خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةُ: ((بَالتِّي هِيَ أَحْسَنُ)) للدكتور مُحَمَّدٌ حِرْز


خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةُ: ((بَالتِّي هِيَ أَحْسَنُ))
للدكتور : مُحَمَّدٌ حِرْز

ٌ بِتَارِيخِ 25 جُمَادَى الأوَّلِ 1447 هـ، الْمُوَافِقُ 17 مِنْ أُكْتُوبَرَ 2025 م

 

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
alte he ahsn

 

الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْشَأَ وَبَرَا ، وَخَلَقَ المَاءَ وَالثَّرَى ، وَأَبْدَعَ كُلَّ شَيْءٍ وَذَرَا ، لَا يَغِيبُ عَنْ بَصَرِهِ دَبِيبُ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ إِذَا سَرَى ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وَأشهدُ أَنَّ سيدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، قَالَ حَسَّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ وَفِي وَصْفِ النَّبِيِّ ﷺ:

وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني****وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ

خُلِقتَ مُبَرَّءً مِن كُلِّ عَيبٍ****كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ

فَاللّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ المُخْتَارِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَطْهَارِ وسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ …..فَأَوْصِيكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الأَخْيَارُ بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 102)عِبَادَ اللّهِ: (((بَالتِّي هِيَ أَحْسَنُ))) عُنْوَانُ وَزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.

عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:

  • أَوَّلًا: الْفَوْزَ الْفَوْزَ بِالْمُعَامَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .

  • ثَانِيًا: الْخِلَافُ لَا يُفْسِدُ لِلْوَدِّ قَضِيَّةً.

  • ثَالِثًا وَأَخِيرًا: التَّحَرُّشُ دَاءٌ عُضَالٌ.

أَيُّهَا السَّادَةُ: بَدَايَةً مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْمَعْدُودَةِ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ بَالتِّي هِيَ أَحْسَنُ خَاصَّةً فِي زَمَنٍ انْتَشَرَ فِيهِ الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ وَعَلَّتْ لَهَجَةُ الْحِوَارِ بَيْنَ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللّهُ جَلَّ وَعَلَا، وَخَاصَّةً وَقَدْ جَاءَتْ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِكُلِّ خَيْرٍ لِمَا فِيهِ صَلاحُ النَّاسِ فِي مَعَاشِهِمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَلَمْ تَتْرُكْ شَيْئًا مِّن شُؤُونِ الدُّنْيَا إِلَّا وَدَلَّتْ عَلَى الْخَيْرِ فِيهِ، وَمِن تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ آدَابُ الْحَدِيثِ، وَآدَابُ الْحِوَارِ مَعَ الْآخَرِينَ ونبذ الفرقةِ والاختلاف ِ،فَلَمْ تَتْرُكْ الْأَمْرَ دُونَ أَنْ تَضَعَ لَهُ أَحْكَامًا وَآدَابًا يَرجِعُ إِلَيَهَا النَّاسُ فِي حَوَارَاتِهِمْ وَجِدَالِهِمْ مَعَ بَعْضِهِمْ البعض. وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ 

أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمْ*** فَطَالَمَا استَعْبَدَ الْإِنْسَانَ إِحْسَانُ

أَوَّلًا: الْفَوْزَ الْفَوْزَ بِالْمُعَامَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .

أَيُّهَا السَّادَةُ: الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ دَعَانَا إِلَى الْإِحْسَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى اخْتِلَافِ السُّنَّتِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَدَعَانَا إِلَى مُقَابَلَةِ الْإِسَاءِةِ بِالْإِحْسَانِ وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

وَكَيْفَ لَا؟
وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا النَّاسُ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمُخَاطَبَةِ بِأَحْسَنِ الْأَقْوَالِ وَأَرَقِّ الْعِبَارَاتِ وَأَجْمَلِ الْكَلِمَاتِ، فَالحَيَاةُ مُرْهَقَةٌ فَلَا تَحْمِلُوا النَّاسَ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ وَتَعَامَلُوا مَعَهُمْ بِالْحَسَنَى قَالَ جَلَّ وَعَلَا (((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا))) (البقرة: 83) اجْبُرُوا الْخَوَاطِرَ وَرَاعُوا الْمَشَاعِرَ وَانْتَقُوا كَلِمَاتِكُمْ وَتَلَطَّفُوا بِأَفْعَالِكُمْ وَتَذَكَّرُوا الْعِشْرَةَ وَلَا تُؤْلِمُوا أَحَدًا وَعِيشُوا أَنْقِيَاءَ أَصْفِيَاءَ فَحَذَا مِنْهَجُ الأنْبِيَاءِ وَأَخْلَاقُ النُّبَلَاءِ،

