خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ الْقَادِمَةِ بِعُنْوَانْ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾ للشيخ أَحْمَدَ إِسْمَاعِيلَ الْفَشَنِيِّ


خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ الْقَادِمَةِ بِعُنْوَانْ﴿مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾

لفضيلة الشيخ : أَحْمَدَ إِسْمَاعِيلَ الْفَشَنِيِّ
من علماء الأزهر الشريف

بِتَارِيخِ: ٩ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى ١٤٤٧هـ، الْمُوَافِقُ ٣١ مِنْ أُكْتُوبَرَ ٢٠٢٥م

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه

anzal – alqoran

عَنَاصِرُ الْخُطْبَةِ:

أَوَّلًا: الْقُرْآنُ مَنْهَجُ سَعَادَةٍ لَا سَبِيلُ شَقَاءٍ.

ثَانِيًا: خُطُورَةُ الْفِكْرِ الْمُتَشَدِّدِ فِي هَدْمِ الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ.

ثَالِثًا (ضِمْنَ مُبَادَرَةِ صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ): سَمَاحَةُ الْإِسْلَامِ فِي التَّعَامُلِ اللَّائِقِ مَعَ السِّيَاحِ.

الْمَوْضُـــــوعُ

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْقَائِلُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ لِسَيِّدِ أَحْبَابِهِ: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ﴾.

وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ رَبُّهُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَجَعَلَ دِينَهُ يُسْرًا وَرَحْمَةً، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا”. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَعَلَى آلِكَ وَأَصْحَابِكَ، سَادَتِنَا أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ…

أَيُّهَا السَّادَةُ الْمُؤْمِنُونَ، يَا أَحْبَابَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

إِنَّ خُطْبَتَنَا الْيَوْمَ تَدُورُ حَوْلَ قَضِيَّةٍ مِحْوَرِيَّةٍ فِي فَهْمِ دِينِنَا، وَسَنَسِيرُ فِيهَا بِعَوْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفْقَ الْعَنَاصِرِ التَّالِيَةِ:

الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ رِسَالَةُ سَعَادَةٍ، وَالْإِسْلَامُ دِينُ يُسْرٍ لَا عُسْرٍ.

يَا عِبَادَ اللَّهِ! يَتَوَهَّمُ الْبَعْضُ أَنَّ الدِّينَ قُيُودٌ وَأَغْلَالٌ، وَأَنَّ التَّدَيُّنَ عُبُوسٌ وَتَجَهُّمٌ، وَأَنَّ الْقُرْبَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَلْزِمُ الشِّدَّةَ عَلَى النَّفْسِ وَالتَّضْيِيقَ عَلَى الْخَلْقِ. وَقَدْ نَسِيَ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، حِينَ خَاطَبَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَدَهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ الشَّرِيفَتَانِ، وَيُهْلِكُ نَفْسَهُ حَسَرَاتٍ عَلَى قَوْمِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ لَا لِيَزِيدَهُ شَقَاءً، بَلْ لِيُخَفِّفَ عَنْهُ وَيُسْعِدَهُ، فَقَالَ: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾.

إِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نُهِيَ عَنِ الْمُبَالَغَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الشَّقَاءِ، فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا بِالشَّقَاءِ وَالْمَشَقَّةِ وَالْعَنَتِ؟!

لَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ لِيَرْفَعَ عَنَّا الشَّقَاءَ. اسْمَعُوا إِلَى قِصَّةِ أَبِينَا آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا أَهْبَطَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْأَرْضِ، أَعْطَاهُ وَعْدًا إِلَهِيًّا: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾. فَالْهُدَى (وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالدِّينُ) نَزَلَ لِيَنْفِيَ عَنَّا الضَّلَالَ وَالشَّقَاءَ. ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾. فَالشَّقَاءُ وَالضَّنْكُ هُوَ نَتِيجَةُ الْإِعْرَاضِ عَنْ مَنْهَجِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا نَتِيجَةُ اتِّبَاعِهِ.

إِنَّ رِسَالَةَ الْإِسْلَامِ قَائِمَةٌ عَلَى الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ. قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾. وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾. وَقَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ”. وَقَالَتْ أُمُّنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: “مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا”.

وَصَدَقَ الْقَائِلُ:

وَدِينُ الْهُدَى دِينُ الْيَسَارَةِ وَالسَّنَا

وَمَا الْيُسْرُ إِلَّا فِي اتِّبَاعِ مُحَمَّدِ

فَلَا تَجْعَلُوا الدِّينَ الْحَنِيفَ مَشَقَّةً

فَيُصْبِحَ عِبْئًا شَاقِئًا كُلَّ مُهْتَدِ

إِنَّمَا الشَّقَاءُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ فِي سُوءِ فَهْمِ الدِّينِ، وَهُوَ مَا يَقُودُنَا إِلَى الْعُنْصُرِ التَّالِي.

