خطبة بعنوان ( بالتى هى أحسن ) للشيخ ياسر عبدالبديع


خطبة بعنوان ( بالتى هى أحسن )

للشيخ : ياسر عبدالبديع

25 من ربيع الآخر 1447 ه‍
17 من أكتوبر 2025 م

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ

سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا

وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

بالتى هى أحسن

العُنْصُرُ الأَوَّلُ: الحِوَارُ مَعَ النَّبِيِّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

الحِوَارُ هُوَ مِفْتَاحُ التَّوَاصُلِ الحَضَارِيِّ، وَوَسِيلَةٌ لِلتَّعَارُفِ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الوَسَائِلِ فِي إِقْنَاعِ المُخَالِفِ وَتَبْلِيغِ الدَّعَوَاتِ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ ﷺ:
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾
(النَّحْلِ: الآيَةُ ١٢٥).

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ:
«أَيْ مَنْ احْتَاجَ مِنْهُمْ إِلَى مُنَاظَرَةٍ وَجِدَالٍ، فَلْيَكُنْ بِالوَجْهِ الحَسَنِ، بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَحُسْنِ خِطَابٍ».

وَلِذَلِكَ كَانَ ﷺ فِي حِوَارِهِ يَعْرِضُ دَعْوَتَهُ وَرَأْيَهُ بِحِكْمَةٍ وَرِفْقٍ مِنَ القَوْلِ، مَعَ الحِلْمِ وَالصَّبْرِ، وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّوْجِيهِ.

وَالسِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ مَلِيئَةٌ بِالمَوَاقِفِ وَالأَمْثِلَةِ المُضِيئَةِ، الَّتِي تُرْشِدُ إِلَى هَدْيِهِ ﷺ فِي حِوَارِهِ مَعَ الآخَرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ نَوْعِيَّاتِهِمْ، وَمِنْهَا:

مَعَ أَصْحَابِهِ مِنَ الأَنْصَارِ يَوْمَ حُنَيْنٍ:

فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَتَأَلَّفَ البَعْضَ بِالْغَنَائِمِ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ، وَذَلِكَ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِمْ بِالإِسْلَامِ، فَأَجْزَلَ العَطَاءَ لِزُعَمَاءِ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَتَمِيمٍ، إِذْ كَانَتْ عَطِيَّةُ الوَاحِدِ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَقَدْ تَأَثَّرَ بَعْضُ الأَنْصَارِ بِحُكْمِ الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ، وَظَهَرَ بَيْنَهُمْ نَوْعٌ مِنَ الاعْتِرَاضِ عَلَى ذَلِكَ، فَرَاعَى النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الاعْتِرَاضَ وَعَمِلَ عَلَى إِزَالَتِهِ بِحِوَارٍ رَقِيقٍ، يَتَّسِمُ بِالْحِكْمَةِ وَالرِّفْقِ، وَالْوُدِّ وَالْحُبِّ.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ:
«لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ العَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ العَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ (غَضِبَ) هَذَا الحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمُ القَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَوْمَهُ.
فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ العَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ.
قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، وَمَا أَنَا مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الحَظِيرَةِ.
قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ.
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ.
قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجْدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ؟
أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ؟
وَعَالَةً (فُقَرَاءَ) فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ؟
وَأَعْدَاءَ فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟
قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ.
قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟
قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ المَنُّ وَالْفَضْلُ؟
قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ:
أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ.
أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟
أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي رِحَالِكُمْ؟
فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ.
اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ».

قَالَ: فَبَكَى القَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا.
ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقُوا.
رَوَاهُ أَحْمَدُ.

لَقَدِ اتَّبَعَ الرَّسُولُ ﷺ فِي حِوَارِهِ مَعَ الأَنْصَارِ أُسْلُوبًا تَرْبَوِيًّا حَكِيمًا وَرَقِيقًا، خَاطَبَ فِيهِ عُقُولَهُمْ وَعَوَاطِفَهُمْ، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ أَنْ انْقَادُوا طَائِعِينَ رَاضِينَ بِقِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ.

وَقَالَ ابْنُ القَيِّمِ يُنَوِّهُ بِمَا فِي هَذَا الحِوَارِ النَّبَوِيِّ مِنَ النَّفْعِ:
«وَلَمَّا شَرَحَ لَهُمْ ﷺ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الحِكْمَةِ فِيمَا صَنَعَ، رَجَعُوا مُذْعِنِينَ، وَرَأَوْا أَنَّ الغَنِيمَةَ العُظْمَى مَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ عَوْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى بِلَادِهِمْ».

مَعَ الجَاهِلِ:

عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ:
«بَيْنَمَا نَحْنُ فِي المَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَهْ مَهْ (مَا هَذَا؟)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تُزْرِمُوهُ (لَا تَقْطَعُوا بَوْلَهُ)، دَعُوهُ.
فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ:
إِنَّ هَذِهِ المَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا البَوْلِ وَلَا القَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ.
فَأَمَرَ رَجُلًا مِنَ القَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ (فَصَبَّهُ) عَلَيْهِ».
رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ:
«وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ، وَتَعْلِيمُهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ عِنَادًا».