وَكَيْفَ لَا؟
وَنَحْنُ نَعِيشُ زَمَانًا انْتَشَرَ فِيهِ الْخِدَاعُ وَبَذَاءَةُ اللِّسَانِ وَفَحْشُ الْأَقْوَالِ وَالْكَذِبُ، خَاصَّةً بَعْدَ انْتِشَارِ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الْاجْتِمَاعِي وَبَلَغَتْ الْآفَاقَ، وَصَدَقَ الْمَعْصُومُ ﷺ إِذْ يَقُولُ: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)، وَانْتَشَرَتْ الصَّفَحَاتُ الْوَهْمِيَّةُ عَلَى تِلْكُمُ الْمَوَاقِعِ وَاخْتَفَى أَصْحَابُهَا خَلْفَ الشَّاشَاتِ الزُّرْقَاءِ لِلنَّيْلِ مِنَ النَّاسِ وَأَعْرَاضِهِمْ وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ وَنَسِيَ الْمِسْكِينُ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ:لَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِ ،فإنَّ مَن تَتَبَّعَ عَوراتِهم تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَه، ومَن تَتَبَّعَ اللهُ عَورَتَه فَضَحَه في بَيتِه )، وَنَسَى الْمِسْكِينُ قَوْلَ الْقَائِلِ:

وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلَّا سَيَفْنَى *** وَيَبْقَى الْدَّهْرُ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ
فَلَا تَكْتُبْ بِيَدِكَ غَيْرَ شَيْءٍ ***يُسَرُّكَ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ تَرَاهُ
وَنَسَى الْمِسْكِينَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ:

لِسَانُكَ لَا تَذْكُرْ بِهِ عَوْرَةَ امْرِئٍ *** فَكُلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ.
وَعَيْنَاكَ إِنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَايِبًا *** فَدَعْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُنٌ

ومُقَابَلَةُ الْإِسَاءِةِ بِالْإِحْسَانِ وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَالْمُجَادَلَةِ بِالْحُسْنَى رِسَالَةُ الْمُرْسَلِينَ، وَسِمَةُ الْمُؤْمِنِينَ، دَعَا إِلَيْهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ فَقَالَ: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]،

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: ٩٦]، وَيَقُولُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: ٣٤]، فَيُرْشِدُنَا رَبُّنَا – تَبَارَكَ وَتَعَالَى – إِلَى الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَعَدَمِ الرَّدِّ بِالْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، فَمَن يَلْقَاكَ بِعَبُوسٍ تَلْقَاهُ بِطَلَاقَةٍ وَجْهٍ وَابْتِسَامَةٍ، وَمَن يُعْرِضُ عَنْكَ وَيُولِيكَ ظَهْرَهُ تَسْتَقْبِلْهُ، مَن لَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ وَلَا يُحَيِّيكَ تُحَيِّيهِ بِالسَّلاَمِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ التَّحَايا، مَن يَقْطَعُكَ وَلَا يَصِلُكَ تَصِلُهُ وَتُوَاسِيهِ فِي النَّائِبَاتِ، مَن يُسْمِعُكَ كَلَامًا جَارِحًا تُسْمِعُهُ كَلَامًا لَيِّنًا طَيِّبًا، مَن يُحَاوِلُ اِسْتِفْزَازَكَ بِالْكَلَامِ، تَتَغَافَلُ عَنْهُ وَكَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ كَلَامَهُ.

وَإِنْ بُلِيتَ بِشَخْصٍ لَا خَلاقَ لَهُ ***** فَكُنْ كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ يَقُلِ

وَدَعَانَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إِلَى حُسْنِ الْحِوَارِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النَّحْلِ: ١٢٥]. وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا (({وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٦]. فَلَمْ يَقُلْ: {وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ حَسَنٌ} بَلْ قَالَ: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فَجَعَلَ الْجِدَالَ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ بِالْقَبِيحِ وَلَا بِالْحَسَنِ، بَلْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَيّ: أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَجادِلْهُمْ الْحُجَّةَ بِالْحُجَّةِ، وَالدَّلِيلَ بِالدَّلِيلِ، غَيْرَ فَظٍّ، وَلَا غَلِيظَ، بَلْ قَدِّمِ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ وَاللِّيْنَ مَعَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ، وَهُوَ نَفْسُ الْخِطَابِ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ الَّذِي ادَّعَى الْأَلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: ٤٤].

