خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةُ: ((صَحَّحَ مَفَاهِيمَكَ))
للدكتور : مُحَمَّدٌ حِرْزٌ
بِتَارِيخِ 18 جُمَادَى الأوَّلِ 1447 هـ، الْمُوَافِقُ 10 مِنْ أُكْتُوبَرَ 2025 م
لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
sahh mafahemk herz
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْشَأَ وَبَرَا ، وَخَلَقَ المَاءَ وَالثَّرَى ، وَأَبْدَعَ كُلَّ شَيْءٍ وَذَرَا ، لَا يَغِيبُ عَنْ بَصَرِهِ دَبِيبُ النَّمْلِ فِي اللَّيْلِ إِذَا سَرَى ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وَأشهدُ أَنَّ سيدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، قَالَ حَسَّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ وَفِي وَصْفِ النَّبِيِّ ﷺ:
لَمَّا رَأَيْتُ أَنْوَارَهُ سَطَعَتْ *** وَضَعْتُ مِنْ خِيفَتِي كَفِّي عَلَى بَصَرِي
خَوْفًا عَلَى بَصَرِي مِنْ حُسْنِ صُورَتِهِ *** فَلَسْتُ أَنْظُرُهُ إِلَّا عَلَى قَدَرِي
رُوحٌ مِنَ النُّورِ فِي جِسْمٍ مِنَ الْقَمَرِ *** كَحِلْيَةٍ نُسِجَتْ مِنَ الْأَنْجُمِ الزُّهْرِ
فَاللّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبَارِكْ عَلَى النَّبِيِّ المُخْتَارِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَطْهَارِ وسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ …..فَأَوْصِيكُمْ وَنَفْسِي أَيُّهَا الأَخْيَارُ بِتَقْوَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 102)
عِبَادَ اللّهِ: (((صَحَّحَ مَفَاهِيمَكَ))) عُنْوَانُ وَزَارَتِنَا وَعُنْوَانُ خُطْبَتِنَا.
عَنَاصِرُ اللِّقَاءِ:
-
أَوَّلًا: الْغَشُّ فِي الْامْتِحَانَاتِ لَيْسَ نَجَاحًا حَقيقِيًّا يَا سَادَةُ.
-
ثَانِيًا: التَّعَدِّي عَلَى الْمُمَتَّلَكَاتِ الْعَامَّةِ خِزْيٌ وَعَارٌ.
-
ثَالِثًا وَأَخِيرًا: الطَّلاقُ لَيْسَ حَلًّا لِلْمَشَاكِلَاتِ الزَّوْجِيَّةِ أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ.
أَيُّهَا السَّادَةُ: بَدَايَةً مَا أَحْوَجَنَا فِي هَذِهِ الدَّقَائِقِ الْمَعْدُودَةِ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُنَا عَنْ ((صَحَّحَ مَفَاهِيمَكَ )) ، وَخَاصَّةً وَلَقَدْ أُعْلِنَتْ وِزَارَةُ الْأَوْقَافِ عَنْ مُبَادَرَةٍ مُبَارَكَةٍ لِتَصْحِيحِ الْمَفَاهِيمِ وَوَضْعِ الْمُصْطَلَحَاتِ فِي مَكَانِهَا الصَّحِيحِ، خَاصَّةً ((صَحَّحَ مَفَاهِيمَكَ)) مَشْرُوعٌ وَطَنِيٌّ يَهْدِفُ إِلَى بِنَاءِ الْإِنْسَانِ وَتَعْزِيزِ قِيَمِ الْانْتِمَاءِ وَالِانْضِبَاطِ وَذَٰلِكَ بِمُعَالَجَةِ قَضَايَا تَمَسُّ الْوَاقِعَ الْيَوْمِيَّ لِلْإِنْسَانِ، خَاصَّةً فِي وَقْتٍ وَزَمَنٍ تَغَيَّرَتْ فِيهِ الْمَفَاهِيمُ وَتَبَدَّلَتْ الْمَوَازِينُ ((سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ حَذَرَ مِنْهَا النَّبِيُّ الْأَمِينُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَدِّقُ فِيهَا الْكَاذِبَ وَيَكْذِبُ فِيهَا الصَّادِقَ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيَخُونُ فِيهَا الْأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ ((التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ))، وَخَاصَّةً وَصَحِّحْ مَفَاهِيمَكَ هَدْيٌ نَبَوِيٌّ عَظِيمٌ دَعَا إِلَيْهِ الْقُرْآنُ وَسُنَّةُ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَطْرَحُ السُّؤَالَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَيَنْتَظِرُ الْجَوَابَ – بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِيُصَحِّحَ الْمَفَاهِيمَ، وَلِيُغَيِّرَ الأُمُورَ، وَلِيُوَضِّحَ الْفِكْرَ السَّلِيمَ وَالْفَهْمَ الْعَمِيقَ، وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَعَدِيدَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ؛ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) ((صَحَّحَ مَفَاهِيمَكَ ))سِلْسِلَةٌ مَنْهَجِيَّةٌ مُبَارَكَةٌ تَجْمَعُ بَيْنَ التَّأْصِيلِ الْعِلْمِيِّ وَالأَسْلُوبِ الْوَعْظِيِّ أَعْرِضُهَا لِحَضْرَتِكُمْ بِأَسْلُوبٍ سَهْلٍ سَلِسٍ وَأَسْأَلُ اللَّـهَ التَّوْفِيقَ وَالسَّدادَ وَأَبْدَأُهَا بِأَخْطَارِهَا عَافَانَا اللهُ الْغَشِّ.
أَوَّلًا: الْغَشُّ فِي الْامْتِحَانَاتِ لَيْسَ نَجَاحًا حَقيقِيًّا يَا سَادَةُ.
أَيُّهَا السَّادَةُ : الكَثِيرُ مِنَ الطُّلَّابِ إِلّا مَا رَحِمَ اللهُ جَلّ وَعَلَا يَعْتَقِدُ أَنّْ الغَشَّ ذَكاءٌ وَمَهَارَةٌ وَحَقٌّ وَرَفْعَةٌ وَتَقَدُّمٌ وَتَفَوُّقٌ وَفِي الحَقيقَةِ الغَشُّ
دَاءٌ إِجْتِمَاعِيٌّ خَطِيرٌ، وَوَبَاءٌ خَلْقِيٌّ كَبِيرٌ، مَا فَشَا فِي أُمَّةٍ إِلَّا كَانَ نَذِيرًا لِهَلَاكِهَا، وَمَا دَبَّ فِي أُسْرَةٍ إِلَّا كَانَ سَبَبًا لِفَنَائِهَا، فَهُوَ مَصْدَرُ كُلِّ عَدَاءٍ وَيَنْبُوعُ كُلِّ شَرٍّ وَتَعَاسَةٍ. وَالغَشُّ في أَيِّ مَجَالٍ من مَجالاتِ الحَيَاةِ من أَكبَرِ المُحَرَّمَاتِ، وأَعظَمِ الزَّلَّاتِ، وَهو بلا أَدنى شَكٍّ جَرِيمَةٌ شَرْعِيَّةٌ وأَخْلاقِيَّةٌ وقَانُونِيَّةٌ وَإنْسانِيَّةٌ، وأَخْطَرُ أَنْوَاعِ الغَشِّ على الإطلاقِ هو الغَشُّ في الاِمْتِحَانَاتِ، فهو أَشَدُّهَا حُرْمَةً، وأَعْمَقُهَا أَثَرًا، وأَكْثَرُهَا خَطَرًا على مُسْتَقْبَلِ الأُمَّةِ وحَاضِرِهَا، فهو يُقَدِّمُ مَن حَقُّهُ التَّأَخُّرُ، ويُؤَخِّرُ مَن حَقُّهُ التَّقَدُّمُ، وَيُسَوِّي بَيْنَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، وَحَسْبُكَ بِهَذِهِ دَمَارًا لِلأُمَمِ، وَتَأْخِيرًا لِلْدُّوَلِ؛ قَالَ تَبارَكَ وَتَعَالَى: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 188].