وَقَالَ النَّوَوِيُّ:
«وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْجَاهِلِ، وَتَعْلِيمُهُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ وَلَا إِذَاءٍ، إِذَا لَمْ يَأْتِ بِالْمُخَالَفَةِ اسْتِخْفَافًا أَوْ عِنَادًا، وَفِيهِ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَخَفِّهِمَا».

مَعَ العَاصِي:

كَانَ ﷺ فِي حِوَارِهِ مَعَ صَاحِبِ المَعْصِيَةِ يَتَرَفَّقُ بِهِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى جُرْأَتِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيُعَنِّفُهُ، بَلْ يَلْمَسُ جَانِبَ الخَيْرِ فِيهِ فَيُحَرِّكُهُ بِمَنْطِقِ الحِوَارِ العَقْلِيِّ وَالقَلْبِيِّ، الَّذِي يُعَلِّمُ الجَاهِلَ بِحِلْمٍ وَرِفْقٍ، وَيَأْخُذُ بِيَدِ العَاصِي بِحِكْمَةٍ وَوُدٍّ، مُحَاوِلًا إِرْجَاعَهُ إِلَى طَرِيقِ العِفَّةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، بَلْ وَيَدْعُو لَهُ بِالْهِدَايَةِ وَالطَّاعَةِ.

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ:
«إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا.
فَأَقْبَلَ القَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ، فَقَالُوا: مَهْ مَهْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ادْنُهُ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا فَجَلَسَ.
قَالَ: أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟
قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ ﷺ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ.
قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟
قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ.
قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟
قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ.
قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟
قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ.
قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟
قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ: وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ.
ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ.
فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ».
رَوَاهُ أَحْمَدُ.

مَعَ الْكَافِرِ :

رَوَى ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ:
«أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ـ وَكَانَ سَيِّدًا ـ قَالَ: أَلَا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمُهُ، وَأَعْرِضُ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلَّهُ أَنْ يَقْبَلَ بَعْضَهَا، فَنُعْطِيَهُ أَيَّهَا شَاءَ، وَيَكُفَّ عَنَّا؟
فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقُمْ إِلَيْهِ فَكَلِّمْهُ.
فَقَامَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ:
يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ السَّطْوَةِ فِي الْعَشِيرَةِ، وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ؛
فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا، لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا».

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ».

قَالَ:
«يَا ابْنَ أَخِي، إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا، جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا،
وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ،
وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا،
وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رِئْيًا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ، طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ».

حَتَّى إِذَا فَرَغَ عُتْبَةُ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْتَمِعُ مِنْهُ، قَالَ:
«أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟»
قَالَ: نَعَمْ.

فَقَالَ ﷺ:
«فَاسْمَعْ مِنِّي».
قَالَ: «أَفْعَلْ».

فَقَالَ ﷺ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾
(فُصِّلَتْ: ١‒٥).

ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ،
ثُمَّ انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ، ثُمَّ قَالَ:
«قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ».

فَمِنْ آدَابِ الْحِوَارِ النَّبَوِيِّ مَعَ الْآخَرِينَ الِاسْتِمَاعُ وَالْمُنَاقَشَةُ، وَإِنْزَالُ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ، فَقَدْ قَالَ ﷺ لِعُتْبَةَ: (أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ)، ذَلِكَ الْأَدَبُ النَّبَوِيُّ فِي الْحِوَارِ أَصْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ ـ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ـ عَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ قَالَتْ: (أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نُنَزِّلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ).

فَمِنْ ثَمَّ فَعَلَى الْمُحَاوِرِ وَالدَّاعِيَةِ أَلَّا يَعْتَدِيَ فِي وَصْفِ مُحَاوِرِهِ وَمُخَالِفِهِ وَمَنْ يَدْعُوهُ بِالْجَهْلِ وَالسَّفَهِ أَوْ غَيْرِ ذٰلِكَ،
فَقَدْ قَالَ ﷺ: (لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ)، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

لَا شَكَّ أَنَّ الْحِوَارَ فِي عَصْرِنَا الْحَاضِرِ اسْتُجِدَّتْ لَهُ وَسَائِلُ حَدِيثَةٌ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً مِنْ قَبْلُ،
جَعَلَتْهُ أَكْثَرَ انْتِشَارًا وَأَعْظَمَ أَثَرًا،
وَهٰذَا يُؤَكِّدُ عَلَيْنَا الِالْتِزَامَ بِالْهَدْيِ النَّبَوِيِّ فِي الْحِوَارِ مَعَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالطَّائِعِ وَالْعَاصِي، وَالْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ،
لِيَكُونَ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ إِلَى الْحَقِّ، وَيُسَارِعُونَ إِلَى الْخَيْرِ،
وَنُعَالِجَ بِهِ كَثِيرًا مِنِ اخْتِلَافَاتِنَا، وَنَصُونَ بِهِ أُخُوَّتَنَا.

العنصر الثانى : أدب الخلاف بالتى هى أحسن

الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ أَمْرٌ وَاقِعٌ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِتَفَاوُتِ الْأَفْهَامِ، وَاخْتِلَافِ الْعُقُولِ، وَلَنْ يَنَالَ الْمُسْلِمُونَ الْعِزَّةَ إِلَّا بِجَمْعِ شَمْلِهِمْ، وَتَوْحِيدِ كَلِمَتِهِمْ، وَتَآلُفِ قُلُوبِهِمْ، وَالتَّرَفُّعِ عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ؛ فَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعُقُولُ فَلَا تَخْتَلِفُ الْقُلُوبُ، وَكَيْفَ تَخْتَلِفُ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِأُمَّتِنَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الِاجْتِمَاعِ مَا لَا يَجْتَمِعُ لِغَيْرِهَا؟ فَإِلَهُنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ، وَدِينُنَا وَاحِدٌ، وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ نَكُونَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.

وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَفْضَلِ الْخَلْقِ فَلَمْ يَتَدَابَرُوا، وَلَمْ يَتَهَاجَرُوا، وَلَمْ يَتَخَاصَمُوا؛ وَقَعَ الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ فَبَعْدَ أَنِ اتَّخَذَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَرَارَهُ بِمُحَارَبَةِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، يَأْتِيهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا [هِيَ الْعَنْزَةُ الصَّغِيرَةُ] كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

بَلْ وَقَعَ الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الرُّسُلِ الْمُؤَيَّدِينَ؛ كَمَا وَقَعَ بَيْنَ آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ حَيْثُ يَقُولُ مُوسَى لِآدَمَ: «أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ! قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَكَذَا الْمَلَائِكَةُ الْمُكَرَّمُونَ وَقَعَ بَيْنَهُمُ الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ؛ كَمَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلُ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ… رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَوَقَعَ ذَلِكَ أَيْضًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ؛ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْحَسَمَ النِّزَاعُ بِمَوْقِفِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلِهِ: (مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ)، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 144]، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَبَعْدَ هَذَا النِّزَاعِ سَلَّمَ الْجَمِيعُ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَخْفَى – عَلَى كُلِّ مُطَّلِعٍ – اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ فِي فُرُوعِ الدِّينِ، مَعَ احْتِرَامٍ مُتَبَادَلٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَحُبٍّ وَتَآلُفٍ، وَدُعَاءٍ مُتَوَاصِلٍ؛ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ سَلِيمَةٌ، وَنُفُوسَهُمْ طَاهِرَةٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْخِلَافُ وَالِاخْتِلَافُ.

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الْخِلَافِ وَالِاخْتِلَافِ الْمَذْمُومِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:

1- التَّعَصُّبَ الْأَعْمَى: لِمُجَرَّدِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَحَصْرِ الدِّينِ تَحْتَ رَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ إِشَارَةٍ مُحَدَّدَةٍ، فَيَنْضَوِي كُلُّ فَرِيقٍ تَحْتَ رَايَتِهِ، وَيُعَادِي مَنْ خَالَفَهُ وَلَمْ يُتَابِعْهُ، فَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَهُوَ أَخُوهُ وَمُعِينُهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَهُوَ عَدُوُّهُ وَخَصْمُهُ.

2- امْتِلَاءَ الْقَلْبِ بِالْأَمْرَاضِ وَالْعِلَلِ: كَالْحِقْدِ وَالْغِلِّ، وَالْكِبْرِ وَالْبَغْضَاءِ، وَتَرَصُّدِ الْأَخْطَاءِ، وَالتَّرَبُّصِ بِالزَّلَّاتِ وَالتَّجْرِيحِ، وَهِيَ ثِمَارٌ بَدَهِيَّةٌ عِنْدَمَا يَكُونُ مَنْبَعُ الْخِلَافِ هُوَ الْهَوَى، وَالْإِعْجَابَ بِالرَّأْيِ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ عِنْدَمَا يَتَشَرَّبُ الْهَوَى يَسْوَدُّ وَيَقْسُو، وَيُصْبِحُ مَرْتَعًا وَخِيمًا لِكُلِّ آفَةٍ وَعِلَّةٍ.

3- تَقْدِيسَ الْأَشْخَاصِ: وَرَفْعَهُمْ إِلَى مَصَافِّ الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ لَا يُخْطِئُونَ، وَلَا يُسْأَلُونَ عَمَّا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَاجِعَهُمْ أَحَدٌ! وَقَدْ عَلَّمَنَا دِينُنَا أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُرَدُّ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

4- تَنَافُرَ الْقُلُوبِ، وَانْعِدَامَ التَّفَاهُمِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْآرَاءِ: وَيَنْتُجُ عَنْ ذَلِكَ التَّبَاغُضُ وَالْمُعَانَدَةُ، وَالتَّحَاسُدُ وَالْحِقْدُ وَالْغَيْرَةُ، وَالشِّقَاقُ وَالتَّمَزُّقُ، وَهِيَ بِدَايَةُ الْهَزِيمَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الْأَنْفَالِ: 46]، وَتِلْكَ ثَمَرَةٌ مُرَّةٌ لِتَنَافُرِ الْقُلُوبِ، وَانْعِدَامِ التَّفَاهُمِ وَالِانْسِجَامِ الْمَطْلُوبِ، فَالْأَصْلُ أَنْ تَذُوبَ الْفَوَارِقُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَيُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيَعِيشُوا بِالْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ مِثْلَ تَآلُفِ الْقُلُوبِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ.. أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقِ، وَالتَّحَابِّ وَتَرْكِ الْخِلَافِ، فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّفَاقِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ؛ فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ رَحْمَةٌ، وَالِاخْتِلَافَ عَذَابٌ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هُودٍ: 118-119]. فَالْمَرْحُومُونَ مُتَّفِقُونَ لَا يَخْتَلِفُونَ، وَإِذَا اخْتَلَفُوا لَا يَتَبَاغَضُونَ، وَلَا يَتَدَابَرُونَ.

وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالِاتِّفَاقِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ، وَأَوْصَاهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 103].

وَمِنْ أَهَمِّ آدَابِ الْخِلَافِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:

1- الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ تَعَالَى: وَهُوَ أَمْرٌ سَهْلٌ نَظَرِيًّا، وَلَكِنْ عِنْدَ التَّطْبِيقِ يَكُونُ صَعْبًا؛ فَكَمْ مِنْ شَخْصٍ انْتَصَرَ لِنَفْسِهِ، أَوْ مَذْهَبِهِ، أَوْ شَيْخِهِ، أَوْ جَمَاعَتِهِ، وَهُوَ يَدَّعِي الْإِخْلَاصَ لِلَّهِ تَعَالَى!

2- رَدُّ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النِّسَاءِ: 59]، فَتُرَدُّ الْمَسَائِلُ الْخِلَافِيَّةُ إِلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ ظَهَرَ الدَّلِيلُ فَاتَّبِعْهُ، أَيًّا كَانَ قَائِلُهُ.

3- الْحَذَرُ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى: فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُعْمِي وَيُصِمُّ، وَيُضِلُّ، وَيَصْرِفُ الْإِنْسَانَ عَنْ خَيْرٍ عَظِيمٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26].

4- عَرْضُ الْآرَاءِ وَمَنَاقَشَتُهَا بِهُدُوءٍ، وَسَعَةِ صَدْرٍ: وَهَذَا مِنْ أُصُولِ الْحِوَارِ وَالْمُحَاوَرَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْبِحَ الْخِلَافُ تَطَاحُنًا، أَوْ تَشَاجُرًا، فَيُؤَدِّيَ إِلَى التَّفَرُّقِ، وَالتَّبَاغُضِ.

5- تَرْكُ التَّعَصُّبِ لِلشَّيْخِ، أَوِ النَّفْسِ، أَوِ الرَّأْيِ: فَالَّذِي يَتَعَصَّبُ لِشَيْخِهِ، أَوْ لِرَأْيِهِ؛ فَشَأْنُهُ شَأْنُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ، الَّذِينَ يَتَعَصَّبُونَ لِشُيُوخِهِمْ، وَيَرُدُّونَ كُلَّ دَلِيلٍ خَالَفَهُمْ؛ بَلْ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَقْوَالَ مَشَايِخِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ تَشْرِيعًا بِذَاتِهِ، وَرُبَّمَا جَعَلُوا مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا يَنْسَخُ الشَّرِيعَةَ! نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ.

6- الِابْتِعَادُ عَنْ مَوَاطِنِ الِاخْتِلَافِ وَالشَّغَبِ: فَإِنَّ الْعَالِمَ الرَّبَّانِيَّ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مَا – وَهُوَ يَعْلَمُ الْمَفَاسِدَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْخِلَافِ فِيهَا، وَالْفِتْنَةَ الَّتِي تُخَلِّفُهَا – فَإِنَّهُ يَرُدُّ السَّائِلَ إِلَى مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ الصَّالِحِ – أَحْيَانًا – يَتْرُكُونَ الْفَاضِلَ، وَيَأْخُذُونَ بِالْمَفْضُولِ؛ مُرَاعَاةً لِلِاخْتِلَافِ، وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ الَّذِي يَجُرُّ إِلَى مَفَاسِدَ كَبِيرَةٍ، وَقَدْ يَتْرُكُونَ الْمَنْدُوبَ – فِي نَظَرِهِمْ وَيَفْعَلُونَ الْجَائِزَ؛ تَحْقِيقًا لِلْمَصْلَحَةِ.

7- الْعَدَالَةُ وَالْإِنْصَافُ مَعَ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ: وَمَعَ مَنْ تُحِبُّ وَمَنْ تُبْغِضُ، وَتَقُومُ لِلَّهِ تَعَالَى شَهِيدًا بِالْقِسْطِ، وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَا يُخْرِجُكَ غَضَبُكَ عَنِ الْحَقِّ، وَلَا يُدْخِلُكَ رِضَاكَ فِي الْبَاطِلِ، وَلَا تَمْنَعُكَ الْخُصُومَةُ فِيمَا فِيهِ خَيْرٌ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [الْمَائِدَةِ: 8].

8- عَدَمُ اتِّبَاعِ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ، وَالْآرَاءِ الشَّاذَّةِ: فَرُبَّمَا اجْتَهَدَ الْعَالِمُ الرَّبَّانِيُّ فِي مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ فَأَخْطَأَ – وَهُوَ مَعْذُورٌ، وَمَأْجُورٌ أَيْضًا، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ اتِّبَاعُهُ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ الْخَاطِئِ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَطَرًا عَظِيمًا.

وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعُدُّ قَوْلَ “مَنْ رَخَّصَ فِي الْغِنَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ” مِنْ ‌زَلَّاتِ ‌الْعُلَمَاءِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِاجْتِنَابِهَا، وَيُنْهَى عَنِ الِاقْتِدَاءِ بِهَا. فَلْيَحْذَرِ الْمُؤْمِنُ مِنْ تَتَبُّعِ ‌زَلَّاتِ ‌الْعُلَمَاءِ، وَالْأَخْذِ بِرُخَصِهِمْ، فَمَنْ أَخَذَ بِرُخَصِهِمْ؛ اجْتَمَعَ فِيهِ الشَّرُّ كُلُّهُ. وَالْمُبْتَدِعَةُ هُمُ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ مِنْ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ حُجَّةً لِبِدَعِهِمْ عَلَى الشَّرْعِ!

9- الِالْتِزَامُ بِآدَابِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ النَّقْدِ وَالِاخْتِلَافِ: وَانْتِقَاءُ أَطَايِبِ الْكَلَامِ، وَتَجَنُّبُ الْكَلِمَاتِ الْجَارِحَةِ، وَالْعِبَارَاتِ الْمَشِينَةِ اللَّاذِعَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النَّحْلِ: 125]؛ ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الْإِسْرَاءِ: 53].

10- الْحَذَرُ مِنْ مَكْرِ الْأَعْدَاءِ، وَخِطَطِهِمُ الْخَبِيثَةِ: الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ إِثَارَةَ أَيِّ خِلَافٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ تَجَاوُزَ آدَابِهِ؛ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِجَابَةٌ لِمُخَطَّطَاتِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ يُوقِعُونَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ.

الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ فِي هٰذِهِ الْحَيَاةِ أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ،
فَحَوْلَهُ الْجِيرَانُ وَالْأَقَارِبُ، وَهُنَاكَ الزُّمَلَاءُ فِي قَاعَاتِ الدِّرَاسَةِ، وَآخَرُونَ فِي أَمَاكِنِ الْعَمَلِ.

وَبِحُكْمِ هٰذِهِ الْمُخَالَطَةِ مَعَ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَنْمَاطٍ مُتَبَايِنَةٍ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ شَيْءٌ مِنَ الْإِسَاءَةِ يَقِلُّ أَوْ يَكْثُرُ، بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ،
فَلَوْ تَخَيَّلْنَا أَنَّ كُلَّ إِسَاءَةٍ سَتُقَابَلُ بِمِثْلِهَا، لَتَحَوَّلَتِ الْمُجْتَمَعَاتُ إِلَى مَا يُشْبِهُ الْغَابَاتِ، وَلَتَخَلَّى النَّاسُ عَنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، وَلَغَدَوْا بِلَا ضَوَابِطَ وَلَا رَوَابِطَ.

وَحَتَّى لَا يَتَحَوَّلَ مُجْتَمَعُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا يُشْبِهُ هٰذِهِ الصُّورَةَ الْمُنَفِّرَةَ،
فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْفَعُوا السَّيِّئَةَ بِالْحَسَنَةِ،
قَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
(فُصِّلَتْ: ٣٤).

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَصْلَةَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مِنْ رَدِّ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا، إِنَّمَا هِيَ الْعَفْوُ وَالْإِحْسَانُ، أَوِ الْإِعْرَاضُ وَكَفُّ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ فِي مَوْضُوعِ الْإِسَاءَةِ.

إِنَّكَ ـ أَيُّهَا الْحَبِيبُ ـ حِينَ تَتَحَلَّى بِهٰذَا الْخُلُقِ الْكَرِيمِ،
فَإِنَّكَ تُحَافِظُ عَلَى وَقَارِكَ وَاتِّزَانِكَ،
فَلَا تَنْجَرِفْ مَعَ اسْتِفْزَازَاتِ الْمُحَرِّشِينَ اللَّاغِينَ،
فَتَكُونَ بِذٰلِكَ مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ:

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾
(الْمُؤْمِنُونَ: ٣)

وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾
(الْقَصَصُ: ٥٥)

وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾
(الْفُرْقَانُ: ٦٣).

وَإِنَّكَ حِينَ تُعَامِلُ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ بِالْحُسْنَى، تَكُونُ قَدْ كَظَمْتَ غَيْظَكَ، فَحِينَئِذٍ يَصْدُقُ فِيكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ:
«مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ».

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَنْ يَتَحَوَّلَ الْعَدُوُّ الَّذِي يُجَابِهُكَ بِمَا يُسُوءُكَ وَيُؤْذِيكَ، إِلَى نَصِيرٍ مُدَافِعٍ وَصَدِيقٍ حَمِيمٍ.

سُبْحَانَ اللَّهِ!
إِنَّ سِحْرَ الْخُلُقِ الْفَاضِلِ لَيَفُوقُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْيَانِ قُوَّةَ الْعَضَلَاتِ وَسَطْوَةَ الِانْتِقَامِ،
فَإِذَا بِالْخَصْمِ يَنْقَلِبُ خُلُقًا آخَرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
(فُصِّلَتْ: ٣٤).

وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قَوْلُهُ:
«ادْفَعْ بِحِلْمِكَ جَهْلَ مَنْ يَجْهَلُ عَلَيْكَ».