سُبْحَانَهُ جَلَّ شَأْنُهُ مَا قَالَ حَسَنًا، بَلْ قَالَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَيَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَخْتَارَ أَحْسَنَ الْكَلِمَاتِ وَأَجْمَلَ الْعِبَارَاتِ عِنْدَمَا يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ النَّاسِ، وَيُحَاوِرَ النَّاسَ وَيُجادِلَ النَّاسَ كُلَّ النَّاسِ مَعَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، مَعَ الْمُسْلِمِ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِ، هَذَا مِنْ أَخْلَاقِ الْإِسْلَامِ، تَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ بِالْكَلَامِ الَّذِي يُعْجِبُكَ أَنْ تَسْمَعَهُ مِنْهُمْ، مِنْ غَيْرِ اسْتَهْزَاءٍ وَلَا تَكَبُّرٍ وَلَا تَحْقِيرٍ، لَا يَطْعَنُ فِي الْآخَرِينَ وَلَا يَلْعَنْ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ فَاحِشٍ أَوْ بَذِيءٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ).
سُنَنُ التُّرْمِذِي.

وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوَسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إِنَّ في الْجَنَّةِ غُرْفَةً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلاَنَ الْكَلاَمَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ» وَلِلَّهِ دَرُّ القائلِ: 

جِرَاحَاتُ السَّنَانِ لَهَا التِّئَامُ **** وَلَا يَلْتَئِمُ مَا جَرَحَ اللِّسَان

فَلْنَتَعَلَّمْ مِنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَّ الْحِوَارِ وَفَنَّ الْمُعَامَلَةِ وَفَنَّ الرُّقِيِّ وَالتَّحَضُّرِ وَالِاسْتِمَاعِ إِلَى الْآخَرِينَ وَكَيْفِيَّةَ التَّعَامُلِ مَعَ الْمُخَالِفِ لَا بِالسَّبِّ وَلَا بِاللَّعْنِ وَلَا بِالْقَسْوَةِ وَلَا بِالْغِلْظَةِ إِنَّمَا بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ وَالمَحَبَّةِ وَبِالتِّي هِيَ أَحْسَنُ فَهَذَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ كَانَ يُحَاوِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: “قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ، قَالَ: يَا بَنَ أَخِي، إنْ كنتَ إنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جئتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيًّا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نفسِك، طَلَبْنَا لَكَ الطبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نبرئَك مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التابعُ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ حَتَّى إذَا فَرَغَ عُتْبَةُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مِنْهُ، قَالَ: “أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟، قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَاسْمَعْ مِنِّي؛ قَالَ: أَفْعَلُ….” [رواه ابن إسحاق في “السير والمغازي”].

فَالإِصْغَاءٌ إِلَى الْآخَرِينَ فَنٌّ قَلَّ مِنْ يَجِيدُهُ وَيُحْسِنُهُ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ رُبَّمَا يَجِيدُ الْحَدِيثَ أَكْثَرَ مِنَ الاسْتِمَاعِ، وَالْأَدَبُ النَّبَوِيُّ يُعَلِّمُنَا أَنَّهُ لَابُدَّ أَنْ تَسْتَمِعَ جَيِّدًا، وَأَنْ تَسْتَوْعِبَ جَيِّدًا مَا يَقُولُهُ الْآخَرُونَ، وَأَنْ نَتَعَامَلَ مَعَهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

وَكَيْفَ لَا ؟
والإِحْسَانُ يُطْفِئُ نَارَ العَدَاوَةِ وَالحَسَدِ وَالبُغْضِ وَالبَغيِ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الآخَرِينَ، فَإِذَا زَادَكَ النَّاسُ أَذَىً وَشَرَّاً وَحَسَدَاً وَحِقْدَاً وَبَغْيَاً، زِدْ أَنْتَ إِلَيْهِمْ إِحْسَانَاً، وَنَصِيحَةً وَشَفَقَةً وَدُعَاءً، وَأَنْتَ تَـسْتَحْضِرُ حَبِيبَكَ المَحْبُوبَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا أَسَاءَ إِلَيْهِ المُشْرِكُونَ وَضَرَبُوهُ حَتَّى أَدْمَوْهُ، فَجَعَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» رواه الشيخان.

