خطبة الجمعة بعنوان ( الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم ) للشيخ ياسر عبدالبديع


خطبة الجمعة بعنوان ( الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم )
للشيخ : ياسر عبدالبديع

بتاريخ / 27 من ربيع الأول 1447 هجرية
19 من سبتمبر 2025 م

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم

العُنْصُرُ الْأَوَّلُ: رِسَالَةُ الْإِسْلَامِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ

لَا يُوجَدُ دِينٌ رَفَعَ مِنْ قِيمَةِ الْعِلْمِ، وَأَعْلَى مِنْ شَأْنِ الْعُلَمَاءِ كَالْإِسْلَامِ، فِي نُصُوصٍ تُتْلَى فِي كُلِّ آنٍ وَحِينٍ، فَسُورَةُ الْقَلَمِ بَدَأَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:
﴿نۤ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ (الْقَلَم: ١).

كَمَا أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لَمْ تَأْمُرْ بِالصَّلَاةِ، وَلَا بِالزَّكَاةِ، وَلَا حَتَّى بِالْجِهَادِ، وَإِنَّمَا بِالْقِرَاءَةِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ (الْعَلَق: ١-٣).

وَوَرِثْنَا عَنِ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، آثَارًا وَسِيَرًا مُتَوَاتِرَةً فِي تَقْدِيمِ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي إِدَارَةِ الدَّوْلَةِ، وَقِيَادَةِ شُؤُونِ الْجِهَادِ وَالسَّرَايَا، وَتَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ وَتَوْزِيعِهَا، وَفِي الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ.

وَفِي هَذَا الْمِضْمَارِ فَإِنَّنَا نَرْفَعُ آيَاتِ الْمَعْرُوفِ وَالتَّقْدِيرِ لِآبَائِنَا وَأَجْدَادِنَا، الَّذِينَ أَوْرَثُونَا قِيَمًا وَحِكَمًا نَبِيلَةً، وَأَمْثَالًا مُمَجَّدَةً لِلْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ، فَقَدْ عَرَفُوا حَقَّ الْعِلْمِ، وَقُدْرَتَهُ عَلَى تَطْوِيعِ الْحَيَاةِ، وَتَذْلِيلِ الصِّعَابِ.

نَعَمْ، رُبَّمَا كَانَ بَعْضُ أَجْدَادِنَا أُمِّيِّينَ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا جُهَّالًا؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ مَنْ جَهِلَ حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ النَّاسِ، وَكَمْ مِنْ مُتَعَلِّمِي الْيَوْمِ، وَحَمَلَةِ الشَّهَادَاتِ يَجْحَدُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَيُنْكِرُونَ حَقَّ الْأُمَّةِ فِي رَدِّ الدِّينِ الْمَنَاطِ بِأَعْنَاقِهِمْ.

لَقَدْ وَرِثْنَا عَنْ أَجْدَادِنَا قِيَمًا نَاظِمَةً لِلْحَيَاةِ مُمَجِّدَةً لِلْعِلْمِ، وَكَانُوا يُقَدِّسُونَ الْمَسْجِدَ وَالْكِتَابَ، وَيَعْتَبِرُونَهُمَا مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ. لَكِنَّنَا أَهْمَلْنَا هَذِهِ الْقِيَمَ، مَا جَعَلَ أَعْدَاءَنَا يُنْتِجُونَ مِنَ الْعُلُومِ وَالْمَعْرِفَةِ أَضْعَافَ مَا يُنْتِجُهُ الْعَرَبُ، رَغْمَ مَاضِينَا الْمُشْرِقِ فِي مَجَالِ الْعِلْمِ وَالْعُلُومِ.. فَلِمَاذَا تَرَاجَعْنَا إِلَى هَذَا الْحَالِ؟

إِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا دَوْمًا التَّذْكِيرُ بِالْأَوْلَوِيَّاتِ فِي دِينِنَا الَّذِي رَفَعَ الْعُلَمَاءَ إِلَى الْقِمَّةِ إِذْ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا أَشْرَفَ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَلَا أَعْظَمَ مِنَ الرِّسَالَةِ الْمُصْطَفَاةِ.

قُولُوا لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي دِينِنَا: تُعْطَى الزَّكَاةُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَلَا تُعْطَى لِمَنْ يُرِيدُ الْإِنْقِطَاعَ لِلْعِبَادَةِ؛ إِذْ لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ..

قُولُوا لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي دِينِنَا: يُقَدَّمُ الْأَحْفَظُ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَالْأَفْقَهُ لِإِمَامَةِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
«يُؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ…»؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِتَدْبِيرِ أَمْرِ الصَّلَاةِ.

قُولُوا لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي دِينِنَا: الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ نَفْلِ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِ الْإِمَامِ مَالِكٍ مِنْ أَجْلِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ مُرْشِدًا:
«لَيْسَ هَذَا الَّذِي أَنْتَ فِيهِ دُونَ مَا تَذْهَبُ إِلَيْهِ إِذَا صَحَّ فِيهِ النِّيَّةُ».

قُولُوا لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي دِينِنَا أَيْضًا: الْعِلْمُ قَبْلَ الْجِهَادِ، وَمِدَادُ الْعُلَمَاءِ يُوزَنُ بِدِمَاءِ الشُّهَدَاءِ. وَبِالْعِلْمِ يُعْرَفُ فَضْلُ الْجِهَادِ، وَبِالْعُلَمَاءِ يُحْشَدُ النَّاسُ لِلْقِتَالِ، وَلَوْلَا الْعِلْمُ الرَّشِيدُ لَكَانَ الْقِتَالُ خُرُوجًا مَذْمُومًا أَوِ انْتِحَارًا فِي سَبِيلِ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ، كَمَا فَعَلَ الْخَوَارِجُ قَدِيمًا، وَكَمَا تَفْعَلُ الْحَرَكَاتُ الْمُتَطَرِّفَةُ حَالِيًّا.

