خطبة الجمعة بعنوان( إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها ) للشيخ ياسر عبدالبديع

خطبة الجمعة بعنوان( إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها )
للشيخ :  ياسر عبدالبديع

بتاريخ / 28 من صفر 1447 هجرية
22 من أغسطس 2025 م

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ

سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها

العُنْصُرُ الأَوَّلُ: مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالنَّخْلَةِ

لَمْ تَحْظَ شَجَرَةٌ فِي الذِّكْرِ بِمَا حَظِيَتْ بِهِ النَّخْلَةُ، فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ فِي الذِّهْنِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ قَبْلَ الإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، وَهِيَ حَاضِرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَذُكِرَتْ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مَرَّةً، وَأَمَّا الأَحَادِيثُ فَقَدْ وَرَدَتْ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثِمِائَةِ مَرَّةٍ، وَهَذَا احْتِفَاءٌ ظَاهِرٌ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ، لأَنَّهَا تَرْمُزُ لِلْعَطَاءِ وَالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَمِنْ صُوَرِ وُرُودِهَا فِي السُّنَّةِ وُرُودُهَا مَضْرِبَ مَثَلٍ لِلْمُؤْمِنِ وَبَرَكَتِهِ، وَاتِّصَالِ مَنَافِعِهِ.

فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ» فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ».

وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ مَرْفُوعًا:
«مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ: لَا تَأْكُلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَلَا تَضَعُ إِلَّا طَيِّبًا».

وَمِنْ وُجُوهِ الشَّبَهِ بَيْنَ النَّخْلَةِ وَالْمُسْلِمِ:
كَثْرَةُ خَيْرِهَا، وَدَوَامُ ظِلِّهَا، وَطِيبُ ثِمَارِهَا، وَوُجُودُهُ عَلَى الدَّوَامِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ حِينَ يَطْلُعُ ثِمَارُهَا لَا يَزَالُ يُؤْكَلُ مِنْهُ حَتَّى يَيْبَسَ، وَيُتَّخَذَ مِنْهُ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ؛ وَمِنْ خَشَبِهَا وَوَرَقِهَا وَأَغْصَانِهَا، فَتُسْتَعْمَلُ جُذُوعًا وَحَطَبًا وَعِصِيًّا وَمَخَاصِرَ وَحُصُرًا وَحِبَالًا وَأَوَانِيَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، ثُمَّ آخِرُ شَيْءٍ مِنْهَا نَوَاهَا فَيُنْتَفَعُ بِهِ عَلَفًا لِلْإِبِلِ، ثُمَّ جَمَالُ نَبَاتِهَا وَحُسْنُ هَيْئَةِ ثَمَرِهَا، فَهِيَ مَنَافِعُ كُلُّهَا وَخَيْرٌ وَجَمَالٌ. كَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ خَيْرٌ كُلُّهُ مِنْ كَثْرَةِ طَاعَاتِهِ وَمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ، فَيُوَاظِبُ عَلَى صَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَقِرَاءَتِهِ وَذِكْرِهِ وَصَدَقَتِهِ وَصِلَتِهِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ دَائِمٌ كَمَا تَدُومُ أَوْرَاقُ النَّخْلَةِ فِيهَا. فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي وَجْهِ التَّشْبِيهِ.

وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ أُتِيَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ:
«إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ».

وَمِنْ وُجُوهِ الشَّبَهِ بَيْنَ بَرَكَةِ النَّخْلَةِ وَبَرَكَةِ الْمُؤْمِنِ:

أَنَّ بَرَكَةَ النَّخْلَةِ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا، مُسْتَمِرَّةٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا، فَمِنْ حِينَ تَطْلُعُ إِلَى أَنْ تَيْبَسَ تُؤْكَلُ أَنْوَاعًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُنْتَفَعُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، حَتَّى النَّوَى فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ، وَاللِّيفِ فِي الْحِبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ بَرَكَةُ الْمُسْلِمِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، وَنَفْعُهُ مُسْتَمِرٌّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ حَتَّى بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَمِنْ جَوَانِبِ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ فِي الْحَدِيثِ:

أَنَّ النَّخْلَةَ عَصِيَّةٌ عَلَى كُلِّ التَّغَيُّرَاتِ الْمُنَاخِيَّةِ، ثَابِتَةٌ أَمَامَ الرِّيَاحِ الْعَاتِيَةِ، وَهِيَ مَعَ كُلِّ هَذَا مُثْمِرَةٌ نَافِعَةٌ، وَمَا تَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَاتِ الرِّعَايَةِ وَالِاسْتِنْبَاتِ لَا يَكَادُ يُذْكَرُ أَمَامَ مَا تُقَدِّمُهُ مِنْ مَنَافِعَ لِلْبَشَرِ، وَكَذَلِكَ حَالُ الْمُؤْمِنِ ثَابِتٌ رَغْمَ الْفِتَنِ، خَيْرُهُ الَّذِي يَصِلُ لِلْخَلْقِ لَا تُخْطِئُهُ الْعَيْنُ، وَلَيْسَ لَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ النَّخْلَةِ وَالْمُؤْمِنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَصْلَ دِينِ الْمُسْلِمِ ثَابِتٌ، وَأَنَّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الْعُلُومِ وَالْخَيْرِ قُوتٌ لِلأَرْوَاحِ مُسْتَطَابٌ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ مَسْتُورًا بِدِينِهِ، وَأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِكُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ حَيًّا وَمَيِّتًا. اِنْتَهَى. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ فَرْعِ الْمُؤْمِنِ فِي السَّمَاءِ رَفْعُ عَمَلِهِ وَقَبُولُهُ.

وَشَبَّهَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّخْلَةَ بِالْمُسْلِمِ، كَمَا شَبَّهَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَضَرَبَ بِهَا الْمَثَلَ لِلنَّاسِ، كَمَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقِنَاعٍ فِيهِ رُطَبٌ، فَقَالَ: «مَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ».

وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ، لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَلَا يَتَحَاتُّ» فَقَالَ الْقَوْمُ: هِيَ شَجَرَةُ كَذَا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: النَّخْلَةُ، وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ، فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ».

وَمِنْ وُجُوهِ الْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ فِي الْحَدِيثِ:

أَنَّ فِيهِ الإِشَارَةَ إِلَى اتِّصَالِ نَسْلِ الْمُؤْمِنِ، كَاتِّصَالِ بَقَاءِ النَّخْلَةِ؛ إِذْ إِنَّهَا تَحْمِلُ نَوَاةَ ابْنَتِهَا دَاخِلَ ثَمَرِهَا، وَهَكَذَا هِيَ تُكَافِحُ لِأَجْلِ الْبَقَاءِ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ فِي دَاخِلِهِ مَادَّةُ التَّنَاسُلِ، وَنُطْفَةُ الْبُنُوَّةِ الَّتِي تُعْقِبُهُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ الَّتِي قَضَتْ بِبَقَاءِ النَّوْعِ الإِنْسَانِيِّ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ الدُّنْيَا.

و فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَرَبَ هَذَا مَثَلًا يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّهُ يُرَغِّبُ الإِنْسَانَ فِي ابْتِغَاءِ الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْقِيَاسِ يُشْبِهُ بِالشَّجَرَةِ الَّتِي تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، مِنْ ثِمَارِهَا الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا النَّاسُ، وَظِلِّهَا الَّذِي يَصُدُّ عَنْهُمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَيَجِدُونَ رَوْحَهُ، وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ خُوصِهَا وَجَرِيدِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهَا مُعَرَّضَةٌ لِأَنْ تُثْمِرَ ثَمَرَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى مَا هُوَ أَصْلٌ لِمِثْلِهَا؛ فَلَوْ قُدِّرَ مُقَدِّرٌ أَنَّهُ قَدْ غَرَسَ نَوَى ثَمَرَةِ هَذِهِ النَّخْلَةِ غَارِسٌ مِنْ وَقْتِ حَمْلِهَا إِلَى آخِرِ بَقَائِهَا، ثُمَّ غَرَسَ مَا تُثْمِرُهُ كُلُّ نَخْلَةٍ تَنْبُتُ مِنْ ذَلِكَ النَّوَى، وَامْتَدَّ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِهِ قَدْرُ الثَّوَابِ فِي ابْتِغَاءِ الْوَلَدِ الَّذِي يُولَدُ لَهُ، ثُمَّ يُولَدُ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ، هَكَذَا مَا تَنَاسَلُوا حَتَّى تَكُونَ سُنَّةُ الأُمَّةِ الْعَظِيمَةِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «شَجَرَةٌ مَثَلُهَا مَثَلُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ».