إِنَّنَا رَأَيْنَا خَيْرَ الْخَلْقِ مُحَمَّدًا ﷺ يَتَحَمَّلُ إِسَاءَةَ الْمُسِيئِينَ،
لَيْسَ هٰذَا فَحَسْبْ، بَلْ كَانَ يَعْفُو وَيَصْفَحُ،
وَهٰذَا مَا وَصَفَتْهُ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ حِينَ قَالَتْ:
«وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ».

وَهٰكَذَا كَانَ الصَّالِحُونَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ عَلَى نَهْجِهِ ﷺ يَسِيرُونَ،
فَهٰذَا أَحَدُهُمْ يُسَبُّ فَيَقُولُ لِسَابِّهِ:
«إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَإِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَإِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي».

إِنَّنَا وَإِنْ كُنَّا جَمِيعًا مُطَالَبِينَ بِالتَّحَلِّي بِهٰذَا الْخُلُقِ،
فَإِنَّ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ سُلْطَانًا أَوْلَى بِهٰذَا مِنْ غَيْرِهِ،
وَلِهٰذَا كَانَ مِنْ آخِرِ وَصَايَا الرَّسُولِ ﷺ لِأُمَّتِهِ قَبْلَ وَفَاتِهِ، أَنْ قَالَ مُوصِيًا بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا:
«فَمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَلْيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ».

وَلَمَّا جَاءَهُ رَجُلٌ يَشْكُو خَادِمَهُ، فَقَالَ:
«إِنَّ لِي خَادِمًا يُسِيءُ وَيَظْلِمُ، أَفَأَضْرِبُهُ؟»
قَالَ ﷺ:
«تَعْفُو عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً».

كَذٰلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى هٰذَا الْخُلُقِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ مَنْ كَانَ لَهُ قَرَابَةٌ وَأَرْحَامٌ يُسِيئُونَ إِلَيْهِ،
فَإِنَّهُ لَا يُقَابِلُ سَيِّئَتَهُمْ بِمِثْلِهَا،
وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ وَيَزْدَادُ إِحْسَانًا،
فَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ:
«يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي ذَوِي أَرْحَامٍ، أَصِلُ وَيَقْطَعُونَ، وَأَعْفُو وَيَظْلِمُونَ، وَأُحْسِنُ وَيُسِيئُونَ، أَفَأُكَافِئُهُمْ؟»
قَالَ ﷺ:
«لَا؛ إِذًا تَتْرُكُونَ جَمِيعًا، وَلَكِنْ خُذْ بِالْفَضْلِ وَصِلْهُمْ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ مَا كُنْتَ عَلَى ذٰلِكَ».

إِنَّ الدَّفْعَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ هُوَ الدَّوَاءُ الْمُرَمِّمُ لِمَا يَبْلَى أَوْ يَنْهَدِمُ مِنَ الرَّوَابِطِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ،
وَالْمُصْلِحُ لِمَا يَفْسُدُ مِنْهَا، وَالْمُجَدِّدُ لِمَا يَنْطَمِسُ مِنْهَا،
وَبِهِ تَحْيَا مَعَانِي الْخَيْرِ فِي النُّفُوسِ،
وَيَتَبَارَى النَّاسُ فِي الْإِحْسَانِ،
وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ الشَّرِّ عَلَى الشَّيْطَانِ،
وَلَا يُتَاحُ لِلْإِسَاءَةِ أَنْ تَتَفَاقَمَ،
بَلْ يَغْمُرُهَا الْإِحْسَانُ، وَيَقْضِي عَلَى دَوَافِعِهَا وَرَوَاسِبِهَا.

عِبَادَ اللهِ؛
هُنَاكَ فِي الْجَنَّةِ – نَسْأَلُ اللهَ أَنْ نَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا وَمِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِيهَا، اللَّهُمَّ آمِينَ –،
فِيهَا ثَلَاثَةُ بُيُوتٍ، ثَلَاثَةُ مَنَازِلَ، ثَلَاثَةُ قُصُورٍ،
قَصْرٌ أَوْ بَيْتٌ أَوْ مَنْزِلٌ فِي أَدْنَى الْجَنَّةِ، فِي دَاخِلِهَا، عَلَى حُدُودِهَا مِنَ الدَّاخِلِ،
وَبَيْتٌ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَبَيْتٌ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ.

لِمَنْ هَذِهِ الْبُيُوتُ يَا عِبَادَ اللهِ؟
الْبُيُوتُ هَذِهِ وَالْمَنَازِلُ وَالْقُصُورُ لِأُنَاسٍ اتَّصَفُوا وَتَحَلَّوْا بِصِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ،
أَوْ تَخَلَّوْا عَنْ صِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ،
جَمَعَهَا حَدِيثٌ رَوَاهُ النَّبِيُّ ﷺ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ،
حَتَّى يَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ،
فَيَفْعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَحَثَّهُمْ وَحَضَّهُمْ عَلَيْهِ،
وَيَتْرُكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ وَحَذَّرَهُمْ مِنْهُ.

هَذَا الْحَدِيثُ يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ – فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ –
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا،
وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا،
وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ».