قُولُوا لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي دِينِنَا: الْعِلْمُ طَرِيقُ الْجَنَّةِ، وَسَبِيلُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ الْقَاطِعَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آلِ عِمْرَانَ: ١٩٠-١٩١).

وَمِنَ السُّنَّةِ: أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا، قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
«مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».

مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ عَاقِلٌ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَيْسَ مِنْ شَيْءٍ أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [الْعَلَق: ١ – ٥].

وَقَدْ دَعَا اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ إِلَى التَّعَقُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّأمُّلِ، وَنَعَى عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ عُقُولَهُمْ، فَلَا يُعْمِلُونَهَا فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ، فَقَالَ تَعَالَى:
﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الْفُرْقَان: ٤٤].

وَقَالَ تَعَالَى:
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الْأَعْرَاف: ١٧٩].

فَالْإِنْسَانُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُزِيلَ عَنْ نَفْسِهِ صِفَةَ الْجَهْلِ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، مُسْتَخْدِمًا جَوَارِحَهُ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى:
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النَّحْل: ٧٨].

وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَادَ أُمَّتِهِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالسَّيْرِ فِي طَرِيقِهِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجَاهِدِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ».

وَإِنَّ مِنْ مَظَاهِرِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ تَحْتَفِيَ بِهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ».

ثُمَّ يَكُونُ طَلَبُ الْعِلْمِ بَعْدَ ذَلِكَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».

وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْعِبَادَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَثَرَ الْعِلْمِ يَتَعَدَّى إِلَى الْغَيْرِ، أَمَّا الْعِبَادَةُ فَهِيَ خَاصَّةٌ بِصَاحِبِهَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطِبًا أَحَدَ صَحَابَتِهِ:
«لَأَنْ تَغْدُوَ فَتُعَلِّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَلَأَنْ تَغْدُوَ فَتُعَلِّمَ بَابًا مِنَ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ».

وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى شَأْنَ الْعُلَمَاءِ وَأَعْلَى قَدْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ؛ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].

وَجَعَلَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَقْرُونَةً بِشَهَادَتِهِ تَعَالَى وَشَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمُ الْفَاهِمُونَ الْمُتَعَقِّلُونَ لِلْأَمْثَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].
وَأَنَّهُمُ الْمَرْجِعُ وَالْمَآلُ لِأَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لِلسُّؤَالِ عَنْهَا وَبَيَانِ حُكْمِهَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43؛ الأنبياء: 7].

كَمَا جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ لِتُبَيِّنَ مَكَانَةَ الْعُلَمَاءِ وَمَنْزِلَتَهُمْ؛ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ».
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا».

وَالْعِلْمُ الْمَقْصُودُ بِالثَّنَاءِ هُنَا، هُوَ ذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، الَّذِي يُورِثُ صَاحِبَهُ خَشْيَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَقُرْبًا مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
كَمَا يُورِثُهُ إِيمَانًا وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [النساء: 162].
وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي أُمِرَ الْمُسْلِمُ بِطَلَبِهِ وَالِاسْتِزَادَةِ مِنْهُ، وَالدُّعَاءِ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].

أَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي يَزِيدُ الْإِنْسَانَ قَسْوَةً وَجُحُودًا وَبُعْدًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ سَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَالًا وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً عَلَى صَاحِبِهِ.
وَهَذَا مَا كَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ أَرْبَعٍ؛ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ».

وَإِنَّ مِنْ مَظَاهِرِ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ، أَنْ يُورِثَ صَاحِبَهُ غُرُورًا وَإِعْجَابًا بِالنَّفْسِ، فَيَظُنَّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ لَيْسَ مَوْجُودًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، نَاسِيًا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76].

أَوْ أَنْ يَفْتَقِدَ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، فَيَكُونَ مُنْتَهَى قَصْدِهِ إِحْرَازَ الْمَنَاصِبِ وَالْأَلْقَابِ وَالرُّتَبِ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

أَوْ أَنْ يَكْتُمَ مَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ وَنَشْرِهِ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ، ثُمَّ كَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ».

وَلَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَسْمَحَ لِنَفْسِهِ بِأَنْ يَفْعَلَ أَوْ يَقُولَ شَيْئًا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَيَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].

فَإِنَّ دِينَـنَا هُوَ دِينُ الْعِلْمِ، وَأَنَّ عَلَى أُمَّةِ الْإِسْلَامِ أَنْ تَكُونَ السَّبَّاقَةَ وَالرَّائِدَةَ فِي كُلِّ مَيَادِينِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ بِتَعَالِيمِهِ وَقِيَمِهِ لَمْ يَكُنْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ مَانِعًا مِنْ تَطَوُّرِ أَتْبَاعِهِ وَارْتِقَائِهِمْ بَيْنَ الْأُمَمِ، كَمَا لَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي انْتِشَارِ مَظَاهِرِ الْكَسَلِ وَالتَّوَانِي بَيْنَهُمْ، بَلْ كَانَ بِحَقٍّ مِشْعَلَ نَهْضَةِ الْأُمَّةِ عَبْرَ التَّارِيخِ، وَمُحَرِّكَ هِمَمِهَا إِلَى السَّبْقِ وَالرِّيَادَةِ وَالتَّمَيُّزِ فِي كُلِّ مَجَالَاتِ الْحَيَاةِ.