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وُجُوهًا لِلْمَثَلِ الْمَضْرُوبِ فِي الْحَدِيثِ لَمْ يَرْتَضِهَا آخَرُونَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَوْقِعَ التَّشْبِيهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ النَّخْلَةِ إِذَا قُطِعَ رَأْسُهَا مَاتَتْ، أَوْ أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ حَتَّى تُلَقَّحَ، أَوْ أَنَّهَا إِذَا غَرِقَتْ مَاتَتْ، أَوْ أَنَّ لِطَلْعِهَا رَائِحَةً كَمَنِيِّ الآدَمِيِّ، أَوْ أَنَّهَا تَعْشَقُ فَكُلُّهَا أَوْجُهٌ ضَعِيفَةٌ، إِذْ كُلُّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ فِي الآدَمِيِّينَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ، وَأَضْعَفُ مِنْهُ زَعْمُ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ فَضْلَةِ طِينَةِ آدَمَ، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ لَمْ يَثْبُتْ، وَفِيهِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهُ نَظِيرَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الْجَمَادِ وَلَا يُعَادِلُهُ.

الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا

اَلتَّعَاوُنُ هُوَ مُسَاعَدَةُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي الْحَاجَاتِ وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَهُوَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ، وَفِطْرَةٌ فَطَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلْقَهُ عَلَيْهَا، وَمَصْلَحَةُ النَّفْسِ وَالنَّاسِ وَالْمُجْتَمَعِ وَالأُمَّةِ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (الْمَائِدَةُ: 2).

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَهُوَ أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، أَيْ: لِيُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَتَحَاثُّوا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاعْمَلُوا بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَامْتَنِعُوا مِنْهُ». وَقَالَ السَّعْدِيُّ: «الإِعَانَةُ هِيَ: الإِتْيَانُ بِكُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِهَا، وَالِامْتِنَاعُ عَنْ كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الشَّرِّ الْمَأْمُورِ بِتَرْكِهَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِهَا بِنَفْسِهِ، وَبِمُعَاوَنَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهَا مِنْ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِكُلِّ قَوْلٍ يَبْعَثُ عَلَيْهَا، وَبِكُلِّ فِعْلٍ كَذَلِكَ».

وَلَمَّا كَانَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاجِبًا شَرْعِيًّا وَضَرُورَةً اجْتِمَاعِيَّةً، فَقَدِ اهْتَمَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبِنَاءِ الْفَرْدِ الْمُسْلِمِ وَتَرْبِيَتِهِ عَلَيْهِ.

فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: «تَعَاوُنُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ». وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «الْمُعَاوَنَةُ فِي أُمُورِ الآخِرَةِ، وَكَذَا فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ مِنَ الدُّنْيَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا». وَقَالَ ابْنُ عُثَيْمِين: «وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ كُلُّ إِنْسَانٍ أَنَّهُ لَبِنَةٌ فِي سُورِ قَصْرٍ مَعَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا».