لَقَدْ قَابَلَ إِسَاءَتَهُمْ العَظِيمَةَ البَلِيغَةَ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ العَظِيمَةِ، التي حَمَلَتْ في طَيِّهَا أَسْمَى مَقَامٍ في الإِحْسَانِ، لَقَدْ عَفَا عَنْهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَغْفَرَ اللهَ تعالى لَهُمْ، وَاعْتَذَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَاسْتَعْطَفَ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي».

وَكَيْفَ لَا ؟
وقد حَذَّرْنَا دِينَنٌا الحنيفٌ  مِـنَ الْـاقْتِرَابِ مِـنْ مَالِ الْـيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَقَالَ جَلَّ وَعَلا فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ : {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الْأَنْعَامِ: ١٥٢]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإِسْرَاءِ: ٣٤]. فَالتَّعَامُلَ فِي مَالِ الْـيَتِيمِ أَيُّهَا الْأَخْيَارُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَكَيْفَ لَا؟ وَأَكْلُ مَالِ الْـيَتِيمِ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ السَّدِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُبْعَثُ آكِلُ مَالِ الْـيَتِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهَبُ النَّارِ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، وَمِنْ مَسَامِعِهِ وَأَنْفِهِ وَعَيْنَيْهِ، فَيَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ رَآهُ بِأَكْلِ مَالِ الْـيَتِيمِ.

قَالَ جَلَّ وَعَلا﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [الْنِّسَاءِ: ١٠].لِذَا حَرَّمَ الْإِسْلَامُ كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91].

وَكَيْفَ لَا ؟
وقد َحَرَّمَ المُصْطَفَى الأَمِينُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُودَ الَّتِي تُوغِرُ صَدْرَ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ، وَتَجْعَلُهُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ فِي صَدْرِهِ؛ فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ: “نَهَى النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ”؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ. 

وَنَهَى  سبحانه عَنْ الْمُجَادَلَةِ وَكَثْرَةِ الْمُخَاصَمَةِ، وَإِنْ كَانَ الشَّخْصُ عَلَى حَقٍّ؛ لَأَنَّ الْمُجَادَلَةَ فِي الْغَالِبِ تُؤَثِّرُ فِي النُّفُوسِ، وَتَجْلِبُ النُّفْرَةَ بَيْنَ الْمُتَجَادِلِينَ؛ فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَنَا زَعِيمٌ بَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَن حَسَنَ خُلُقُهُ))؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

فَاحْرِصْ عَلَىَ المِعَامَلَةِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَالمِعَامَلَةُ بِالْقَوْلِ الحَسَنِ، وَبِالْقَوْلِ المَيْسُورِ، وَبِالْقَوْلِ الطَّيِّبِ، وَبِالْقَوْلِ الْكَريمِ، وَبِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَىَ بِهِ فِي كِتَابِهِ، تَجْلِبُ بِذَلِكَ مَحَبَّةَ النَّاسِ، وَتَسْتَدْفِعُ بِهِ عَداوَتَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَىَ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ فَاتَّقُوا اللَّهَ رَحَمَكُم اللَّهُ، وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَطَهِّرُوهَا مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ، وَاجْعَلُوهَا رَطْبَةً بِذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَطَاعَتِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَسْعَوْا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَكُفُّ الأَذَى، وَحُسْنُ الْخُلُقِ، وَطَيِّبُ الْكَلَامِ. وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ الْحَقِّ جَلَّ وَعَلَا:﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10]. وتَذَكَّرُوا قَوْلَ الحَقِّ جَلَّ وعَلَا: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} سُورَةُ البَقَرَةِ:83 ، أَيِ تَخَيَّرُوا مِنَ الْكَلِمَاتِ أَحْسَنَهَا وَمِنَ الْعِبَارَاتِ أَدَقَّهَا وَمِنَ الْأَلْفَاظِ أَجْمَلَهَا جَبْرًا لِخَوَاطِرِ النَّاسِ تَسْعَدُوا فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ. وتَذَكُّرُوا أَنَّ الدَّاعِي إِلَى مُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِالسَّيِّئَةِ هُوَ الشَّيْطَانُ؛ لِيُفْسِدَ الْمَحَبَّةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُوقِعَ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ؛

فَعَنْ جَابِرٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيسَ أَنْ يُعْبَدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ))؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فَلَا تَعملْ بِمَا يُمْلِي عَلَيْكَ عَدُوُّكَ. وتَذَكَّرُوا مُقَابَلَةَ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ بِالِالْتِجَاءِ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ أَنْ يُزِيلَ مَا فِي صَدْرِكَ عَلَى إِخْوَانِكَ الْمُسْلِمِينَ، وَخُصُوصًا مِمَّنْ هُوَ مُعَاصِرٌ لَكَ، وَمَنْ هُوَ مِنْ أَقْرَانِكَ، فَالأَقْرَانُ وَأَصْحَابُ الْأَعْمَالِ الْمُتَمَاثِلَةِ يَحْصُلُ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ وَشِقَاقٌ لِأَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَرُبَّمَا أَوْهَمَ الشَّيْطَانُ بَعْضَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ لِلَّهِ، وَالْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ يَقُولُ رَبُّنَا – تَبَارَكَ وَتَعَالَى -:﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ )الحشر: 10)

وَتَذَكَّرُوا أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ النَّاسِ وَمُقَابَلَةَ الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ لَا يَعْنِي بِحَالٍ أَنَّكَ ضَعِيفٌ أَوْ أَنَّكَ عَدِيمُ الشَّخْصِيَّةِ كَمَا يَزْعُمُ الْبَعْضُ، بَلْ هُوَ عَلاَمَةُ الْقُوَّةِ وَالتَّرَقِّي، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ” رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: “تِسْعَةُ أَعْشَارِ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي التَّغَافُلِ” أَي فَلَا يَقِفُ الْمَرْءُ عَلَى كُلِّ شَارِدَةٍ وَوَارِدَةٍ مِمَّا لَا خَيْرَ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهَا كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ، فَتَرَى كَثِيرًا مِنَ الْأَزْوَاجِ يَقِفُونَ عَلَى كُلِّ هَفْوَةٍ وَسَقْطَةٍ وَلَا يَتَجَاوَزُونَ ذَٰلِكَ، فَيَكْثُرُ الْعَتَابُ فَيُؤَدِّي ذَٰلِكَ إِلَى التَّنَافُرِ وَالتَّبَاعُدِ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللّٰهُ عَنْهُ قَالَ: “خَدَمْتُ رَسُولَ اللّٰهِ صَلَّى اللّٰهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ وَاللّٰهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا”. نَسْأَلُ اللّٰهَ تَعَالَى أَنْ يُرْزِقَنَا حُسنَ الْخُلُقِ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَبِعِبَادِهِ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.

  • ثَانِيًا: الْخِلَافُ لَا يُفْسِدُ لِلْوَدِّ قَضِيَّةً.

أَيُّهَا السَّادَةُ: الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ أَمْرٌ وَاقِعٌ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِتَفَاوُتِ الْأَفْهَامِ، وَاخْتِلَافِ الْعُقُولِ، وَلَنْ يَنَالَ الْمُسْلِمُونَ الْعِزَّةَ إِلَّا بِجَمْعِ شَمْلِهِمْ، وَتَوْحِيدِ كَلِمَتِهِمْ، وَتَآلُفِ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّرَفُّعِ عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ؛ فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعُقُولُ فَلَا تَخْتَلِفُ الْقُلُوبُ، وَكَيْفَ تَخْتَلِفُ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِأُمَّتِنَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الِاجْتِمَاعِ مَا لَا يَجْتَمِعُ لِغَيْرِهَا؟ فَإِلَهُنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ، وَدِينُنَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ نَكُونَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.

وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَفْضَلِ الْخَلْقِ فَلَمْ يَتَدَابَرُوا، وَلَمْ يَتَهَاجَرُوا، وَلَمْ يَتَخَاصَمُوا؛ وَقَعَ الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ فَبَعْدَ أَنِ اتَّخَذَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَارَهُ بِمُحَارَبَةِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، يَأْتِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا [هِيَ الْعَنْزَةُ الصَّغِيرَةُ] كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

بَلْ وَقَعَ الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِينَ؛ كَمَا وَقَعَ بَيْنَ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ حَيْثُ يَقُولُ مُوسَى لِآدَمَ: «أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ! قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَكَذَا الْمَلَائِكَةُ الْمُكَرَّمُونَ وَقَعَ بَيْنَهُمُ الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ؛ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلُ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ… رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَوَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ؛ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْحَسَمَ النِّزَاعُ بِمَوْقِفِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلِهِ: (مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ)، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 144]، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَبَعْدَ هَذَا النِّزَاعِ سَلَّمَ الْجَمِيعُ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَخْفَى – عَلَى كُلِّ مُطَّلِعٍ – اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ فِي فُرُوعِ الدِّينِ، مَعَ احْتِرَامٍ مُتَبَادَلٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَحُبٍّ وَتَآلُفٍ، وَدُعَاءٍ مُتَوَاصِلٍ؛ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ سَلِيمَةٌ، وَنُفُوسَهُمْ طَاهِرَةٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ.

أمَّا الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافٌ الْمَذْمُومٌ فِيؤَدِّي إِلَى امْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِالْأَمْرَاضِ وَالْعِلَلِ: كَالْحِقْدِ وَالْغِلِّ، وَالْكِبْرِ وَالْبَغْضَاءِ، وَتَرَصُّدِ الْأَخْطَاءِ، وَالتَّرَبُّصِ بِالزَّلَّاتِ وَالتَّجْرِيحِ، وَهِيَ ثِمَارٌ بَدَهِيَّةٌ عِنْدَمَا يَكُونُ مَنْبَعُ الْخِلَافِ هُوَ الْهَوَى، وَالْإِعْجَابَ بِالرَّأْيِ؛ أمَّا الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافٌ الْمَذْمُومٌ فِيؤَدِّي إِلَى تَنَافُرِ الْقُلُوبِ، وَانْعِدَام ِ التَّفَاهُمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ: وَيَنْتُجُ عَنْ ذَلِكَ التَّبَاغُضُ وَالْمُعَانَدَةُ، وَالتَّحَاسُدُ وَالْحِقْدُ وَالْغَيْرَةُ، وَالشِّقَاقُ وَالتَّمَزُّقُ، وَهِيَ بِدَايَةُ الْهَزِيمَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الْأَنْفَالِ: 46]، وَتِلْكَ ثَمَرَةٌ مُرَّةٌ لِتَنَافُرِ الْقُلُوبِ، وَانْعِدَامِ التَّفَاهُمِ وَالِانْسِجَامِ الْمَطْلُوبِ، فَالْأَصْلُ أَنْ تَذُوبَ الْفَوَارِقُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيَعِيشُوا بِالْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ مِثْلَ تَآلُفِ الْقُلُوبِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

 وكيفَ لا؟
وَالِاجْتِمَاعُ وَعَدَمٌ التَّفَرُّقِ، وَالتَّحَابُّ وَتَرْكٌ الْخِلَافِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وَمِنَّةٌ كَبِيرَةٌ، فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّفَاقِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ؛ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ رَحْمَةٌ، وَالِاخْتِلَافَ عَذَابٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هُودٍ: 118-119]. فَالْمَرْحُومُونَ مُتَّفِقُونَ لَا يَخْتَلِفُونَ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا لَا يَتَبَاغَضُونَ، وَلَا يَتَدَابَرُونَ.

وكيفَ لا؟
وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالِاتِّفَاقِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ، وَأَوْصَاهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 103]. الْخِلَافُ المحمودٌ لَا يُفْسِدُ لِلْوَدِّ قَضِيَّةً.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ.

 

الخطبة الثانية … الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ، وَبِسْمِ اللَّهِ وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .. وَبَعْدُ

 

  • ثَالِثًا وَأَخِيرًا: التَّحَرُّشُ دَاءٌ عُضَالٌ.