وَإِنَّ الضَّعْفَ وَالْوَهْنَ الَّذِي أَصَابَ أُمَّتَنَا الْيَوْمَ، لَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْنِيَهَا عَنْ اسْتِعَادَةِ دَوْرِهَا الْحَضَارِيِّ، وَأَمْجَادِ تَارِيخِهَا الزَّاهِرِ، لِتَأْخُذَ مَكَانَهَا الصَّحِيحَ بَيْنَ الْأُمَمِ، بَعْدَ أَنْ بَرْهَنَتِ الْحَضَارَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى عَلَى تَقَدُّمِهَا وَإِثْرَائِهَا لِكُلِّ الْحَضَارَاتِ فِي زَمَانِهَا.

اَلْعُنْصُرُ اَلثَّانِي : إِحْتِرَامُ اَلْمُعَلِّمِ وَتَوْقِيرُهُ.

اَلْعِلْمُ.. أَجَلُّ الْفَضَائِلِ، وَأَشْرَفُ الْمَزَايَا، وَأَعَزُّ مَا يَتَحَلَّى بِهِ الْإِنْسَانُ، فَهُوَ أَسَاسُ الْحَضَارَةِ، وَمَصْدَرُ أَمْجَادِ الْأُمَمِ، وَعُنْوَانُ سُمُوِّهَا وَتَفَوُّقِهَا فِي الْحَيَاةِ، وَرَائِدُهَا إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَشَرَفِ الدَّارَيْنِ.

وَالْعُلَمَاءُ.. هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَخُزَّانُ الْعِلْمِ، وَدُعَاةُ الْحَقِّ، وَأَنْصَارُ الدِّينِ، يَهْدُونَ النَّاسَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، يُوَجِّهُونَهُمْ وِجْهَةَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 11].

وَيُرْوَى عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلُهُ: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ، وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوَحْدَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الدِّينِ، وَالْمُصَبِّرُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْوَزِيرُ عِنْدَ الْإِخْلَاءِ، وَالْقَرِيبُ عِنْدَ الْغُرَبَاءِ، وَمَنَارُ سَبِيلِ الْجَنَّةِ، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً، سَادَةً، هُدَاةً، يُقْتَدَى بِهِمْ، أَدِلَّةً لِلْخَيْرِ، تُقْتَفَى آثَارُهُمْ، وَتُرْمَقُ أَفْعَالُهُمْ، وَتَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، وَكُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ لَهُمْ يَسْتَغْفِرُ، حَتَّى حِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ، وَالسَّمَاءُ وَنُجُومُهَا.

لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَمَى، وَنُورُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، وَقُوَّةُ الْأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ، يَبْلُغُ بِهِ الْعَبْدُ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا، وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ بِهِ يُطَاعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِهِ يُعْبَدُ، وَبِهِ يُوَحَّدُ، وَبِهِ يُمَجَّدُ، وَبِهِ يُتَوَرَّعُ، وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَهُوَ إِمَامٌ وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءُ».

وَيَقُولُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: «النَّاسُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْعِلْمِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَالْعِلْمُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ

حِينَما وَلِيَ اَلْخِلَافَةَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اَلْعَزِيزِ، وَفَدَتِ اَلْوُفُودُ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ لِبَيَانِ حَاجَاتِهَا وَلِلتَّهْنِئَةِ، فَوَفَدَ عَلَيْهِ اَلْحِجَازِيُّونَ، فَتَقَدَّمَ غُلَامٌ هَاشِمِيٌّ لِلْكَلَامِ، وَكَانَ حَدِيثَ اَلسِّنِّ، فَقَالَ عُمَرُ: لِيَنْطَلِقْ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْكَ.

فَقَالَ اَلْغُلَامُ: أَصْلَحَ اَللَّهُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، إِنَّما اَلْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِذَا مَنَحَ اَللَّهُ عَبْداً لِسَاناً لَافِظاً، وَقَلْباً حَافِظاً، فَقَدِ اِسْتَحَقَّ اَلْكَلَامَ وَعُرِفَ فَضْلُهُ مَنْ سَمِعَ خِطَابَهُ، وَلَوْ أَنَّ اَلْأَمْرَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ بِاَلسِّنِّ، لَكَانَ فِي اَلْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِمَجْلِسِكَ هَذَا مِنْكَ.

فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ، قُلْ مَا بَدَا لَكَ.
فَقَالَ اَلْغُلَامُ: أَصْلَحَ اَللَّهُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، نَحْنُ وَفْدُ تَهْنِئَةٍ لَا وَفْدُ مَرْزِئَةٍ، وَقَدْ أَتَيْنَاكَ لِمَنَّ اَللَّهِ اَلَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِكَ، وَلَمْ يُقَدِّمْنَا إِلَيْكَ رَغْبَةٌ أَوْ رَهْبَةٌ، أَمَّا اَلرَّغْبَةُ فَقَدْ أَتَيْنَاكَ مِنْ بِلَادِنَا، وَأَمَّا اَلرَّهْبَةُ فَقَدْ أَمِنَّا جَوْرَكَ بَعْدَلِكَ.