وَمِنْ وَصَايَا النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى التَّعَاوُنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ إِخْوَانِهِ وَأَفْرَادِ مُجْتَمَعِهِ، قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«كُلُّ سُلَامَى (عَظْمٍ فِي الْجِسْمِ) عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ يُعِينُ الرَّجُلُ فِي دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ»، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ». قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

بَلْ وَأَوْصَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِعَانَةِ الْعَبِيدِ، أَوْ مَنْ اسْتَأْجَرْنَاهُمْ وَكَلَّفْنَاهُمْ بِعَمَلٍ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ (الْخَدَمُ)، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَنَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ عُلُوِّ قَدْرِهِ وَمَنْزِلَتِهِ، كَانَ الْمَثَلَ الأَعْلَى فِي التَّعَاوُنِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي دَاخِلِ بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ، أَوْ مَعَ أَصْحَابِهِ وَمُجْتَمَعِهِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ، وَالسِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ زَاخِرَةٌ بِالأَمْثِلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ.

التَّعَاوُنُ وَالْمُشَارَكَةُ النَّبَوِيَّةُ مَعَ أَهْلِهِ فِي بَيْتِهِ:
عَنِ الأَسْوَدِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: مَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ ـ تَعْنِي فِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ ـ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ».

وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: يَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، وَيَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ الرِّجَالُ فِي بُيُوتِهِمْ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

وَإِذَا كَانَ التَّعَاوُنُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا بَيْنَ الزَّوْجِ وَزَوْجَتِهِ مَطْلُوبًا وَمَنْدُوبًا إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ التَّعَاوُنُ بَيْنَهُمَا عَلَى أُمُورِ الآخِرَةِ مَطْلُوبٌ وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ أَحْرَى وَأَوْلَى، وَلِذَلِكَ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، فَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

الْعُنْصُرُ الثَّانِي: عَلَامَاتُ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ

فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ – وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: غَيْرَكَ – قَالَ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، فَاسْتَقِمْ». وَفِي رِوَايَةٍ: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ».

قُلْتُ: وَالْمُتَأَمِّلُ فِي الْحَدِيثِ لِمَقْصُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى يُدْرِكُ أَنَّ صِدْقَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ لَا يَكُونُ قَوْلًا بِاللِّسَانِ فَقَطْ، بَلْ وَبِالْيَقِينِ بِالْقَلْبِ، وَبُرْهَانُ صِدْقِ يَقِينِهِ اسْتِقَامَتُهُ عَلَى الطَّرِيقِ؛ أَيِ: الِالْتِزَامُ بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ – كَمَا عَرَّفَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ – سُلُوكُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، وَيَشْمَلُ ذَلِكَ فِعْلَ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا، الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ كُلَّهَا، الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.

وأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ، وَتَصْدِيقٌ بِالْجَنَانِ، وَلَا يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِالنُّطْقِ بِاللِّسَانِ إِلَّا فِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا؛ مِنْ تَغْسِيلِهِ إِذَا مَاتَ، وَتَكْفِينِهِ، وَدَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي كُفْرَهُ، وَأَمَّا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَعْنَاهَا (لَا مَعْبُودَ حَقٌّ إِلَّا اللَّهُ)، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْقَوْلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْمَعْنَى، وَالْعَمَلِ بِالْمُقْتَضَى؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾ [الْحَجِّ: ٦٢].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [الْبَيِّنَةِ: ٥].

وَجَدِيرٌ بِالْأُمَّةِ أَنْ يَكُونَ هَدْيُ نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِبْرَاسًا يُضِيءُ لَهُمْ طَرِيقَهُمُ الْمَلِيءَ بِالشَّهَوَاتِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْفِتَنِ الَّتِي تَعْصِفُ بِهِمْ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ لَا شَاطِئَ لَهُ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبِّي مِنْهُمْ، وَهَدَاهُ – بِالْعَمَلِ بِهَدْيِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ هَوَاهُ يَصُدُّهُ عَنِ الْحَقِّ.

وَبَادِئَ ذِي بَدْءٍ نَقُولُ: الْكَثِيرُ مِنَّا يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِاللَّهِ تَعَالَى قَوْلًا بِاللِّسَانِ، وَلَا تَرَى فِي حَيَاتِهِ الْتِزَامًا بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَهُمَا الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ السَّاطِعُ لِاسْتِقَامَتِهِ عَلَى طَرِيقِ الرَّشَادِ حَقًّا.

