الورع


بقلم الشيخ : أحمد عزت حسن

الباحث فى الشريعة الإسلامية

١- الورع ذلك الخلق العظيم من أخلاق هذا الدين العظيم؛ به يطيب المطعم والمشرب …. فيه استبراء للدين والعرض …… مع سمة من سمات العُبّاد، وصفة من صفات أهل الفضل والشرف ….. إنه الوَرَع.

الورع مصطلح من منا لم يسمع عنه؟ ومن منا لم يطرق سمعه؟ إن من يقرأ في سير السلف أو يستمع إلى وصاياهم أو يدرس سيرهم لا بد أن تتكرر هذه الكلمة على سمعه كثيرًا، ويرى وهو يقرأ أنه يتحدث عن قضية تاريخية أصبح بيننا وبينها حِجرًا محجورًا، وحين نقرأ سير السلف وأخبارهم في الورع والزهد والرقائق فإننا قد نحكم على تلك الروايات بالضعف والبطلان، وتارة نتهم من روي عنهم بالمبالغة والتشدد، وأخرى نتهم الراوي بالغلط والخطأ، وقد يكون شيء من ذلك صحيحًا، لكننا نادرًا ما نتهم أنفسنا وأنها لم تَرْقُ إلى إدراك هذه المعاني، وأن قلوبنا لم تَصْفُ لترى أن ما عليه أولئك هو الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأن ما عليه أولئك هو هدي النبي -ﷺ- والسلف السابقين.

تعريف الورع
الورع لغة هو: التَّـقْوَى، والتَّحَرُّج، والكَفُّ عن المحارِم والمكروهات. كما جاء في لسان العرب لابن منظور 
أما في الاصطلاح، فهو “اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرمات.” كما في التعريفات للجرجاني.

ويُعرف الورع بأنه ترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، أو ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك. أو هو ترك ما فيه شبهة خوفًا من الوقوع في الحرام. وقال ابن القيم في (الفوائد): “الورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة”، وأوضح -ابن القيم- الفرق بين الورع والزهد فقال: “أنَّ الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة. والورع ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة”.

الورع -معشر الإخوة الكرام- مصطلح نبوي شرعي؛ فقد ثبت عن النبي -ﷺ- -فيما رواه البيهقي- في وصيته لأبي هريرة رضي الله عنه: “كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلمًا، وأَقِلّ الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب”. وروى البزار والحاكم والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة رضي الله عنه، ورواه الحاكم أيضًا من حديث سعد أنه ﷺ قال: “فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة وخير دينكم الورع”.

ففي هذه النصوص الصحيحة عنه ﷺ أطلق ﷺ فيها هذا اللفظ وهذا المصطلح، فهو إذن مصطلح شرعي نبوي، وإن كان ليس من شروط هذه المصطلحات أن ترد بنصها عن النبي ﷺ، فما دام المصطلح لا يعارض النصوص الشرعية فلا مشاحة في الاصطلاح.

أما الأدلة له على معنى الورع دون لفظه فهي أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، ومنها الحديث العظيم الجامع الذي جعله جمعٌ من أهل العلم أحد الدعائم التي يقوم عليها الإسلام، وهو حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله ﷺ يقول :”إن الحلال بيّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه” الحديث مشهور في كتب السنة بروايات عدة، وهو قاعدة في التورع مما يشتبه منه، مع أن معنى الورع -كما سيأتي- يأخذ مدى أكبر من هذا المدى ودائرة أوسع من هذه الدائرة، والتورع عن المشتبهات والبعد عنها ليس إلا بابًا من أبواب الورع.

ومن الأدلة في هذا المعنى حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “البر حسن الخلق، والإثم ما حاك صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس” رواه مسلم.

وحين جاء وابصة بن معبد إلى النبي ﷺ فقال له ﷺ “جئت تسأل عن البر” ، فقال: نعم ، قال له ﷺ: “استفت قلبك؛ البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك” رواه أحمد والدارمي، وله شاهد عند الإمام أحمد من حديث ثعلبة.

وهذا الحديث فيه إيماء وإشارة إلى تلك الحساسية المرهفة التي يملكها عباد الله الصالحون؛ فصارت نفوسهم تطمئن إلى البر وترتاح إليه، وصارت نفوسهم تأنف من المعصية وإن أفتاها الناس وأفتوها، ولا شك أن هذا الحديث مع ما فيه من الدلالة على الأمر بالتورع مما حاك في الصدر وإتيان ما اطمأنت إليه النفس، فهو إشارة إلى حال الصالحين وحال قلوبهم التي ترى بنور الله سبحانه وتعالى؛ فتطمئن هذه القلوب للبر والهدى والتقى والصلاح، وتشعر باشمئزاز ونفور وتردد من الإثم وأسبابه، ولو أفتاها الناس، وهذا المقياس في مسألة البر والإثم ليس إلا لعباد الله الصادقين، بل لعله أن يكون أمارة نختبر بها قلوبنا؛ فإن كانت تطمئن للبر والصلاح والتقوى وتشمئز من المعصية والسيئة وتنفر منها فهي قلوب صالحة بإذن الله، وإن كانت دون ذلك فهي بحاجة إلى تزكية وإصلاح، وهو ليس خطابًا للمعرضين الذين علا الران على قلوبهم، فأصبحت نفوسهم مأسورة بهواها وشهواتها، فقلبه ونفسه إنما تطمئن لمعصية الله سبحانه وتعالى وإيذاء عباده المؤمنين المتقنين، بل كم من الناس انقلبت الموازين لديه فأصبحت السيئة حسنة والحسنة سيئة.

إذن فهذا المقياس إنما هو لأولئك الصالحين الذين توجهت قلوبهم لله سبحانه وتعالى فأصبح القلب لا يحب إلا لله ولا يبغض إلا لله سبحانه وتعالى، ولا يتوجه إلا لله، وقبلته إلى الله عز وجل لا يفارقها؛ فكما أنه يستقبل القبلة في صلاته ويقف بين يدي الله عز وجل كل يوم خمس مرات فقلبه إنما قبلته لله لا يمكن أبداً أن يستقر في قلبه محبة غير الله أو التوجه له، أو أن يكون فيه إرادة تخالف أمر الله سبحانه وتعالى وشرعه، لهذا ارتقت هذه النفوس إلى هذا القدر فصارت تطمئن للبر وتشمئز من الإثم؛ فمنحها الله عز وجل هذا النور وهذا الفرقان وفي آية أخرى(يا أيها الذين آمنوا إن تتقو الله يجعل لكم فرقانًا ويكفر عنكم سيئاتكم ويجعل لكم نورا تمشون به…)