فَقَالَ عُمَرُ: عِظْنِي يَا غُلَامُ.
فَقَالَ: أَصْلَحَ اَللَّهُ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ نَاساً مِنَ اَلنَّاسِ غَرَّهُمْ حِلْمُ اَللَّهِ عَنْهُمْ وَطُولُ أَمَلِهِمْ وَكَثْرَةُ ثَنَاءِ اَلنَّاسِ عَلَيْهِمْ، فَزَلَّتْ بِهِمُ اَلْأَقْدَامُ، فَهَوَوْا فِي اَلنَّارِ، فَلَا يُغَرَّنَّكَ حِلْمُ اَللَّهِ عَنْكَ، وَطُولُ أَمَلِكَ، وَكَثْرَةُ ثَنَاءِ اَلنَّاسِ عَلَيْكَ، فَتَزِلَّ قَدَمُكَ، فَتَلْحَقَ بِاَلْقَوْمِ، فَلَا جَعَلَكَ اَللَّهُ مِنْهُمْ، وَأَلْحَقَكَ بِصَالِحِي هَذِهِ اَلْأُمَّةِ. ثُمَّ سَكَتَ.

فَقَالَ عُمَرُ: كَمْ عُمْرُ اَلْغُلَامِ؟ فَقِيلَ لَهُ: اِبْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ مِنْ وَلَدِ سَيِّدِنَا اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا، فَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْراً، وَدَعَا لَهُ، وَتَمَثَّلَ قَائِلاً:

تَعَلَّمْ فَلَيْسَ اَلْمَرْءُ يُولَدُ عَالِماً

وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ

فَإِنَّ كَبِيرَ اَلْقَوْمِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ

صَغِيرٌ إِذَا اِلْتَفَتْ عَلَيْهِ اَلْمَحَافِلُ

وَمِنْ اِحْتِرَامِ اَلْمُعَلِّمِ

أَنْ: تَبْدَأَهُ بِاَلسَّلَامِ وَالتَّلَطُّفِ فِي مُنَادَاتِهِ وَعَدَمِ رَفْعِ اَلصَّوْتِ عَلَيْهِ وَتَبْجِيلِهِ وَاَلْإِنْصَاتِ إِلَيْهِ.

قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ: ((مِنْ حَقِّ اَلْعَالِمِ عَلَيْكَ أَنْ لَا تُكْثِرَ عَلَيْهِ اَلسُّؤَالَ، وَلَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرّاً، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَداً، وَلَا تَطْلُبَنَّ عَثْرَتَهُ، وَإِنْ ذَلَّ قَبِلْتَ مَعْذِرَتَهُ، وَعَلَيْكَ أَنْ تُوَقِّرَهُ وَتُعَظِّمَهُ لِلَّهِ مَا دَامَ يَحْفَظُ أَمْرَ اَللَّهِ، وَلَا تَجْلِسَنَّ أَمَامَهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ سَبَقْتَ اَلْقَوْمَ)).

قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ اَلضَّرِيرُ:
اِسْتَدْعَانِي اَلرَّشِيدُ إِلَيْهِ لِيَسْمَعَ مِنِّي اَلْحَدِيثَ، فَمَا ذَكَرْتُ عِنْدَهُ حَدِيثاً إِلَّا قَالَ: صَلَّى اَللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِي، وَإِذَا سَمِعَ فِيهِ مَوْعِظَةً بَكَى حَتَّى يُبَلَّ اَلثَّرَى، وَأَكَلْتُ عِنْدَهُ يَوْماً، ثُمَّ قُمْتُ لِأَغْسِلَ يَدَيَّ، فَصَبَّ اَلْمَاءَ عَلَيَّ وَأَنَا لَا أَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ، أَتَدْرِي مَنْ يَصُبُّ عَلَيْكَ اَلْمَاءَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: يَصُبُّ عَلَيْكَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: فَدَعَوْتُ لَهُ. فَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ تَعْظِيمَ اَلْعِلْمِ.

وَكَانَ اَلْعَالِمُ اَلْمُسْلِمُ (اَلْكِسَائِيُّ) يُرَبِّي وَيُؤَدِّبُ اِبْنَيْ خَلِيفَةِ اَلْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِهِ هَارُونَ اَلرَّشِيدِ، وَهُمَا اَلْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ. وَبَعْدَ اِنْتِهَاءِ اَلدَّرْسِ فِي أَحَدِ اَلْأَيَّامِ، قَامَ اَلْإِمَامُ اَلْكِسَائِيُّ، فَذَهَبَ اَلْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ لِيُقَدِّمَا نَعْلَ اَلْمُعَلِّمِ لَهُ، فَاِخْتَلَفَا فِيمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَأَخِيراً اِتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُقَدِّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَاحِدَةً. فَرُفِعَ اَلْخَبَرُ إِلَى اَلرَّشِيدِ، فَاسْتَدْعَى اَلْكِسَائِيَّ وَقَالَ لَهُ: مَنْ أَعَزُّ اَلنَّاسِ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُ أَعَزَّ مِنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: بَلَى، إِنَّ أَعَزَّ اَلنَّاسِ مَنْ إِذَا نَهَضَ مِنْ مَجْلِسِهِ تَقَاتَلَ عَلَى تَقْدِيمِ نَعْلَيْهِ وَلِيَّا عَهْدِ اَلْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَرْضَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يُقَدِّمَ لَهُ وَاحِدَةً. فَظَنَّ اَلْكِسَائِيُّ أَنَّ ذَلِكَ أَغْضَبَ اَلْخَلِيفَةَ فَاَعْتَذَرَ، فَقَالَ اَلرَّشِيدُ: لَوْ مَنَعْتَهُمَا لَعَاتَبْتُكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ رَفْعٌ مِنْ قَدْرِهِمَا.

وَقَالَ أَمِيرُ اَلشُّعَرَاءِ أَحْمَدُ شَوْقِي:

قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ اَلتَّبْجِيلا

كَادَ اَلْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ رَسُولا

أَعَلِمْتَ أَشْرَفَ أَوْ أَجَلَّ مِنَ اَلَّذِي

يَبْنِي وَيُنْشِئُ أَنْفُساً وَعُقُولا

سُبْحَانَكَ اَللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ

عَلَّمْتَ بِاَلْقَلَمِ اَلْقُرُونَ اَلْأُولَى

أَخْرَجْتَ هَذَا اَلْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ

وَهَدَيْتَهُ اَلنُّورَ اَلْمُبِينِ سَبِيلا

وَطَبَعْتَهُ بِيَدِ اَلْمُعَلِّمِ تَارَةً

صَدِئَ اَلْحَدِيدُ وَتَارَةً مَصْقُولا

أَرْسَلْتَ بِاَلتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِداً

وَابْنَ اَلْبَتُولِ فَعَلَّمَ اَلْإِنْجِيلا

وَفَجَّرْتَ يَنْبُوعَ اَلْبَيَانِ مُحَمَّداً

فَسَقَى اَلْحَدِيثَ وَنَاوَلَ اَلتَّنْزِيلا

عَلِّمُوا أَبْنَاءَكُمْ حَدِيثَ اَلنَّبِيِّ اَلَّذِي قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ :
( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اَللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ اَلْجَنَّةِ ، وَإِنَّ اَلْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ اَلْعِلْمِ ، وَإِنَّ اَلْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ اَلْمَاءِ ، وَإِنَّ فَضْلَ اَلْعَالِمِ عَلَى اَلْعَابِدِ كَفَضْلِ اَلْقَمَرِ لَيْلَةَ اَلْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ اَلْكَوَاكِبِ ، وَإِنَّ اَلْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ اَلْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ اَلْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، وَرَّثُوا اَلْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ).
صَحِيحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (٣٦٤١).

وَسُئِلَ اَلْإِسْكَنْدَرُ : لِمَ تُكْرِمُ مُعَلِّمَكَ فَوْقَ كَرَامَةِ أَبِيكَ ؟ فَقَالَ : إِنَّ أَبِي سَبَبُ حَيَاتِي اَلْفَانِيَةِ ، وَمُعَلِّمِي سَبَبُ حَيَاتِي اَلْبَاقِيَةِ.

وَمَنْ عَلَّمَنِي حَرْفًا صِرْتُ لَهُ عَبْدًا.

فَاحْتِرَامُ اَلْمُعَلِّمِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ اَلتَّرْبِيَةِ وَأَصَالَةِ اَلْخُلُقِ اَلطَّيِّبِ.

اَلْعُنْصُرُ اَلثَّالِثُ : رِسَالَةٌ إِلَى اَلْمُعَلِّمِ.

إِنَّ وَظِيفَةَ اَلتَّعْلِيمِ مِنْ أَشْرَفِ اَلْوَظَائِفِ عَلَى اَلْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّهَا مُهِمَّةُ اَلْأَنْبِيَاءِ اَلَّتِي بُعِثُوا مِنْ أَجْلِهَا ؛ قَالَ – تَعَالَى – : ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آلُ عِمْرَانَ: ١٦٤].

وَيَقُولُ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اَلْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ اَلْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنَّ اَلْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا اَلْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ) ؛ صَحِيحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ.

وَلِذَلِكَ كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلِّمَنَا وَمُوَجِّهَنَا ؛ قَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ اَلْوَالِدِ ، أُعَلِّمُكُمْ ) ؛ صَحِيحُ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ.

وَيُشِيرُ أَحَدُ عُلَمَاءِ اَلتَّرْبِيَةِ إِلَى أَنَّ مِهْنَةَ اَلتَّدْرِيسِ هِيَ “اَلْمِهْنَةُ اَلْأُمُّ” ، وَيَقُولُ آخَرُ : “اَلْمُدَرِّسُ قَائِدٌ يُمَثِّلُ كُلًّا مِنَ اَلْأَبِ وَالْأُمِّ”.

أَرَأَيْتَ أَعْظَمَ أَوْ أَجَلَّ مِنَ اَلَّذِي ♦♦♦ يَبْنِي وَيُنْشِئُ أَنْفُسًا وَعُقُولَا.

فَإِذَا كَانَ أَمْرُكَ هَكَذَا أَيُّهَا اَلْمُعَلِّمُ ، فَاحْرِصْ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ بِمَجَامِعِ صِفَاتِ اَلْمُرَبِّي اَلْمُسْلِمِ ، اَلَّذِي بَوَّأَهُ اَللَّهُ هَذِهِ اَلْمَسْؤُولِيَّةَ اَلْعَظِيمَةَ ؛ “إِنَّكُمْ تَجْلِسُونَ مِنْ كَرَاسِيِّ اَلتَّعْلِيمِ عَلَى عُرُوشِ مَمَالِكٍ ، رَعَايَاهَا أَطْفَالُ اَلْأُمَّةِ ؛ فَسُوسُوهُمْ بِالرِّفْقِ وَالْإِحْسَانِ ، وَتَدَرَّجُوا بِهِمْ مِنْ مَرْحَلَةٍ كَامِلَةٍ فِي اَلتَّرْبِيَةِ إِلَى مَرْحَلَةٍ أَكْمَلَ مِنْهَا ، إِنَّهُمْ أَمَانَةُ اَللَّهِ عِنْدَكُمْ ، وَوَدَائِعُ اَلْأُمَّةِ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ، سَلَّمَتْهُمْ إِلَيْكُمْ أَطْفَالًا ؛ لِتَرُدُّوهَا إِلَيْهَا رِجَالًا ، وَقَدَّمَتْهُمْ إِلَيْكُمْ هَيَاكِلَ ؛ لِتَنْفُخُوا فِيهَا اَلرُّوحَ ، وَأَلْفَاظًا ؛ لِتُعَمِّرُوهَا بِالْمَعَانِي ، وَأَوْعِيَةً ؛ لِتَمْلَؤُوهَا بِالْفَضِيلَةِ وَالْمَعْرِفَةِ”.

إِنَّ اَلْمُعَلِّمَ أَمِينٌ عَلَى أَبْنَاءِ اَلْأُمَّةِ ، قَدْ تَنْعَكِسُ نَتَائِجُ عَمَلِهِ إِذَا هُوَ فَرَّطَ فِي اَلْأَخْذِ بِأَسْبَابِ نَجَاحِ مِهْنَتِهِ ، فَهُوَ كَالطَّبِيبِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُهْلِكَ مَرِيضَهُ إِذَا أَسَاءَ عِلَاجَهُ ، وَكَالْفَلَّاحِ قَدْ يُهْلِكُ زَرْعَهُ إِذَا أَسَاءَ رِعَايَتَهُ ، وَهُوَ نَائِبٌ عَنِ اَلْوَالِدَيْنِ ، وَمَوْضِعُ ثِقَتِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ وَكَلَا إِلَيْهِ تَرْبِيَةَ اِبْنِهِمَا ، وَهُوَ أَمَلُ اَلْأُمَّةِ فِي تَخْرِيجِ مَنْ سَيَتَوَلَّوْنَ شُؤُونَهَا ، وَيَتَبَوَّؤُونَ مَرَاكِزَ اَلْقَرَارِ فِيهَا.

إِنَّ لِلْمُعَلِّمِ اَلْمُسْلِمِ اَلنَّاجِحِ صِفَاتٍ يَجِبُ أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا ، مِنْهَا :

١- اَلْإِتْقَانُ فِي مُهِمَّتِهِ ، عَنْ طَرِيقِ اَلتَّمَكُّنِ مِنْ مَادَّةِ تَعْلِيمِهِ ، وَإِحَاطَتِهِ بِالطُّرُقِ اَلتَّرْبَوِيَّةِ اَلنَّاجِحَةِ ، وَعِلْمِهِ بِالْجَوَانِبِ اَلنَّفْسِيَّةِ لِلشَّرِيحَةِ اَلَّتِي يُدَرِّسُهَا ؛ لِأَنَّ أَبْنَاءَ اَلْمُسْلِمِينَ أَمَانَةٌ فِي عُنُقِهِ ، سَيَأْخُذُونَ بِتَلَابِيبِهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ، إِنْ هُوَ قَصَّرَ فِي حُسْنِ تَرْبِيَتِهِمْ ، أَوْ عَلَّمَهُمْ مَا يَكُونُ سَبَبًا فِي زَيْغِهِمْ ؛ قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى : ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [اَلْبَقَرَةِ: ١٩٥] ، وَقَالَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اَللَّهَ كَتَبَ اَلْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ) ؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَقَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ ) ؛ رَوَاهُ اَلطَّبَرَانِيُّ ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ اَلْجَامِعِ.

٢- اَلرِّفْقُ فِي اَلتَّعَامُلِ مَعَ تَلَامِيذِهِ ؛ لَا يُعَنِّفُهُمْ ، وَلَا يَضْرِبُهُمْ ، وَلَا يُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ ، إِلَّا فِي اَلْحُدُودِ اَلتَّرْبَوِيَّةِ اَلْمَشْرُوعَةِ ؛ قَالَ اَلنَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اَللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ ، فَارْفُقْ بِهِ ) ؛ مُسْلِمٌ.

وَقَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اَللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا ، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا ) ؛ مُسْلِمٌ.

* وَفِي قِصَّةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ اَلْحَكَمِ اَلسُّلَمِيِّ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ ، اَلَّذِي قَالَ : “بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ اَلْقَوْمِ ، فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اَللَّهُ ، فَرَمَانِي اَلْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ ، فَقُلْتُ : وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ؛ مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ ، فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي – أَيْ : مَا قَهَرَنِي وَلَا عَنَّفَنِي – وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي ، قَالَ : ( إِنَّ هَذِهِ اَلصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ اَلنَّاسِ ، إِنَّمَا هُوَ اَلتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ اَلْقُرْآنِ )” ؛ مُسْلِمٌ.

* وَعَنْ مَالِكِ بْنِ اَلْحُوَيْرِثِ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ قَالَ : “أَتَيْنَا اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ – فِي اَلسِّنِّ – فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً ، وَكَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفِيقًا – وَفِي بَعْضِ اَلنُّسَخِ : رَقِيقًا – فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اِشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا ، أَوْ قَدِ اِشْتَقْنَا ، سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا ، فَأَخْبَرْنَاهُ ، قَالَ : ( اِرْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ ، وَعَلِّمُوهُمْ ، وَمُرُوهُمْ ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ، فَإِذَا حَضَرَتِ اَلصَّلَاةُ ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ )” ؛ اَلْبُخَارِيُّ.

وَقَدْ قِيلَ : “حَتَّى تَسْتَطِيعَ رَفْعَ اَلتِّلْمِيذِ اَلَّذِي وَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ ، عَلَيْكَ أَنْ تَنْحَنِيَ لَهُ وَتَرْفَعَهُ بِرِفْقٍ ، وَإِلَّا فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَيْهِ ؟”.

٣- وَمِنْ هٰذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي عَلَى الْمُعَلِّمِ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا، الْعَدْلُ بَيْنَ التَّلَامِيذِ وَالطُّلَّابِ، وَعَدَمُ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمُعَامَلَةِ أَوِ الْعِنَايَةِ أَوِ الدَّرَجَاتِ، وَالْأَقْبَحُ مِنْ ذٰلِكَ تَلَقِّي الرَّشَاوَى مِنْ أَجْلِ مَنْحِ النُّقَطِ، أَوْ يُفَضِّلُ بَعْضَ التَّلَامِيذِ عَلَى بَعْضٍ بِسَبَبِ الدُّرُوسِ الْخُصُوصِيَّةِ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: “الْمُعَلِّمُ إِذَا لَمْ يَعْدِلْ كُتِبَ مِنَ الظَّلَمَةِ”.

وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: “إِذَا قُوطِعَ الْمُعَلِّمُ عَلَى الْأَجْرِ، فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمْ – أَيْ: الطُّلَّابِ – كُتِبَ مِنَ الظَّلَمَةِ”.

وَإِذَا الْمُعَلِّمُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا مَشَى ♦♦♦ رُوحُ الْعَدَالَةِ فِي الشَّبَابِ ضَئِيلَا

قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النِّسَاءِ: ٥٨].

قَالَ ابْنُ سِينَا: “يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّبُ الصَّبِيِّ عَاقِلًا، ذَا دِينٍ، بَصِيرًا بِرِيَاضَةِ الْأَخْلَاقِ، حَاذِقًا بِتَخْرِيجِ الصِّبْيَانِ، وَقُورًا رَزِينًا، غَيْرَ كَزٍّ وَلَا جَامِدٍ، حُلْوًا لَبِيبًا، ذَا مُرُوءَةٍ وَنَظَافَةٍ وَنَزَاهَةٍ”.

فَبِاللَّهِ عَلَيْكَ، مَاذَا تَنْتَظِرُ مِنْ أَحَدِ الْأَسَاتِذَةِ يَسْأَلُ تِلْمِيذَهُ سِيجَارَةً، وَأُسْتَاذٍ يَقْتَرِضُ مِنْ تِلْمِيذِهِ مَالًا، وَأُسْتَاذٍ يَسْأَلُ عَنْ وَظَائِفِ أَوْلِيَاءِ أُمُورِ تَلَامِيذِهِ، فَيَسْتَجْدِي هٰذَا، وَيَتَمَلَّقُ لِهٰذَا، وَيَجْعَلُ هٰذَا وَاسِطَةً لِقَضَاءِ حَاجَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ، وَأُسْتَاذٍ يُقَلِّلُ فِي النُّقَاطِ عَلَى فُقَرَاءِ التَّلَامِيذِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِهَا لِلْمَيْسُورِينَ؛ لِأَنَّهُمْ زَبَائِنُ عِنْدَهُ فِي الدُّرُوسِ الْخُصُوصِيَّةِ، وَأُسْتَاذٍ يَقُومُ بِسَاعَاتٍ إِضَافِيَّةٍ فِي مُؤَسَّسَةٍ خُصُوصِيَّةٍ، فَتَرَاهُ يَحْضُرُ فِي الْوَقْتِ، وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ اللِّبَاسِ، وَيَقُومُ بِسَاعَاتِ الدَّعْمِ وَالتَّقْوِيَةِ، ثُمَّ يَعْتَبِرُ مُؤَسَّسَتَهُ الْأَصْلِيَّةَ الَّتِي اسْتَأْمَنَتْهُ الدَّوْلَةُ عَلَيْهَا أَمْرًا ثَانَوِيًّا، يَتَأَخَّرُ فِي الْحُضُورِ، وَرُبَّمَا يَغِيبُ بِلَا سَبَبٍ، لَا يَعْتَنِي بِهَيْئَتِهِ، تَرَاهُ مُقَطِّبًا عَبُوسًا، يُعَامِلُ التَّلَامِيذَ بِقَسْوَةٍ وَغِلْظَةٍ، كَيْفَ لِمِثْلِ هٰؤُلَاءِ أَنْ يَكُونُوا عَادِلِينَ نُزَهَاءَ؟!

إِنَّ اخْتِلَالَ هٰذَا الْمِيزَانِ عِنْدَ الْمُعَلِّمِ هُوَ الَّذِي يُوَلِّدُ الْعُنْفَ وَالتَّوَتُّرَ، وَعَدَمَ الِانْسِجَامِ وَالْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ الطُّلَّابِ وَالتَّلَامِيذِ، بَدَلًا عَنِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِخَاءِ.

٤- أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً لِتَلَامِيذِهِ، يُتَرْجِمُ أَقْوَالَهُ إِلَى أَفْعَالٍ، فَتَتَحَقَّقُ مِصْدَاقِيَّتُهُ، وَتَعْظُمُ هَيْبَتُهُ، وَيَنْضَبِطُ فَصْلُهُ الدِّرَاسِيُّ، وَلَا يَتْرُكُ لِلتَّلَامِيذِ مَجَالًا لِرَمْيِهِ بِالتَّنَاقُضِ وَالِازْدِوَاجِيَّةِ.

قَالَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِمُؤَدِّبِ وَلَدِهِ: “لِيَكُنْ أَوَّلُ إِصْلَاحِكَ لِوَلَدِي إِصْلَاحَكَ لِنَفْسِكَ؛ فَإِنَّ عُيُونَهُمْ مَعْقُودَةٌ بِكَ؛ فَالْحَسَنُ عِنْدَهُمْ مَا صَنَعْتَ، وَالْقَبِيحُ عِنْدَهُمْ مَا تَرَكْتَ”.