أَيُّهَا السَّادَةُ: ومِنَ الجَرَائِمِ التي تَئِنُّ المُجتَمَعَاتُ مِنْ وَيْلاتِهَا، وَيُجمِعُ العُقَلَاءُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ رَصْدِ وَاقِعِهَا: جريمةُ التَّحَرُّشِ بِالأَعْرَاضِ التي تُفضِي إِلَى الوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ بِالْغَوَايَةِ وَالْإِيذَاءِ وَالْخِداعِ، وَهُوَ سُلُوكٌ مَنْبُوذٌ، وَإِفسَادٌ مَقِيتٌ يَعْمَلُ عَلَى تَهْيِيجِ الْعَوَاطِفِ، وَإِثَارَةِ الْغَرَائِزِ، وَمِنَ الْبَلَاءِ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ أَنْ يُبْتَلَى بِأُنَاسٍ يَسْعَوْنَ بَيْنَ الْخَلْقِ بِالتَّحْرِيشِ وَالتَّلْبِيسِ؛ فَأَلْسِنَتُهُمْ غِلَاظٌ حِدَادٌ، وَأَطْبَاعُهُمْ شَرِسَةٌ شِدَادٌ؛ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: »إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ« ]رَوَاهُ مُسْلِمٌ[.هذه الجَرِيمَةُ لَهَا أَضْرَارٌ بَلِيغَةٌ، يَكْمُنُ ضَرَرُهَا الْأَكْبَرُ فِي الوُقُوعِ فِيْمَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَزَعْزَعَةِ المُجْتَمَعِ، وَالأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ لِلضَّحِيَّةِ التي قَدْ تَصِلُ إِلَى الاِنْزِلَاقِ فِي دَرَكَاتِ الشَّرِّ أَوِ الْانْتِحَارِ. إِنَّ التَّحَرُّشَ آفَةٌ خَطِيرَةٌ وَدَاءٌ عُضَالٌ وَلَقَدْ انْتَشَرَ فِي زَمَانِنَا هَذَا؛ حَيْثُ ظَنَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ فِي عُقُولِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِمَا تَمْلِيهِ عَلَيْهِمْ شَهَوَاتُهُمْ فَانْطَلَقَتْ أَعْيُنُهُمْ الْجَائِرَةُ وَالْحَائِرَةُ تَبْحَثُ عَنْ فَرَائِسِهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي الْغَابَاتِ فَانْتَشَرَتِ الْفَوَاحِشُ وَالتَّحَرُّشُ بِالْفَتَيَاتِ حَتَّى بِالْأَطْفَالِ وَذَلِكَ لِضَعْفِ الإِيمَانِ؛ نَعَمْ إِذَا ابْتَعَدَ الإِنْسَانُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْقُرْآنِ وَعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ آخَاهُ الشَّيْطَانُ وَأَصْبَحَ قَرِينَهُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ وَمَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزُّخْرُف: 36]؛ وَلَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الإِيمَانَ عَنْ الزَّانِي حِينَ ارْتِكَابِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الشَّنِعَاءِ حَيْثُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ يَعْنِي: الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) وَمِنْ ذَلِكَ غِيَابُ دَوْرِ الْوَالِدَيْنِ؛ مَا ضَيَّعَ الْأَبْنَاءِ إِلَّا إِهْمَالُ الْوَالِدَيْنِ تَرْبِيَةَ الْأَبْنَاءِ تَرْبِيَةً سَلِيمَةً؛ وَعَدَمُ مُرَاعَاتِهِمَا لِلْمَسْؤُولِيَّةِ الَّتِي كَلَّفَهُمُ الشَّرْعُ بِهَا؛ فَعَنْ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْأَمِيرُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ،وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا*****عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ

فَنَهِيبُ بِالْوَالِدَيْنِ أَنْ يَنْتَبِهَا إِلَى أَنْ دَوْرَهُمَا فِي التَّرْبِيَةِ هَامٌّ وَخَطِيرٌ؛ وَبِالأَخَصِّ الْأُمُّ فَقَدِيمًا قَالُوا:

الْأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِنْ أَعَدَّتْهَا*****أَعَدَّتْ شَعْبًا طَيِّبَ الْأَعْرَاقِ

وَمِنْ ذَٰلِكَ السَّلْبِيَّةُ (عَدَمِ قِيَامِ النَّاسِ بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرٍ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ الْمُنْكَرِ)؛ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُوَاجِهُوا هَذَا الْمُتَحَرِّشَ بِنَهْيِهِ عَمَّا يَرْتَكِبُ مِنْ جَرِيمَةٍ بَشِعَةٍ فِي حَقِّ أَخَوَاتِهِ الْمُسْلِمَاتِ قَالَ اللَّـهُ تَعَالَى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ ﴾ [التوبة: 71].