الْعُنْصُرُ الثَّانِي: خُطُورَةُ “الْغُلُوِّ” وَ”التَّنَطُّعِ” فِي هَدْمِ الْأَفْرَادِ وَإِشْقَاءِ الْمُجْتَمَعَاتِ.

يَا عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ أَخْطَرَ مَرَضٍ يُصِيبُ الْأُمَمَ وَيُدَمِّرُهَا بِاسْمِ الدِّينِ هُوَ مَرَضُ “الْغُلُوِّ” وَالتَّشَدُّدِ. الْغُلُوُّ هُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. وَلَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَقَالَ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ﴾. وَحَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ”. وَقَالَ: “هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ”. قَالَهَا ثَلَاثًا. وَالْمُتَنَطِّعُونَ هُمُ الْمُتَشَدِّدُونَ الْمُتَعَمِّقُونَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التَّعَمُّقِ.

إِنَّ الْمُتَشَدِّدَ يُحَوِّلُ الدِّينَ مِنْ يُسْرٍ إِلَى عُسْرٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ”. أَيْ: مَنْ حَاوَلَ أَنْ يَأْخُذَ الدِّينَ بِالْعُنْفِ وَالتَّشَدُّدِ، سَيَغْلِبُهُ الدِّينُ، فَيَنْقَطِعُ فِي الطَّرِيقِ أَوْ يَرْتَدُّ إِلَى التَّفْلِيتِ الْكَامِلِ.

وَقَدْ حَذَّرَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي قِصَّةٍ تَكْشِفُ جُذُورَ هَذَا الْفِكْرِ. تَأَمَّلُوا قِصَّةَ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ، رَأْسِ الْخَوَارِجِ، الَّذِي جَاءَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، فَقَالَ بِجَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ: “يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ!”. يَا لَلْجُرْأَةِ! يَتَّهِمُ سَيِّدَ الْخَلْقِ بِالْجَوْرِ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟”. فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا (أَيْ مِنْ نَسْلِهِ وَأَتْبَاعِهِ) قَوْمًا، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ”.

هَذَا هُوَ التَّشَدُّدُ: ظَاهِرُهُ عِبَادَةٌ وَقِرَاءَةُ قُرْآنٍ، وَبَاطِنُهُ جَهْلٌ وَسُوءُ فَهْمٍ، وَنَتِيجَتُهُ قَتْلُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِشْقَاءُ الْأُمَّةِ.

وَحِينَ ظَهَرَ الْخَوَارِجُ وَكَفَّرُوا سَيِّدَنَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ حَبْرَ الْأُمَّةِ وَتُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ، سَيِّدَنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِيُنَاظِرَهُمْ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمْ سَيِّدُنَا ابْنُ عَبَّاسٍ، رَأَى عِبَادَتَهُمْ فَانْبَهَرَ، قَالَ: “فَدَخَلْتُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ أَرَ أَشَدَّ مِنْهُمُ اجْتِهَادًا، أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا ثَفِنُ الْإِبِلِ (غَلِيظَةٌ مِنَ الْعَمَلِ)، وَوُجُوهُهُمْ مُعَلَّمَةٌ مِنْ آثَارِ السُّجُودِ”. وَلَكِنْ، مَعَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، كَانَ الْفَهْمُ سَقِيمًا. فَقَالَ لَهُمْ: “مَاذَا تَنْقِمُونَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟” فَقَالُوا: “نَنْقِمُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا: أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، وَأَنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ”.

فَرَدَّ عَلَيْهِمْ سَيِّدُنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْفَهْمِ الصَّحِيحِ وَالْعِلْمِ الرَّاسِخِ، وَأَثْبَتَ لَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا فَهِمُوهُ كَانَ خَطَأً. فَرَجَعَ مِنْهُمْ أُلُوفٌ، وَبَقِيَ أُلُوفٌ عَلَى غُلُوِّهِمْ وَشَقَائِهِمْ.

وَفِي وَاقِعِنَا الْمُعَاصِرِ، نَرَى هَذَا الشَّقَاءَ بِأَعْيُنِنَا. كَمْ سَمِعْنَا عَنْ شَابٍّ اسْتَقَامَ، فَعَادَ إِلَى بَيْتِهِ مُكَفِّرًا أَبَاهُ، مُهَاجِرًا أُمَّهُ، مُقَاطِعًا أَرْحَامَهُ، فَحَوَّلَ الْبَيْتَ الْآمِنَ إِلَى جَحِيمٍ مِنَ الْخِلَافَاتِ، وَأَشْقَى نَفْسَهُ وَأَشْقَى مَنْ حَوْلَهُ.