فَالغِشُّ فِي الِامْتِحَانَاتِ خِزْيٌ وَعَارٌ وَهَلاَكٌ وَدِمَارٌ لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، الغِشُّ فِي الِامْتِحَانَاتِ فَشَلٌ مَا بَعْدَهُ فَشَلٌ وَإِخْفَاقٌ مَا بَعْدَهُ إِخْفَاقٌ ، الغِشُّ فِي الِامْتِحَانِ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُتَفَوِّقِينَ نَجَاحٌ مَزْعُومٌ بِلَا فَائِدَةٍ مِنْ وَرَائِهِ، الغِشُّ فِي الِامْتِحَانَاتِ مِنْ أَكْثَرِ السُّلُوكِيَّاتِ السَّلْبِيَّةِ فِي مَنْظُومَةِ التَّعْلِيمِ حَيْثُ يُؤَسِّسُ لِمَنْظُومَةٍ فِكْرِيَّةٍ مُشَوَّهَةٍ تُقَامُ عَلَى الْخِدَاعِ وَضِيَاعِ الْأَمَانَةِ ،مَنْظُومَةٌ تَخْرُجُ أَجْيَالًا لَا تَفْهَمُ شَيْئًا وَلَا تَفْقَهُمْ عِلْمًا وَأَطِبَّاءَ يُدَمِّرُونَ صِحَّةَ النَّاسِ بِلَا عِلْمٍ وَمُهَنْدِسِينَ فَشَلَةً وَأَسَاتِذَةً بِلَا عِلْمٍ وَلَا وَعْيٍ، فاَلْغَشُّ فِي اَلْاِمْتِحَانَاتِ يُعَوِّدُ اَلْمُجْتَمَعَ عَلَى قَبُولِ اَلْكَذِبِ وَالتَّدْلِيسِ وَتَزْيِينِ اَلْحَقَائِقِ الزَّائِفَةِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى تَدَهْوُرِ الْأَخْلَاقِ وَالْقِيَمِ وَالْمَبَادِئِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. الغِشُّ وَمَا أَدْرَاكَ مِنَ الغِشِّ؟ الغَشُّ مِنْ أَخْطَرِ الأَسْبَابِ المُؤَدِّيَةِ إِلَى الجَهْلِ وَضِيَاعِ العِلْمِ وَيُسَاوِي بَيْنَ المُجْتَهِدِ وَالْكُسُولِ وَبَيْنَ مَنْ تَعَبَ وَتَعَلَّمَ وَبَيْنَ مَنْ لَعِبَ وَجَهِلَ لِذَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( مَن غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أَلَا يَكْفِي الْغَاشِّ تَهْدِيداً تَبَرُّؤُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ؟ وَمَنْ تَبَرَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُ اللَّهُ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُ الدِّينُ، وَالْسَّبَبُ الْحَقيقِيُّ لِهَذَا هُوَ ضُعْفُ الْوَازِعِ الدّينيِّ، وَرَقَّةُ الْإِيمَانِ، وَقِلَّةُ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ انْعِدَامِهَا، وَإيثَارُ الْعَاجِلَةِ الْفَانِيَةِ عَلَى الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى دَنَاءةِ النَّفْسِ وَخُبْثِهَا، فَلَا يَفْعَلُهُ إِلَّا كُلُّ دَنِيءٍ نَفْسٍ هَانَتْ عَلَيْهِ فَأَوْرَدَهَا مَوْرِدَ الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ.
الغِشُّ وَمَا أَدْرَاكَ مِنَ الغِشِّ؟
الغَشُّ فِي الِامْتِحَانِ يَتَعَارَضُ مَعَ حِفْظِ الأَمَانَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي أُوتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ [البَقَرَةُ: 283]،فالغَشُّ خِيَانَةٌ لِلأَمَانَاتِ، وَهَذِهِ عَلاَمَةٌ مِنْ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: “آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ” فالْغَشُّ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَعَظَائِمِ الْمَعَاصِي، وَفَظَائِعِ الْخَطَايَا، يَدُلُّ عَلَى خَبَثِ النَّفْسِ، وَظُلْمَةِ الْقَلْبِ وَسَوَادِ الْفُؤَادِ، وَقِلَّةِ الدّينِ.
الغِشُّ وَمَا أَدْرَاكَ مِنَ الغِشِّ؟
الغِشُّ تَضْيِيعٌ لِلْعَدْلِ وَإِشَاعَةٌ لِلظُّلْمِ فِي نَتَائِجِ الطُّلَّابِ، فَكَيْفَ يُسَوَّى بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُثَابِرِ وَالْمُهْمِلِ، فَكُلُّهُمْ فِي نِهَايَةِ الْعَامِ نَاجِحٌ، بَلْ رُبَّمَا حَصَلَ الْغَاشُّ عَلَى مُسْتَوًى أَعْلَى مِنَ الْمُجْتَهِدِ، وَلاَ شَكَّ أَنَّ هَذَا ظُلْمٌ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: “الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: “يَا عِبَادِي: إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا…”.
لَذَا يَجِبُ تَوْعِيَةُ الطَّلَبَةِ مِندَ الصِّغَرِ عَلَى تَحْرِيمِ الْغِشِّ، وَأَنَّ مَنْ غَشَّنَا لَيْسَ مِنا، وَأَنَّهُ بَابٌ مِّنَ الْكَذِبِ الَّذِي يُجْلِبُ عَذَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ، وأَنْ الْغَشَّ يَا عِبَادَ اللَّهِ يَجْمَعُ أَسْوَأَ الصَّفَاتِ، وَأَقْبَحَ الْمَعَاصِي، فَهُوَ يَجْمَعُ الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ وَالْزُّورَ، وَالْخَدَاعَ، وَالْمَكْرَ، وَالِاحْتِيَالَ، وَالنَّصْبَ، وَخِيَانَةَ الْأُمَّةِ، وَالتَّغْرِيرَ، وَأَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَعَدَمَ الرِّضَا بِقَدْرِ اللَّهِ، وَمَا قَسَمَ مِنَ الرِّزْقِ إِلَى غَيْرِ ذَٰلِكَ، مِنْ ذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ، وَسَيْئِ الْخَصَالِ، فَهُوَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ؛ أَجَارَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِهِ، وَحَفِظَنَا مِنْ أَرْبَابِهِ.
فَمَنْ لَمْ يَذُقْ مُرَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً *** تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ
ومَنْ فاتَهُ التَّعْليمُ حالَ شَبابِهِ *** فَكَبِّرْ عليْهِ أرْبَعًا لوَفاتِهِ
ثَانِيًا: التَّعَدِّي عَلَى الْمُمَتَّلَكَاتِ الْعَامَّةِ خِزْيٌ وَعَارٌ.
أيُّها السَّادةُ: بلا شَكٍّ نَعِيشُ زَمَانًا استَبَاحَ فيهِ الكَثِيرُ مِن النَّاسِ الْمُمْتَلَكَاتُ الْعَامَّةُ إلَّا مَا رَحِمَ اللَّـهُ جلَّ وعَلَا بِصُورَةٍ مُخزِيَةٍ، ظَنًّا مِنهُم أنَّ هَذِهِ شَطَارَةٌ وَذَكَاءٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا المَالِ صَاحِبٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَقِيبٌ، وَنَسِيَ المَسْكِينُ أنَّ استِبَاحَةَ المَالِ العَامِّ أَخْطَرُ بِكَثِيرٍ مِن استِبَاحَةِ المَالِ الخَاصِّ، المَالُ الخَاصُّ صَاحِبُهُ واحِدٌ يُمكِنُ الْاعتِذارُ مِنهُ، أَمَّا المَالُ العَامُّ مَلِكٌ لِلْجَمِيعِ، وَالاعتِذارُ مِنهُ صَعْبٌ لِلْغَايَةِ فَنَفْعُهُ يَعُودُ عَلَى كُلِّ النَّاسِ، وَنَسِيَ المَسْكِينُ أنَّ اللَّـهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ وَيَرَاهُ، وَلِلَّـهِ دِرُّ القَائِلِ:
إذا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا *** تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَـكِن قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ يَغْفَلُ سَاعَةً *** وَلَا أنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
نَعِيشُ زَمانًا اِنْتَشَرَ فِيهِ التَّعَدِّي عَلَى الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ بِصُورَةٍ مِخْزِيَةٍ يَمْلَأُ الرَّجُلُ بَطْنَهُ مِنَ الْحَرَامِ، بَلْ رَبَّمَا رَبَّى الرَّجُلُ أَوْلَادَهُ عَلَى الْحَرَامِ، وَلَا يُفَكِّرُ فِي الْمَوْتِ وَشِدَّتِهِ، وَلَا فِي الْقَبْرِ وَضَمَّتِهِ، وَلَا فِي الْحِسَابِ وَدِقَّتِهِ، وَلَا فِي الصِّرَاطِ وَحَدَّتِهِ، وَلَا فِي النَّارِ وَلَا فِي الْأَهْوَالِ وَالْأَغْلَالِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَصَدَقَ النَّبِيُّ ﷺ إِذْ يَقُولُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
لَذا دَعَا الإِسْلَامُ إِلَى وُجُوبِ المُحَافَظَةِ عَلَى الْمَالِ بِصِفَةٍ عَامَّةً وَالْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ وَجَعَلَهُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ الَّتِي لَا قِيَامَ لِلْحَيَاةِ بِدُونِ حِفْظِهَا، وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ وَالنَّفْسِ وَالنَّسْلِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ فَحَرَّمَ الرِّشْوَةَ، وَجَرَّمَ السَّرِقَةَ، وَنَهَى عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَنَهَى عَنْ الْغَرَرِ وَالْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ وَالْكَذِبِ وَالتَّزْوِيرِ وَسَائِرِ وُجُوهِ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَكَيْفَ لَا ؟ وَكَمَا أَنَّ الإِسْلَامَ حَرَّمَ الاعْتِدَاءَ عَلَى الْمَالِ الْخَاصِّ حَرَّمَ الاعْتِدَاءَ عَلَى الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَوَقَفَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ قَائلًا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ مِنَ الْمَالِ الْعَامِّ خَطِيرٌ عَلَى دِينِ الْإِنْسَانِ، وَانْتِهَاكُهُ أَمْرٌ يُوجِبُ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا إِبْرَةً، فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا – خِيَانَةً وَسَرِقَةً – يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
وكَيْفَ لا ؟
وَاسْتِبَاحَةُ الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ ظَاهِرَةٌ سَلْبِيَّةٌ مَدْمِرَةٌ للأفْرَادِ والدُّولِ ويُعَدُّ طَمَعُ النَّفْسِ وَغِيَابُ الوَعْيِ وَضُعْفُ الْوَازِعِ الدِّيْنِيِّ، وعَدَمُ مُرَاقَبَةِ الْمَوْلىَ جَلَّ وعَلَا مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ استِباحَةِ المَالِ العامِّ والْمَلَكِ العامِّ، واستِباحَةُ المَالِ العامِّ والْمَلَكِ العامِّ دَاءٌ يَقْتُلُ الطُّمُوحَ، وَيُدَمِّرُ قِيَمَ المُجْتَمَعِ، ويُعَدُّ خَطَرًا مُبَاشِرًا عَلَى الْوَطَنِ، ويَقِفُ عَقَبَةً فِي سُبُلِ الْبِنَاءِ وَالتَّنْمِيَةِ، يُبَدِّدُ الْمَوَارِدَ، وَيَهْدِرُ الطَّاقَاتِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّـهِ.
وكَيْفَ لا ؟
وَاسْتِبَاحَةُ المُمتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ يَعْمِي الْبَصِيرَةَ، وَيُضِعِفُ الْبَدَنَ، وَيُوهِنُ الدِّينَ، وَيُظْلِمُ الْقَلْبَ، وَيُقَيِّدُ الْجَوَارِحَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، لِذَا قَالَ ابْنُ أَسْبَاطٍ: إِذَا تَعَبَّدَ الشَّابُّ قَالَ الشَّيْطَانُ لِأَعْوَانِهِ: اُنْظُرُوا مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ، فَإِنْ كَانَ مَطْعَمُهُ مَطْعَمَ سُوءٍ يَقُولُ دَعُوهُ يَتْعَبُ وَيَجْتَهِدُ فَقَدْ كَفَاكُمْ نَفْسَهُ أَيْ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ مَعَ أَكْلِهِ الْحَرَامَ لَا يَنْفَعُهُ وَعَمَلُهُ هَبَاءً مَنْثُورًا، لِذَا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةً مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ. بَلْ قَالَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ: (لَوْ قُمْتَ قِيَامَ السَّارِيَةِ مَا نَفَعَكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ فِي بَطْنِكَ مِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ). فَالْاعْتِدَاءُ عَلَى الْمُمْتَلَكَاتِ الْعَامَّةِ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، وَجُرْمٌ كَبِيرٌ، وَخِزْيٌ وَعَارٌ، وَخَرَابٌ وَدَمَارٌ، وَالْاعْتِدَاءُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ وَالْمَلِكِ الْعَامِّ وَالْحَقِّ الْعَامِّ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، وَاللَّهُ يَقُولُ: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) الْبَقَرَة:205،
لِذَا حَذَّرَنَا جَلَّ وَعَلَا مِنَ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الْبَقَرَة:60]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ (الأَعْرَاف:56) وَنَهَانَا عَنْ اتِّبَاعِ كُلِّ مُفْسِدٍ ضَالٍّ وَطَاعَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأَعْرَاف:142]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ*الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [الشُّعَرَاءِ:151-152]،
فَالإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ شِيمَةُ الْمُجْرِمِينَ، وَطَبِيعَةُ الْمُخَرِّبِينَ، وَعَمَلُ الْمُفْسِدِينَ، فِيْهِ ضَيَاعٌ لِلْأَمْلَاكِ، وَضِيقٌ فِي الْأَرْزَاقِ، وَسُقُوطٌ لِلْأَخْلَاقِ، إِنَّهُ إِخْفَاقٌ فَوْقَ إِخْفَاقٍ، يُحَوِّلُ الْمُجْتَمَعَ إِلَى غَابَةٍ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ فِيهِ الْضَّعِيفَ، وَيُنْقَضُّ الْكَبِيرُ عَلَى الصَّغِيرِ.
فَانْتَبِهْ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ وَحَاسِبْ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ تُحَاسِبَ، وَزِنْ أَعْمَالَكَ قَبْلَ أَنْ تَوزَنَ عَلَيْكَ، فَلَا تَأْكُلْ إِلَّا طَيِّبًا وَلَا تَكْسَبْ إِلَّا طَيِّبًا وَلَا تُدْخِلْ بَيْتَكَ إِلَّا طَيِّبًا، كَمَا قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِذَا أَرَدْتَ النَّجَاةَ فَعَلَيْكَ بِالْحَلَالِ وَإِيَّاكَ وَالْحَرَامَ.
فَالحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، فَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ )، فِيَا مَن كُلَّمَا طَالَ عُمُرُهُ زَادَ ذَنْبُهُ، يَا مَن كُلَّمَا أَبْيَضَّ شَعْرُهُ أَسْوَدَّ بِالْآثَامِ قَلْبُهُ .
شَيْخٌ كَبِيرٌ لَهُ ذُنُوبٌ *** تَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهَا الْجِبَالُ
قَدْ بَيَّضَتْ شَعْرَهُ اللَّيَالِي *** وَسَوَّدَتْ قَلْبَهُ الْخَطَايَا
فتُبْ إلى رَبِّكَ يا مَن أَكَلْتَ الحَرَامَ، وتَعَدَّيْتَ عَلَى الممَتَلكَاتِ العَامَّةِ بِحُجَّةٍ لا صَاحِبَ لَهَا وَلَا رَقِيبَ عَلَيْهَا .
دَعْ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا *** وَفِي الْعَيْشِ فَلَا تَطْمَعْ
وَلَا تَجْمَعْ مِنَ الْمَالِ *** فَلَا تَدْرِي لِمَنْ تَجْمَعْ
فَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ *** وَسُوءُ الظَّنِّ لَا يَنْفَعْ
فَقِيرٌ كُلُّ ذِي حِرْصٍ *** غَنِيٌّ كُلُّ مَنْ يَقْنَعُ
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ. الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَمْدَ إِلَّا لَهُ، وَبِسْمِ اللهِ وَلَا يُسْتَعَانُ إِلَّا بِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ … أَمَّا بَعْدُ:
ثَالِثًا وَأَخِيرًا: الطَّلاقُ لَيْسَ حَلًّا لِلْمَشَاكِلَاتِ الزَّوْجِيَّةِ أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ.
أيُّهَا السَّادَةُ: الكَثِيرُ مِنَ الأَزْوَاجِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللهُ عِندَمَا يُرِيدُ الْهُرُوبَ مِنَ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْخِلَافَاتِ الأُسَرِيَّةِ يُفَكِّرُ مُبَاشَرَةً فِي الطَّلَاقِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ الْحَلُّ وَلَا يَدْرِي أَنَّ الطَّلَاقَ آخِرُ الْحُلُولِ وَأَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا . فَلقَدْ انْتَشَرَ الطَّلَاقُ بِصُورَةٍ مُفْزِعَةٍ وَمُخِيفَةٍ عَلَى مَرَأَى وَمَسْمَعٍ لِلْجَمِيعِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَلَقَدْ أَعْلَنَ رَئِيسُ جِهَازِ الإِحْصَاءِ بِمِصْرَ قَالَ : حَالَةُ طَلَاقٍ كُلُّ دَقِيقَتَيْنِ فِي مِصْرَ.. وَأَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةِ أَلْفِ خَلْعٍ فِي السَّنَةِ، سَلِّمْ يَا رَبِّ سَلِّمْ، خَرَابٌ وَدَمَارٌ وَهَلَاكٌ وَخِزْيٌ وَعَارٌ وَانْحِرَافٌ وَانْحِطَاطٌ مَا بَعْدَهُ انْحِرَافٌ وَانْحِطَاطٌ فِي كِيَانِ الأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ……وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ
مَتَى يَبْلُغُ الْبِنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ *** إِذَا كُنتَ تَبْنِيهِ وَغَيْرُكَ يَهْدِمٌ
لَذَا اهْتَمَّ دِينٌنَا الحَنِيفُ بِالْأُسْرَةِ اهْتِمَامًا كَبِيرًا وَدَعَا إِلَى تَقْوِيَتِهَا، وَدَوَامِ تَرَابُطِهَا؛ لِتَكُونَ أُسْرَةً مُتَمَاسِكَةً سَعِيدَةً، يَنْعُمُ أَفْرَادُهَا مِنْ أَبٍّ وَأُمٍّ وَأَوْلَادٍ وَمَن يَعِيشُ مَعَهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَرْحَامِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْوَئَامِ، مِنْ أَجْلِ بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ عَلَى أُسُسٍ سَلِيمَةٍ، وَأَمَرَ بِالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، مَعَ تَحَمُّلِ كُلِّ طَرَفٍ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَحَمَّلَهُ مِنْ مَنْغِّصَاتِ الْحَيَاةِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ، قَالَ تَعَالَى:﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ (البقرة: 228)
فَحَثَّ الإِسْلَامُ عَلَى المُعَاشَرَةِ الحَسَنَةِ، وَأَنْ يَتَحَمَّلَ الرَّجُلُ اِعْوِجَاجَ الْمَرْأَةِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ: “الْمَرْأَةُ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ، وَإِنَّكَ إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنْ تَرَكْتَهَا تَعِشْ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ“ رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَأَلْزَمَ الإِسْلَامُ الْمَرْأَةَ بِطَاعَةِ الزَّوْجِ بِالمَعْرُوفِ، فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ”إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ“ (رواه أحمد) وَنَهَى النَّبِيُّ – صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْمَرْأَةَ أَنْ تَطْلُبَ مِنْ زَوْجِهَا الطَّلَاقَ دُونَ أَسْبَابٍ أَوْ مُبَرِّرَاتٍ شَرْعِيَّةٍ، فَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى الزَّوْجِ، وَأَنْ لَا تَتَسَرَّعَ بِطَلَبِ الطَّلَاقِ، فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ” رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ. *فَانْتَبِهْ يَا مَن تُرِيدُ الطَّلاَقَ تَمَهَّلْ قَلِيلًا تَفَكَّرْ كَثِيرًا قَبْلَ أَنْ تُقَدِّمَ عَلَى هَدْمِ أُسْرَةٍ بِأَكْمَلِهَا يَا مَن يُرِيدُ الطَّلاَقَ، إِنْ كَانَتْ زَوْجَتُكَ سَاءَتْكَ الْيَوْمَ، فَقَدْ سَرَّتْكَ أَيَّامًا، وَإِنْ كَانَتْ أَحْزَنَتْكَ هَذَا الْعَامَ، فَقَدْ سَرَّتْكَ أَعْوَامًا.