وَكُنْ عَامِلًا بِالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْتَهُ ♦♦♦ لِيُهْدَى بِكَ الْمَرْءُ الَّذِي بِكَ يَقْتَدِي
حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمُ ♦♦♦ تَنَلْ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ

“أَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِعِلْمِهِ، فَلَا يُكَذِّبُ قَوْلَهُ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُدْرَكُ بِالْبَصَائِرِ، وَالْعَمَلُ يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ، وَأَرْبَابُ الْأَبْصَارِ أَكْثَرُ”.

وَقَدْ قِيلَ: “كُنْ صَحِيحًا فِي السِّرِّ، تَكُنْ فَصِيحًا فِي الْعَلَانِيَةِ”

٥- أَنْ يُشَجِّعَ الْمُجِدِّينَ، وَيَرْعَى الْمَوْهُوبِينَ.

فَهٰذَا أَبُو هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – يَسْأَلُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟”، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَقَدْ ظَنَنْتُ – يَا أَبَا هُرَيْرَةَ – أَلَّا يَسْأَلَنِي عَنْ هٰذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ))؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَحِينَ سَأَلَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟))، فَقَالَ أُبَيٌّ: “﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥]”، قَالَ لَهُ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ))؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يَقُولُ: “قَالَ لِي أَبِي: يَا بُنَيَّ، اطْلُبِ الْحَدِيثَ، فَكُلَّمَا سَمِعْتَ حَدِيثًا وَحَفِظْتَهُ، فَلَكَ دِرْهَمٌ، فَطَلَبْتُ الْحَدِيثَ عَلَى هٰذَا”.

وَلَقَدْ رَأَيْنَا مِنَ الْمُعَلِّمِينَ مَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْحُصُولِ عَلَى جَوَائِزَ لِتَلَامِيذِهِ، وَرُبَّمَا صَرَفَ مِنْ جَيْبِهِ؛ تَشْجِيعًا لِلْفَائِزِينَ فِي الْمُسَابَقَاتِ، أَوْ تَنْوِيهًا بِالْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ حَصَلُوا عَلَى أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، أَوْ تَحْفِيزًا لِلْمَوْهُوبِينَ فَائِقِي الْقُدُرَاتِ، فَلِلَّهِ دَرُّهُمْ!

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ قَوْمَهُ قَالُوا لِلنَّبِيِّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: “هَا هُنَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، حَفِظَ بُضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً”، فَاسْتَقْرَأَنِي، فَقَرَأْتُ سُورَةَ “ق”، فَقَالَ: ((إِنِّي أَكْتُبُ إِلَى قَوْمٍ، فَأَخَافُ أَنْ يَزِيدُوا عَلَيَّ أَوْ يَنْقُصُوا، فَتَعَلَّمِ السُّرْيَانِيَّةَ))، قَالَ: “فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا”؛ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَةِ.

وَلَقَدْ تَفَطَّنَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَلْخِيُّ إِلَى ذَكَاءِ تِلْمِيذِهِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، فَشَجَّعَهُ بِأَنْ عَلَّمَهُ كَلِمَاتٍ، ثُمَّ أَصْعَدَهُ الْمِنْبَرَ وَعُمْرُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
ابْنُ الْجَوْزِيِّ هٰذَا الَّذِي صَارَ مَجْلِسُهُ – بَعْدَ ذٰلِكَ – يَؤُمُّهُ ثَلَاثُ مِائَةِ أَلْفِ شَخْصٍ، وَخَلَّفَ لَنَا أَزِيدَ مِنْ ثَلَاثِ مِائَةِ مُصَنَّفٍ فِي مُخْتَلَفِ الْعُلُومِ.

٦- اَلتَّوَاضُعُ لَهُمْ وَقُبُولُ مُنَاقَشَتِهِمْ:

* فَهٰذَا عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ – رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ – يَقُولُ: «تَعَلَّمُوا اَلْعِلْمَ، وَعَلِّمُوهُ اَلنَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا اَلْوَقَارَ وَالسَّكِينَةَ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَعَلَّمْتُمْ مِنْهُ – وَفِي لَفْظٍ: وَلِمَنْ عَلَّمْتُمُوهُ – وَلَا تَكُونُوا جَبَابِرَةَ اَلْعُلَمَاءِ، فَلَا يَقُومُ عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ»؛ رَوَاهُ اَلْبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَنْ عُمَرَ.

* وَهٰذِهِ عَائِشَةُ – رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا – كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ؛ حَتَّى تَعْرِفَهُ، فَلَمَّا قَالَ اَلنَّبِيُّ – صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ»، قَالَتْ عَائِشَةُ: «أَوَلَيْسَ يَقُولُ اَللَّهُ – تَعَالَى -: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ [اَلِانْشِقَاقِ: ٨]؟»، قَالَ: «إِنَّمَا ذٰلِكَ اَلْعَرْضُ، وَلٰكِنْ مَنْ نُوقِشَ اَلْحِسَابَ يَهْلِكْ»؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَبُشْرَاكَ أَيُّهَا اَلْمُعَلِّمُ، يَا مَنْ آثَارُهُ فِي اَلْمُجْتَمَعِ عَظِيمَةٌ، وَبَصَمَاتُهُ عَلَى أَبْنَائِهِ جَسِيمَةٌ، يَكْفِيكَ أَنَّ رَسُولَ اَللَّهِ – صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَشَّرَكَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ، لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ اَلْعَامِلِ»؛ صَحِيحُ سُنَنِ اِبْنِ مَاجَهْ.

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ

وَأَقُمْ الصَّلَاةُ