صِفَاتٌ مَنْ تَحَلَّى بِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُنْزِلُهُ اللهُ مَنْزِلًا مُلَائِمًا فِي الْجَنَّةِ،
فَتَرْكُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ،
تُورِثُ صَاحِبَهَا الْمَنَازِلَ الرَّفِيعَةَ وَالْقُصُورَ الْعَالِيَةَ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ،
جَنَّةِ الْمُقَامَةِ الَّتِي مَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجْ مِنْهَا أَبَدًا.

«أَنَا زَعِيمٌ» – أَيْ: أَنَا ضَامِنٌ وَكَفِيلٌ، يَضْمَنُ الرَّسُولُ ﷺ –
«بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ» – أَيْ: نَوَاحِيهَا مِنْ دَاخِلِهَا –،
لِمَنْ هَذَا؟ قَالَ: «لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا».

وَالـمِرَاءُ هُوَ الْجِدَالُ وَالْخُصُومَةُ، يَتْرُكُهُ حَتَّى لَوْ كَانَ مُحِقًّا،
مَا دَامَتِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ وَصَلَتْ إِلَى الْجِدَالِ،
فَالْإِنْسَانُ يَتْرُكُ الْجِدَالَ، لِأَنَّ الْجِدَالَ يُورِثُ فِي النَّفْسِ الْأَحْقَادَ،
وَيُورِثُ فِيهَا الضَّغَائِنَ، وَيُحَرِّكُ فِيهَا صِفَاتٍ نَائِمَةً،
الْجِدَالُ يُثِيرُهَا وَيَسْتَفِزُّهَا، وَيَجْعَلُهَا تَصْحُو،
وَيُحْدِثُ بَيْنَ الْأُمَّةِ مَا نَرَاهُ مِنْ نَتَائِجَ لِلْجِدَالِ الَّذِي هُوَ فِي الْبَاطِلِ،
فَإِذَا كَانَ الْجِدَالُ فِي الْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْكَ الِابْتِعَادُ عَنْهُ،
فَكَيْفَ بِالْجِدَالِ فِي الْبَاطِلِ؟!

لِذَلِكَ الْجِدَالُ يَأْتِي بِالضَّلَالِ،
فَإِذَا انْتَشَرَ فِي الْأُمَّةِ الْجِدَالُ وَالـمِرَاءُ، انْتَشَرَ فِيهَا الضَّلَالُ،
فَمَنْ تَرَكَ الْجِدَالَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، فَهُوَ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ.

مَا أَقْبَحَ الْجَدَلَ!
فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ»،
ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ ﷺ هَذِهِ الْآيَةَ:
﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾
[الزُّخْرُفِ: ٥٨].

وَأَسْوَأُ الْجَدَلِ وَأَقْبَحُهُ،
وَأَسْوَأُ الْخِصَامِ وَأَقْبَحُهُ إِذَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.

الْكُلُّ يُجَادِلُ بِالْقُرْآنِ حَسَبَ الْهَوَى،
وَحَسَبَ مَنْهَجِ الضَّلَالِ،
وَحَسَبَ الرَّأْيِ الْفَاسِدِ،
يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ هَوَاهُ بِالْقُرْآنِ،
يُجَادِلُ بِآيَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

لِذَلِكَ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:

(كُنَّا نَتَذَاكَرُ الْقُرْآنَ عِنْدَ بَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ،
يَنْزِعُ هَذَا بِآيَةٍ، وَهَذَا بِآيَةٍ،
فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ)،
فَقَالَ:

«يَا هَؤُلَاءِ! أَلِهَذَا بُعِثْتُمْ؟! أَمْ بِهَذَا أُمِرْتُمْ؟!
لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».

السَّحَابَةُ يَتَجَادَلُونَ فِي الْقُرْآنِ، وَأَخْطَاؤُهُمْ تَعْلِيمٌ لَنَا،
فَهَذَا صَحَابِيٌّ يَنْصُرُ رَأْيَهُ بِآيَةٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حَقٍّ،
وَآخَرُ يَنْصُرُ رَأْيَهُ بِآيَةٍ تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ،
فَمَا ذَاكَ؟ خِلَافٌ فِي الْقُرْآنِ، وَجِدَالٌ فِي الْقُرْآنِ،
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضِبًا،
وَعِنْدَمَا يَغْضَبُ يَنْتَفِخُ وَجْهُهُ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ جُعِلَ حَبُّ الرُّمَّانِ فِي وَجْهِهِ،
فَيَتَبَيَّنُ غَضَبُهُ، فَيَعْرِفُهُ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ غَضْبَانُ.

فَقَالَ:
«يَا هَؤُلَاءِ! أَلِهَذَا بُعِثْتُمْ؟! أَمْ بِهَذَا أُمِرْتُمْ؟!
لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».

هَلْ بُعِثْتُمْ وَحَفِظْتُمُ الْقُرْآنَ لِتَتَجَادَلُوا وَتَتَمَارَوْا فِيهِ؟!
أَمْ بِهَذَا أُمِرْتُمْ؟!
جَاءَكُمْ أَمْرٌ مِنَ اللهِ أَوْ مِنْ رَسُولِهِ ﷺ أَنْ يَكُونَ الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ فِي الْقُرْآنِ؟!
«لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».