وَمِنْ ذَٰلِكَ التَّبَرُّجُ وَالسَّفُورُ؛ إِنَّ خُرُوجَ النِّسَاءِ وَالْبَنَاتِ مُتَبَرِّجَاتٍ سَبَبٌ رَئِيسٌ فِي إِشْعَالِ نَارِ الْفِتْنَةِ عِندَ الرِّجَالِ وَالشَّبَابِ؛ لِلْأَسَفِ الشَّديدِ كَيْفَ قَبِلَ الْوَالِدَانِ خُرُوجَ الْبِنْتِ بِهَذِهِ الْمَلَابِسِ الْخَلِيعَةِ الْوَضِيعةِ الَّتِي أَظْهَرَتْ مَفَاتِنَهَا؛ وَفَصَّلَتْ جِسْمَهَا كَأَنَّهَا لَا تَلْبَسُ شَيْئًا؟! كَيْفَ قَبِلَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ خَنْزِيرًا لَا يَغَارُ عَلَى عَرْضِهِ؟ وَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ثَلاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ وَالْمَنَّانُ عَطَاءَهُ وَثَلاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ وَالدَّيُّوثُ وَالرَّجُلَةُ؛ وَلَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ عَنْ التَّبَرُّجِ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33) وَمِنْ ذَٰلِكَ تَعْقِيدُ الزِّوَاجِ وَتَعْسِيرُ مُؤَنَةِ الزِّوَاجِ حَتَّى عَفَّ الشَّبَابُ عَنْ الْحَلَالِ وَبَحَثُوا عَنْ الْحَرَامِ؛ وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُيَسِّرَ كَمَا أَمَرَنَا الْإِسْلَامُ قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ – “يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا” وَرَوَى أَحْمدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ “لَمَّا زَوَّجَ فَاطِمَةَ بَعَثَ مَعَهَا بِخُمَيْلَةٍ وَوِسَادَةٍ آدَمَ حَشَوْهَا لَيْفًا وَرَحِيْنًا وَسِقَاءً وَجَرَتَيْنِ” أَيْ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى أَبْسَطِ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا غِنَى مُطْلَقًا عَنْهَا فَلَا شَيْءَ مِنَ الْكَمَالِيَّاتِ؛ فَيَسِّرُوا يَسِّرَ اللَّهُ لَكُمْ.

وَالتَّحَرُّشُ سَوَاءً كَانَ لَفظْيًّا أَوْ جَسَدِيًّا هُوَ مِنَ الْفَوَاحِشِ الْمُحَرَّمَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 33]، وَهُوَ طَرِيقٌ إِلَى الزِّنا الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاجْتِنَابِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32].

وَرَدْعُ الْمُتَحَرِّشِينَ الْمُسْتَهْتِرِينَ الْعَابِثِينَ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: ٥٨]

فَمُقاوَمةٌ جَريمَةُ التَّحَرُّشِ وَكُلِّ الجَرائِمِ مَسؤوليَّةٌ مُشترَكَةٌ بَيْنَ جَميعِ فِئاتِ المُجتَمَعِ، وَمَن لَم يَردَعْهُ القُرآنُ وَنِداءُ الإيمانِ فَلا بُدَّ حِينَئِذٍ مِن سَوطِ السُّلطانِ. وَقَد جاءَ عَنْ عُثمانَ -رَضيَ اللهُ عنه-: “إنَّ اللهَ لَيَزَعُ بالسُّلطاتِ مَا لَا يَزَعُ بالقرآنِ”. وَمَن آمَنَ العُقوبةَ أَساءَ الأَدبَ.

 حَفِظَ اللَّهُ مِصْرَ قِيَادَةً وَشَعْبًا مِن كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَشَرِّ الْفَاسِدِينَ وَحِقْدِ الْحَاقِدِينَ، وَمَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَاعْتِدَاءِ الْمُعْتَدِينَ، وَإِرْجَافِ الْمُرْجِفِينَ، وَخِيَانَةِ الْخَائِنِينَ. وَحَفِظَ اللَّهُ فِلَسْطِينَ مِن كُلِّ سُوءٍ وَشَرٍّ.