مؤامراتهم ضد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، حيث خانوا العهود وتآمروا مع المشركين ضده، وظنوا أن مكرهم سينجيهم، فخذلهم الله وفضحهم.

وفي العصر الحديث، امتد مكرهم حتى تحوّل إلى مشروع سياسي واقتصادي وعسكري ضخم تحت رعاية القوى الاستعمارية. ففي بدايات القرن العشرين، كانت بريطانيا هي الحاضنة الأولى للحلم الصهيوني، حين أصدرت وعد بلفور المشؤوم الذي منح ما لا تملك لمن لا يستحق. ومنذ سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ووقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، بدأ تنفيذ المخطط الكبير بإدخال المهاجرين اليهود وتسهيل استيطانهم في الأرض المقدسة. ثم جاء قرار التقسيم عام ألف وتسعمائة وسبعة وأربعين ليجعل من فلسطين ساحة نزاع دائم، فرفض العرب هذا القرار بينما تمسكت به العصابات الصهيونية التي سرعان ما أعلنت قيام دولة الاحتلال عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين، لتبدأ نكبة الشعب الفلسطيني الذي شُرد أكثر من سبعمائة ألف من أبنائه.

ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف المكر الصهيوني، بل تجدد بأشكال أخرى. ففي عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين احتلت إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وسيناء والجولان، وبدأت مرحلة جديدة من الخداع، ترفع فيها شعار السلام لتغطي به وجه الاحتلال، وتستخدم فيه الإعلام كسلاح أخطر من الدبابات. الإعلام الغربي كان ولا يزال الشريك الأول في هذه الجريمة، فهو يصور المعتدي ضحية، ويجعل من المظلوم إرهابيًا. إنهم يصنعون الرواية على مقاس مصالحهم، فيُظهرون الجنود الإسرائيليين وهم يدافعون عن أنفسهم، بينما يخفون تحت صمتهم آلاف الجثامين التي تئن في غزة والضفة.

وفي السنوات الأخيرة، تبيّن للعالم حجم التضليل الذي مارسه الإعلام العالمي الموالي للصهاينة، خاصة خلال الحرب الأخيرة على غزة، حيث تجاهلت كبريات القنوات والصحف المجازر التي راح ضحيتها آلاف الأطفال والنساء، واكتفت بترديد عبارات تبرر العدوان. حتى إنّ بعض وسائل الإعلام الغربية اعترفت لاحقًا بأن تغطيتها كانت منحازة خوفًا من فقدان التمويل أو التعرض لضغوط سياسية. هذا المكر الإعلامي هو امتداد طبيعي لتاريخ طويل من الخداع، جعل من الكلمة سلاحًا ومن الصورة وسيلة للغدر بالحقيقة.

الذين يتشدقون بالحرية والعدالة من الغرب وأمريكا، هم أنفسهم من يمدون يد الصهاينة بالمال والسلاح والإعلام، ثم يلبسون رداء النفاق السياسي في المؤتمرات والبيانات. أما أولئك الذين باعوا مواقفهم من بعض الأنظمة العربية، فصاروا شركاء في الجريمة بالصمت، أو بالتبرير، أو بالهرولة نحو التطبيع وكأنهم يزفون العدو إلى أحضان الأمة بأيديهم.

في غزة وحدها تتجلى الحقيقة كاملة بلا أقنعة ولا ديباجة سياسية. أطفال تُدفن تحت الركام، ونساء تُحرق في بيوتهن، ومسنون يُقتلون عطشًا وجوعًا، بينما يقف العالم يتحدث عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. أي نفاق هذا؟ وأي ضلال إعلامي يُغسل به ضمير العالم كل صباح؟

الصهاينة لا يخدعون العالم فحسب، بل يخدعون أنفسهم أيضًا حين يظنون أن المكر سيحميهم من عدالة الله. فقد تآمروا على الأنبياء وقتلوا المصلحين وسفكوا الدماء، لكن التاريخ لم يرحمهم، والسماء لم تسكت عنهم. كم من مملكة شيدوها على الباطل فانهارت، وكم من تحالف صنعوه فتمزق، وكم من كذبة نسجوها فانكشفت أمام أعين الشعوب.

أما الذين ظنوا أن المال الغربي أو الحماية الأمريكية ستضمن لإسرائيل الأمن والاستقرار، فهم واهمون. فكل سلاح يصنعونه اليوم سيعود يومًا ليمزقهم، وكل كذبة يبثونها ستتحول إلى لعنة تلاحقهم. إن سنن الله في الكون لا تتبدل، والباطل مهما اشتد صوته لا يغلب الحق، بل يزيده صلابة وثباتًا.

اليوم تتعرى الأقنعة واحدًا تلو الآخر، وينكشف المكر الصهيوني ومن يسانده، بينما الشعوب تبصر الحقيقة وتدرك أن ما يسمى بالسلام لم يكن إلا غطاءً للنهب والاستيطان والدم. إنهم يظنون أن الإعلام سيغطي جرائمهم، وأن الصمت العربي والدولي سيطيل أعمارهم السياسية، لكن الله يدبر أمره ولو بعد حين.

سيأتي يوم تتهاوى فيه قلاعهم كما تهاوت قبلهم إمبراطوريات الظلم، وسيرى العالم كيف أن وعد الله حق لا يُخلف. فالله خير الماكرين وعدله آتٍ مهما طال الزمان، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

وفي النهاية، يبقى اليقين ثابتًا أن الحق لا يُمحى بالمكر، وأن الله، خالق الكون ومدبر الأمر، هو الذي يمكر لهم من حيث لا يشعرون، فيسقطون في الفخ الذي نصبوه لغيرهم، وتتحول أحلامهم الكبرى إلى رماد تذروه رياح الحقيقة، في مشهدٍ يثبت أن مكر البشر زائل، وأن مكر الله هو الغالب العادل الذي لا يظلم أحدًا.