وَانْظُرُوا الْيَوْمَ – رَحِمَكُمُ اللهُ – إِلَى أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ،
كَيْفَ يُجَادِلُونَ بِالْقُرْآنِ، وَيَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ،
الْمُسْلِمُ يَقْتُلُ الْمُسْلِمَ بِاسْمِ الْقُرْآنِ، وَبِاسْمِ الدِّينِ، وَبِاسْمِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ!
جِدَالٌ فِي كِتَابِ اللهِ، وَكَأَنَّ مَعَهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ أَنْ تَقْتُلَ فُلَانًا!
نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ.

«يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»
هَذِهِ نَتِيجَةُ الْجِدَالِ فِي الْقُرْآنِ؛
أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَأَنْ يَضْرِبَ بَعْضُنَا رِقَابَ بَعْضٍ.

فَإِذَا كَانَ الْجِدَالُ فِي الْحَقِّ مَبْغُوضًا،
فَكَيْفَ يَكُونُ فِي الْبَاطِلِ؟!

عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا،
قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ».

شَدِيدُ الْخُصُومَةِ وَشَدِيدُ الْعَدَاوَةِ،
يُخَاصِمُ مَعَ مُعَادَاةٍ، مَنْ هُوَ هَذَا؟
هَذَا رَجُلٌ يُخَاصِمُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ،
وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَادِيهِ،
لَا يُخَاصِمُهُ لِيَظْهَرَ الْحَقُّ وَتَسْتَبِينََ السَّبِيلُ،
وَإِنَّمَا يُخَاصِمُهُ لِيُثْبِتَ رَأْيَهُ وَهَوَاهُ،
فَإِذَا لَمْ يَقْتَنِعْ أَخُوهُ بِكَلَامِهِ،
إِذَا هُوَ عَدُوُّهُ اللَّدُودُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَبِيحُ دَمَهُ!

تِلْكَ نِهَايَةُ الْجِدَالِ فِي الْقُرْآنِ،
فِي التَّشْكِيكِ فِي الْآيَاتِ،
وَضَرْبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.

أَمَّا إِذَا كَانَ تَوْرِيدُ الْآيَاتِ لِأَخْذِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا،
فَيَخْتَلِفُ الْأَمْرُ، لِمَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْ كِتَابِ اللهِ،
فَهَذَا مَا يَفْعَلُهُ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا،
لِيُخْرِجُوا لِلنَّاسِ حُكْمًا شَرْعِيًّا،
وَلَمْ يَخْرُجُوا عَلَى النَّاسِ بِسَفْكِ دِمَائِهِمْ،
كَمَا يَفْعَلُ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ.

فَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ».

وَمِنْ حُسْنِ الأَخْلَاقِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ نَتَعَامَلَ بِهَا مَعَ غَيْرِنَا؛
أَنْ يَكُونَ كَلَامُنَا حَسَنًا مَعَ النَّاسِ، وَأَنْ نُلْقِيَ السَّلَامَ عَلَى النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ هُوَ هَاجِرًا لَنَا أَوْ مُخَاصِمًا،
فَالسَّلَامُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَاللَّهُ هُوَ السَّلَامُ، فَلَا نَمْنَعِ النَّاسَ مِنَ السَّلَامِ،
وَكَذَلِكَ أَنْ نَتَصَدَّقَ وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ،
هَذَا مَا قَالَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا ثَبَتَ عَنْ هَانِئِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه قَالَ:
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ يُوجِبُ لِيَ الْجَنَّةَ)،
قَالَ: «طِيبُ الْكَلَامِ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ».

بِحُسْنِ الْخُلُقِ يُوضَعُ لَنَا الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ،
إِذَا أَلْقَيْنَا التَّحِيَّةَ عَلَى النَّاسِ وَأَحْسَنَّا كَلَامَنَا وَأَطْعَمْنَاهُمْ، هَلْ يَكْرَهُونَنَا؟ لَا وَاللَّهِ،
فِي الدُّنْيَا نَسْتَفِيدُ هَذَا الأَمْرَ يَا عِبَادَ اللهِ.

وَهَذِهِ وَصِيَّةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَبَعْضُ أَصْحَابِهِ طَلَبَ مِنْهُ وَصِيَّةً، وَمَا أَكْثَرَ وَصَايَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَكُلٌّ بِحَسَبِهِ، فَهَذِهِ وَصِيَّتُهُ لِمَنْ طَلَبَهَا:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله تعالى عنه قَالَ:
(قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي)،
فَقَالَ: «إِذَا عَمِلْتَ فَاعْمَلْ حَسَنَةً، فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».

وَاعْلَمْ يَا عَبْدَ اللهِ!
يَا مَنْ تُرِيدُ أَنْ يَثْقُلَ مِيزَانُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ!
لِأَنَّ الْمِيزَانَ يَخِفُّ مِنْ قِلَّةِ الْحَسَنَاتِ، وَيَزِيدُ بِكَثْرَتِهَا وَتَثْقُلُ،
فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَثْقُلَ مِيزَانَهُ، فَلْيَسْتَمِعْ إِلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ،
مَا أَثْقَلَ حُسْنَ الْخُلُقِ فِي الْمِيزَانِ!

عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ،
وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ،
وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ».

وَأَحَبُّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابُ الأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ،
-اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ يَا رَبَّ-،
وَهُمُ الْمُقَرَّبُونَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
رَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا».

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ

وَأَقُمْ الصَّلَاةُ