وَصَدَقَ مَنْ قَالَ:

وَوَاضِعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ

كَوَاضِعِ السَّيْفِ فِي عُنْقِ الْأَسَدِ

لَا تَغْلُو فِي الدِّينِ فَالْأَوْسَاطُ مَنْهَجُنَا

مَنْ جَاوَزَ الْحَدَّ يَرْجِعْ خَائِبَ الْيَدِ

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ…

فَيَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ،

نَصِلُ إِلَى الْعُنْصُرِ الثَّالِثِ مِنْ خُطْبَتِنَا، اسْتِكْمَالًا لِمُبَادَرَةِ “صَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ”، وَتَطْبِيقًا عَمَلِيًّا لِسَمَاحَةِ الدِّينِ الْيَسِيرِ، وَهُوَ مَفْهُومُ: “التَّعَامُلُ اللَّائِقُ مَعَ السِّيَاحِ”.

إِنَّ الْفِكْرَ الْمُتَشَدِّدَ، الَّذِي هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الشَّقَاءِ وَسُوءِ الظَّنِّ، يُصَوِّرُ لَنَا الْآخَرَ عَلَى أَنَّهُ عَدُوٌّ دَائِمٌ. فَيَظُنُّ الْبَعْضُ أَنَّ السَّائِحَ الْأَجْنَبِيَّ إِمَّا عَدُوٌّ يَجِبُ التَّجَهُّمُ فِي وَجْهِهِ، وَإِمَّا أَنَّهُ مُجَرَّدُ مَصْدَرٍ لِلْمَالِ يَجُوزُ اسْتِغْلَالُهُ وَخِدَاعُهُ. وَكِلَا الْمَفْهُومَيْنِ انْحِرَافٌ عَنْ سَمَاحَةِ الْإِسْلَامِ وَيُسْرِهِ.

إِنَّ السَّائِحَ الَّذِي يَدْخُلُ بِلَادَنَا بِأَمَانٍ وَعَهْدٍ هُوَ “مُسْتَأْمِنٌ” وَ “ضَيْفٌ”، وَقَدْ قَالَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ”. وَقَالَ: “أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ (أَيْ خَصْمُهُ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.

إِنَّ إِكْرَامَ الضَّيْفِ هُوَ مِنْ شِيَمِ الْأَنْبِيَاءِ. انْظُرُوا إِلَى أَبِينَا سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَبِي الضِّيفَانِ، حِينَ جَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى هَيْئَةِ ضُيُوفٍ لَمْ يَعْرِفْهُمْ: ﴿فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾. قِمَّةُ الْكَرَمِ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنِ الْهَوِيَّةِ.

وَانْظُرُوا إِلَى سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ، وَجَدَ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ، فَسَقَى لَهُمَا دُونَ أَنْ يَسْأَلَهُمَا أَجْرًا، بَلْ فِعْلُهُ كَانَ شَهَامَةً مَعَ الْغُرَبَاءِ.

وَانْظُرُوا إِلَى سَيِّدِ الْخَلْقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ عَامَلَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ وَجَاءَ بِهِ الْأَسْرُ. رَبَطَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: “مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟”، وَيَأْمُرُ لَهُ بِحَلِيبِ اللَّقَاحِ (أَكْرَمِ الطَّعَامِ)، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ بِرِفْقٍ. فَلَمَّا رَأَى ثُمَامَةُ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ الْعَالِيَةَ، وَأَطْلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَاحَهُ، اغْتَسَلَ ثُمَامَةُ وَعَادَ وَقَالَ: “يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ”. لَقَدْ أَسْلَمَ بِحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَالْأَخْلَاقِ، لَا بِالتَّشَدُّدِ وَالتَّنْفِيرِ.

وَصَدَقَ الشَّاعِرُ حِينَ قَالَ:

أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ

فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الْإِنْسَانَ إِحْسَانُ

فَالْكُلُّ فِي أَرْضِ الْإِلَهِ عَوَابِرٌ

وَالضَّيْفُ حَقٌّ أَنْ يُجَلَّ وَيُكْرَمَا

كُنْ بِالْأَمَانَةِ وَالسَّمَاحَةِ قُدْوَةً

تَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ دَعْوَةَ حُكَمَا

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ سَفِيرٌ لِدِينِهِ. إِكْرَامُ السَّائِحِ وَالْأَمَانَةُ مَعَهُ وَالِابْتِسَامَةُ فِي وَجْهِهِ هِيَ دَعْوَةٌ عَمَلِيَّةٌ تُطْفِئُ نَارَ التَّشَدُّدِ وَتُظْهِرُ جَمَالَ الْإِسْلَامِ الَّذِي مَا نَزَلَ لِيُشْقِيَنَا.

الدُّعَاءُ…

اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.

اللَّهُمَّ فَهِّمْنَا دِينَكَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، وَجَنِّبْنَا الْغُلُوَّ وَالتَّشَدُّدَ وَالتَّنَطُّعَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مُيَسِّرِينَ غَيْرَ مُعَسِّرِينَ، مُبَشِّرِينَ غَيْرَ مُنَفِّرِينَ.

اللَّهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، وَاحْفَظْ بِلَادَنَا مِصْرَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، وَاجْعَلْهَا دَارَ أَمْنٍ وَأَمَانٍ وَرَخَاءٍ وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

عِبَادَ اللَّهِ:

إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَاذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ…