خطبة بعنوان ( مولد الهادى البشير) للشيخ ياسر عبدالبديع
31 أغسطس، 2025
خطب منبرية

خطبة بعنوان ( مولد الهادى البشير)
للشيخ : ياسر عبدالبديع
بتاريخ /13 من ربيع الأول 1447 هجرية
5 من سبتمبر 2025 م
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ
مولد الهادى البشير
اَلْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ : مَكَانَةُ النَّبِيِّ وَفَضْلُهُ
مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى أُمَّتِنَا أَنْ بَعَثَ فِيهِمْ خَيْرَ رُسُلِهِ، وَأَفْضَلَ خَلْقِهِ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَهُوَ الرَّسُولُ الْمُصْطَفَى، وَالنَّبِيُّ الْمُجْتَبَى، خَتَمَ اللهُ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، وَاخْتَصَّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ بِفَضَائِلَ وَخَصَائِصَ كَثِيرَةٍ، تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا لَهُ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَلِيلِ قَدْرِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:
﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍۢ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ (البَقَرَةُ: ٢٥٣).
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ أَيْ: وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَ بَعْدَ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْفَضْلِ أَفْضَلَ مِنْهُمْ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مُحَمَّدًا – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدٌ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَكَاثِرَةِ الْمُرْتَقِيَةِ إِلَى أَلْفِ آيَةٍ وَأَكْثَرَ، وَلَوْ لَمْ يُؤْتَ إِلَّا الْقُرْآنَ وَحْدَهُ لَكَفَى بِهِ فَضْلًا مَنِيفًا عَلَى سَائِرِ مَا أُوتِيَ الْأَنْبِيَاءُ، لِأَنَّهُ الْمُعْجِزَةُ الْبَاقِيَةُ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ دُونَ سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ، وَفِي هَذَا الْإِبْهَامِ مِنْ تَفْخِيمِ فَضْلِهِ وَإِعْلَاءِ قَدْرِهِ مَا لَا يَخْفَى، لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ الْعَلَمُ الَّذِي لَا يُشْتَبَهُ، وَالْمُمَيَّزُ الَّذِي لَا يَلْتَبِسُ».
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: «قَبِيحٌ بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْهَلُوا مَعْرِفَةَ فَضَائِلِ نَبِيِّهِمْ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَمَا خَصَّهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».
وَفَضَائِلُ وَخَصَائِصُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّتِي جَمَعَهَا الْعُلَمَاءُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْهَا:
مَدْحُ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَثَنَاؤُهُ عَلَى حُسْنِ صِفَاتِهِ، وَعَظِيمِ أَخْلَاقِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَمِنْهَا رَحْمَتُهُ الَّتِي تَمَيَّزَ بِهَا، وَبُعِثَ لِأَجْلِهَا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ (القَلَمُ: ٤)، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ (الأَنْبِيَاءُ: ١٠٧).
وَلِذَا كَانَ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ـ يَقُولُ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ لَمْ تَثْبُتْ لِأَحَدٍ غَيْرَ نَبِيِّنَا وَإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا ـ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «أَلَا إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خَلٍّ مِنْ خُلَّةٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا، لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِهَا نَبِيَّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رِعَايَتُهُ لَهُ، وَعِنَايَتُهُ بِهِ مِنْ قَبْلِ بَعْثَتِهِ بِالنُّبُوَّةِ، بَلْ مُنْذُ وِلَادَتِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ (الضُّحَى: ٦ ـ ٨).
وَمِنْهَا أَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ رَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ (الشَّرْحُ: ٤).
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: «قَالَ مَجَاهِدٌ: لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي، أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ».
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وُرُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَقُولُ لَهُ: مَا ذُكِرْتُ إِلَّا ذُكِرْتَ مَعِي فِي الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ وَالتَّشَهُّدِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ الْأَضْحَى، وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَعِنْدَ الْجِمَارِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَفِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَفِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا».
وَقَالَ قَتَادَةُ: «رَفَعَ اللهُ ذِكْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَيْسَ خَطِيبٌ وَلَا مُتَشَهِّدٌ وَلَا صَاحِبُ صَلَاةٍ إِلَّا يُنَادِي بِهَا: أَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ».
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ:
ضَمَّ الإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ * إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ: أَشْهَدُ
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ * فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
وَمِنْ فَضَائِلِهِ وَخَصَائِصِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ بَنِي آدَمَ، وَأَشْرَفُ الْخَلْقِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَأَوَّلُ مَنْ يَشْفَعُ، وَأَنَّهُ أُرْسِلَ لِلنَّاسِ كَافَّةً.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ:
«إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًى (جَالِسِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ)، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ الْعَبَّاسِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:
«أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ فِرْقَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:
«فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ فَضَائِلِهِ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ـ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلُهُمْ، لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى:
﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ (الأَحْزَابُ: ٤٠).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
«مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟، قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَنَبِيُّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلُهُمْ، وَالْأَنْبِيَاءُ جَمِيعًا ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ـ لَوْ قُدِّرَ لَهُمْ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيُعَاصِرُوهُ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ـ مَا وَسِعَهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَتَّبِعُوهُ، فَقَدْ قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ:
«لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى:
«لَوْ كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي».
يَقُولُ السَّعْدِيُّ: «فَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ لَوْ أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِهِ وَاتِّبَاعُهُ وَنُصْرَتُهُ، وَكَانَ هُوَ إِمَامَهُمْ وَمُقَدَّمَهُمْ وَمَتْبُوعَهُمْ».
وَمِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِهَا نَبِيَّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:
«آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟، فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ، لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ: «وَلَا أَقُومُ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ».
فَرِضْوَانُ خَازِنُ الْجَنَّةِ لَا يَفْتَحُهَا إِلَّا لِنَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَلَا يَفْتَحُهَا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْخَزَنَةِ، وَهِيَ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ـ، وَفِيهَا إِظْهَارٌ لِفَضْلِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ.
وَمِنْ عَظِيمِ فَضَائِلِهِ وَخُصُوصِيَّاتِهِ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ـ: الشَّفَاعَةُ، وَالْوَسِيلَةُ، وَالْفَضِيلَةُ، وَهِيَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، لَا يَنَالُهَا إِلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَهُوَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ:
«إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَفَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: شَفَاعَتُهُ فِي اسْتِفْتَاحِ بَابِ الْجَنَّةِ، وَشَفَاعَتُهُ فِي تَقْدِيمِ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَشَفَاعَتُهُ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ عِنْدَهُمْ مَعَاصٍ وَذُنُوبٌ اسْتَحَقُّوا دُخُولَ النَّارِ أَلَّا يَدْخُلُوهَا، وَشَفَاعَتُهُ فِي نَاسٍ مُوَحِّدِينَ دَخَلُوا النَّارَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْهَا.
ـ وَمِنْ فَضَائِلِ النَّبِيِّ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ـ وَخَصَائِصِهِ الْكَوْثَرُ، وَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ وَعَدَهُ اللهُ بِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى:
﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾(الْكَوْثَرِ: ١).
وَعَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: ( بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ غَفَا إِغْفَاءَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةٌ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟، قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ: ( الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ ).
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: ( ذَاكَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ اللهُ، أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ ).
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: ( أَنَا فَرَطُكُمْ ( سَابِقُكُمْ ) عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا ) رواه البخاري.
هَذِهِ بَعْضُ فَضَائِلِ وَخَصَائِصِ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، الَّذِي اخْتَارَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ لِيَكُونَ خَاتَمَ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ، وَرَحْمَةً لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.
الْعُنْصُرُ الثَّانِي : خَصَائِصُ النَّبِيِّ وَالْأُمَّةِ فِي الْآخِرَةِ
اِخْتَصَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْأُمَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ فِي الْآخِرَةِ بِخَصَائِصَ كَثِيرَةٍ، لَمْ تُعْطَهَا غَيْرُهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَفِي ذَلِكَ تَشْرِيفٌ وَتَكْرِيمٌ
لِنَبِيِّهَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، الَّذِي أَمْضَى عُمُرَهُ، وَضَحَّى بِكُلِّ مَا لَدَيْهِ فِي سَبِيلِ هِدَايَتِهَا، وَالْأَخْذِ بِيَدِهَا إِلَى مَا فِيهِ عِزُّهَا وَمَجْدُهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، حَتَّى أَصْبَحَتْ بِفَضْلِ اللَّهِ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾(آلُ عِمْرَانَ: مِنَ الْآيَةِ ١١٠).
وَأُمَّةُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَإِنْ تَأَخَّرَ وُجُودُهَا فِي الدُّنْيَا عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، فَهِيَ سَابِقَةٌ لَهَا فِي الْآخِرَةِ مَنْزِلَةً وَفَضْلًا، كَمَا أَنَّهَا شَاهِدَةٌ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحْشَرُ وَيُحَاسَبُ، وَأَوَّلُ مَنْ يَجْتَازُ الصِّرَاطَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَصَائِصِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَكْرَمَهَا اللَّهُ بِهَا، وَالَّتِي مِنْهَا:
الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ:
تَأْتِي الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، وَبِهَذِهِ الصِّفَةِ يَعْرِفُ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُمَّتَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، حِينَ يَنْتَظِرُهُمْ عَلَى حَوْضِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: “ثَبَتَ أَنَّ الْغُرَّةَ وَالتَّحْجِيلَ خَاصٌّ بِالْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ”.
وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:
( إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟، قَالَ: نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالْغُرُّ: جَمْعُ أَغَرَّ، وَهُوَ أَبْيَضُ الْوَجْهِ.
وَالْمُحَجَّلُ: أَبْيَضُ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنَ الْيَدَيْنِ.
وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:
( إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
أَوَّلُ مَنْ يَجْتَازُ الصِّرَاطَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ :
اَلصِّرَاطُ جِسْمٌ مَمْدُودٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ، فَمَنْ اسْتَقَامَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى صِرَاطِ اللهِ، نَجَا عَلَى صِرَاطِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ اِنْحَرَفَ عَنِ الاِسْتِقَامَةِ فِي الدُّنْيَا، وَأَثْقَلَ ظَهْرَهُ بِالذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، تَعَثَّرَ عَلَى الصِّرَاطِ وَتَرَدَّى، وَمِمَّا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَنَبِيَّهَا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ جَعَلَهُمْ أَوَّلَ مَنْ يَجْتَازُ وَيَعْبُرُ الصِّرَاطَ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ: ( أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ!، قَالَ: فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ!، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَنَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَي جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا ) رواه البخاري.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: ( نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، بِيَدِ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) رواه البخاري.
شُهَدَاءَ عَلَى الْأُمَمِ :
الأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَفْضَلُهَا ، خَصَّهَا اللهُ بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ ، فَهِيَ وَسَطٌ بَيْنَ الْأَدْيَانِ ، فَلَمْ تُغَالِ كَغُلُوِّ النَّصَارَى ، وَلَمْ تُقَصِّرْ كَتَقْصِيرِ الْيَهُودِ ، وَمِنْ ثَمَّ جَعَلَهَا اللهُ شَاهِدَةً عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَمَا مِنْ نَبِيٍّ وَلَا رَسُولٍ تُنْكِرُ أُمَّتُهُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ ، إِلَّا وَتَشْهَدُ لَهُ الْأُمَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ بِالْبَلَاغِ ، فَيَقْبَلُ اللهُ شَهَادَتَهَا وَقَوْلَهَا ، لِمَا لَهَا مِنَ الْفَضْلِ وَالْمَنْزِلَةِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ (الْبَقَرَةِ: ١٤٣).
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :
« يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : هَلْ بَلَّغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ : هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ ، فَيَقُولُ : مَنْ يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ ، فَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ : ﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ » (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَالْوَسَطُ : الْعَدْلُ.
وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ فَقَطْ ، بَلْ هِيَ شَامِلَةٌ لِلْأُمَمِ كُلِّهَا ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ :
« يَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ ، وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الثَّلَاثَةُ ، وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ ، فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ ؟ ، فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيُدْعَى قَوْمُهُ ، فَيُقَالُ : هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ ، فَيَقُولُونَ : لَا ، فَيُقَالُ : مَنْ شَهِدَ لَكَ ؟ ، فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ. فَتُدْعَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ ، فَيُقَالُ : هَلْ بَلَّغَ هَذَا ؟ ، فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، فَيُقَالُ : وَمَا عِلْمُكُمْ بِذَلِكَ ؟ ، فَيَقُولُونَ : أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا بِذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا ، فَصَدَّقْنَاهُ » (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).
قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي مَعْرِضِ حَدِيثِهِ عَنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ ﷺ :
« وَمِنْهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى نَزَّلَ أُمَّتَهُ مَنْزِلَ الْعُدُولِ مِنَ الْحُكَّامِ ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ، فَجَحَدَتِ الْأُمَمُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ ، أَحْضَرَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ فَيَشْهَدُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ رُسُلَهُمْ أَبْلَغُوهُمْ ، وَهَذِهِ الْخَصِيصَةُ لَمْ تَثْبُتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ».
عَمَلٌ قَلِيلٌ وَأَجْرٌ كَثِيرٌ :
أَنْعَمَ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِنِعَمٍ كَثِيرَةٍ ، وَخَصَّهَا بِخَصَائِصَ عَظِيمَةٍ ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا أَقَلُّ عَمَلًا مِمَّنْ سَبَقَهَا مِنَ الْأُمَمِ ، لَكِنَّهَا أَكْثَرُ أَجْرًا وَثَوَابًا ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
وَمِمَّا يُبَرْهِنُ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ مِنْ كَلَامِ الْمُصْطَفَى ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ :
( إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ ، مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ : مَنْ يَعْمَلْ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ؟ ، فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ يَعْمَلْ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ؟ ، فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ يَعْمَلْ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ ؟ ، أَلَا فَأَنْتُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ ، أَلَا لَكُمُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ ، فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، فَقَالُوا : نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً ، قَالَ اللهُ : هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا ؟ ، قَالُوا : لَا ، قَالَ : فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ ) رواه البخاري.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ :
« وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ بِالْعُمَّالِ تَفَاوُتُ أُجُورِهِمْ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَنُوطًا بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَقِلَّتِهِ ، بَلْ بِأُمُورٍ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ قَلِيلٍ أَجْدَى مَا لَا يُجْدِيهِ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ ، هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الْعَمَلُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ سِوَاهَا ، وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْفَقُوا فِي أَوْقَاتٍ لَوْ أَنْفَقَ غَيْرُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ مِثْلَ أُحُدٍ ، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ ، فَهَذِهِ الْأُمَّةُ إِنَّمَا شَرُفَتْ وَتَضَاعَفَ ثَوَابُهَا بِبَرَكَةِ سِيَادَةِ نَبِيِّهَا وَشَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾
(الْحَدِيد: ٢٨-٢٩).
أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ :
مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي أُمَّتِهِ فِي الْآخِرَةِ : أَنَّهَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَهَذَا تَكْرِيمٌ عَظِيمٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأُمَّتِهِ ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةَ :
عَنْ اِبْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ :
( أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟ ، قَالَ : فَكَبَّرْنَا ، ثُمَّ قَالَ : أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، قَالَ : فَكَبَّرْنَا ، ثُمَّ قَالَ : إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ ، مَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ إِلَّا كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ فِي ثَوْرٍ أَسْوَدَ أَوْ كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ فِي ثَوْرٍ أَبْيَضَ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ بُرَيْدَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ :
( أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
هَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الْخَصَائِصِ الَّتِي اخْتَصَّ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي أُمَّتِهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَهِيَ وَلَا شَكَّ تُبَيِّنُ مَكَانَةَ هَذَا الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَيْنَ الرُّسُلِ ، وَتُبَيِّنُ كَذَلِكَ مَكَانَةَ أُمَّتِهِ بَيْنَ الْأُمَمِ ، وَمِنْ ثَمَّ فَعَلَيْنَا أَنْ نَسْتَشْعِرَ وَنَعْتَزَّ بِهَذِهِ الْخَيْرِيَّةِ ، وَأَنْ نَتَحَقَّقَ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى :
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آلُ عِمْرَانَ )
الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ : وُجُوبُ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُسْلِمُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَحَبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُتَابَعَتَهُ، وَنَشْرَ سُنَّتِهِ وَالذَّبَّ عَنْهَا، فَلَا يَتَذَوَّقُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، إِلَّا بِتَمَامِ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)).
بَلْ لَا يَصِلُ الْعَبْدُ إِلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ إِلَّا بِتَمَامِ مَحَبَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)).
وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَفَقَّدُ وَيَقِيسُ تِرْمُومِتْرَ إِيمَانِهِ؛ فَيَقُولُ:
((يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْآنَ يَا عُمَرُ)).
أَيْ: الْآنَ يَتَحَقَّقُ الْإِيمَانُ وَيَتِمُّ.
وَمَحَبَّتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُؤَهِّلَاتِ رِفْقَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:
((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ؛ يَقُولُ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ فَرَحَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَهُمْ بِهَذَا)).
وَهَذَا ثَوْبَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَبِّرُ عَنْ هَذَا الْحُبِّ الشَّدِيدِ لَهُ، فَيَأْتِيهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ يُعْرَفُ الْحُزْنُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا غَيَّرَ لَوْنَكَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بِي مَرَضٌ وَلَا وَجَعٌ، غَيْرَ أَنِّي إِنْ لَمْ أَرَكَ، اسْتَوْحَشْتُ وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاكَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ الْآخِرَةَ فَأَخَافُ أَلَّا أَرَاكَ لِأَنَّكَ تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ كُنْتُ فِي مَنْزِلَةٍ أَدْنَى مِنْ مَنْزِلَتِكَ، وَإِنْ لَمْ أَدْخُلِ الْجَنَّةَ لَا أَرَاكَ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النِّسَاءِ: 69])).
فَإِنَّ الْمُحِبَّ لِلنَّبِيِّ ﷺ حَقِيقَةً هُوَ ذٰلِكَ الْمُعَظِّمُ لِسُنَّتِهِ، الْعَامِلُ بِشَرِيعَتِهِ، الْمُقْتَدِي بِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ ﷺ.
* فَمَا هِيَ عَلَامَاتُ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؟ حَتَّى تَتَمَايَزَ الصُّفُوفُ، وَيُعْلَمَ الصَّادِقُ فِي مَحَبَّتِهِ مِنَ الْكَاذِبِ:
١- أُولَى هٰذِهِ الْعَلَامَاتِ: الْإِيمَانُ بِهِ وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ ﷺ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النِّسَاءِ: ١٣٦].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [التَّغَابُنِ: ٨].
٢- وَمِنْهَا تَوْقِيرُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَتَوْقِيرُ سُنَّتِهِ ﷺ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الْفَتْحِ: ٨-٩].
وَأَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٥٧].
٣- وَمِنْهَا طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، وَالِاسْتِجَابَةُ وَالِامْتِثَالُ لِشَرْعِهِ؛ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا طَاعَتَهُ ﷺ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [التَّغَابُنِ: ١٢].
وَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ طَاعَةَ النَّبِيِّ ﷺ هِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهُمَا قَرِينَتَانِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النِّسَاءِ: ٨٠].
٤- وَمِنْهَا مُتَابَعَتُهُ وَتَرَسُّمُ خُطَاهُ وَتَطْبِيقُ سُنَّتِهِ؛ فَهُوَ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ الْحَسَنَةُ، وَالنَّمُوذَجُ الْكَامِلُ الْجَدِيرُ بِالْمُتَابَعَةِ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الْأَحْزَابِ: ٢١].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الْحَشْرِ: ٧].
٥- وَمِنْهَا نَشْرُ سُنَّتِهِ وَالذَّبُّ عَنْهَا وَالْغَيْرَةُ عَلَيْهَا، وَلَا يَكُونُ ذٰلِكَ بِالشِّعَارَاتِ، وَإِنَّمَا بِالْأَفْعَالِ وَالِاقْتِدَاءِ وَالْمُتَابَعَةِ.
وَمِنَ الصُّوَرِ الْمُقْتَرَحَةِ لِنَشْرِ السُّنَّةِ:
* اسْتِغْلَالُ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ وَنَشْرُ الْأَحَادِيثِ.
* تَعْلِيمُ النَّاسِ السُّنَنَ الْمَهْجُورَةَ، انْشُرْ كُلَّ يَوْمٍ سُنَّةً مَنْسِيَّةً.
٦- وَمِنْهَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ ﷺ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ ذٰلِكَ:
فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ؛ حَيْثُ قَالَ جَلَّ فِي عُلَاهُ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الْأَحْزَابِ: ٥٦].
* وَاعْلَمْ أَنَّهَا قُرْبَةٌ جَلِيلَةٌ، وَلَهَا فَضَائِلُ عَظِيمَةٌ، فَهِيَ سَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ وَزَوَالِ الْهُمُومِ، وَهِيَ سَبَبٌ لِثَنَاءِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ، وَهِيَ سَبَبٌ لِشَفَاعَتِهِ ﷺ، وَلَهَا أَوْقَاتٌ وَأَحْوَالٌ يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا؛ مِثْلُ: يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَعَقِبِ الْأَذَانِ، وَقَبْلَ الدُّعَاءِ وَبَعْدَهُ، وَعِنْدَ ذِكْرِ أَوْ سَمَاعِ اسْمِهِ الشَّرِيفِ ﷺ.
الدُّعَاءِ
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ
وَأَقُمْ الصَّلَاةُ