وَإِنَّنَا لَا نَشُكُّ الْبَتَّةَ أَنَّ الْمُسْلِمَ مِنَّا قَدْ آمَنَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا.

وَلَا نَشُكُّ الْبَتَّةَ – وَحَاشَا لِلَّهِ – أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الرَّبُّ الْجَلِيلُ، وَهُوَ الْعَبْدُ الذَّلِيلُ، وَأَنَّ اللَّهَ – جَلَّ فِي عُلَاهُ – الْخَالِقُ الْبَارِي، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَيُؤْمِنُ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، فَكُلُّ هَذَا وَغَيْرُهُ لَا شَكَّ فِي إِدْرَاكِ الْمُسْلِمِ لَهُ، وَيَنْطِقُ بِهَا لِسَانُهُ حَقًّا، وَلَكِنْ…

هَلِ الْمُسْلِمُ مِنَّا مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ تَعَالَى بِصِدْقٍ؛ أَيْ: عَمَلًا بِالْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ، لَا قَوْلًا بِاللِّسَانِ وَالْكَلِمَاتِ فَقَطْ؟!

هَلْ نَحْنُ مُؤْمِنُونَ حَقًّا بِاللَّهِ تَعَالَى وَلَا نَخَافُ وَلَا نَخْشَى إِلَّا إِيَّاهُ – جَلَّ فِي عُلَاهُ؟

أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَكْثَرَ بَيَانًا وَتَوْضِيحًا: هَلْ يَسْتَشْعِرُ الْمُسْلِمُ مِنَّا عَظَمَةَ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، وَيَسْتَقِيمُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ؟

وَهَلْ يَسْتَشْعِرُ حَقِيقَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ – جَلَّ فِي عُلَاهُ – فِي عَلَاقَتِهِ مَعَ عِبَادِ اللَّهِ؟

إِنَّ فِي هَدْيِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْبِيقًا عَمَلِيًّا لِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ دُونَ تَعَارُضٍ بَيْنَهُمَا، وَحَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ – جَلَّ فِي عُلَاهُ – فِي أَسْمَى صُوَرِهَا، وَكَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فَلْيَتَأَمَّلِ الْمُسْلِمُ بِعَقْلِهِ وَقَلْبِهِ مَا نَطْرَحُهُ هُنَا مِنْ هَدْيِ نَبِيِّنَا فِي صِدْقِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى، بِالْقَوْلِ بِاللِّسَانِ، وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ، ثُمَّ يُجِيبَ عَنْ نَفْسِهِ بِكُلِّ صَرَاحَةٍ وَوُضُوحٍ: هَلْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ حَقًّا وَصِدْقًا أَوْ أَنَّهُ قَدْ حَادَ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ؟

النَّبِيُّ يَشْهَدُ لِجَارِيَةٍ بِالْإِيمَانِ:

فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجُوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّئْبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: ((ائْتِنِي بِهَا))، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: ((أَيْنَ اللَّهُ؟)) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: ((مَنْ أَنَا؟))، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: ((أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)).

وَمِمَّا لَا يَغِيبُ عَنْ فِطْنَةِ الْمُسْلِمِ اللَّبِيبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ حَقًّا وَصِدْقًا، وَلَيْسَ مَجَرَّدَ قَوْلٍ بِاللِّسَانِ، كَمَا هُوَ لِسَانُ حَالِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبِّي؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النَّجْمِ: ٣، ٤].

وَقُلْتُ: وَهَذِهِ الْجَارِيَةُ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، لَمْ تَكُنْ مُؤْمِنَةً كَرِجَالٍ وَنِسَاءِ هَذَا الْعَصْرِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبِّي، فَجَمِيعًا نَقُولُ: “اللَّهُ فِي السَّمَاءِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ” جَهَارًا نَهَارًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، قَوْلًا بِاللِّسَانِ دُونَ بَيِّنَةٍ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْمَقُولَةِ بِالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهِيَ تُشْبِهُ عَيْنَ مَا قَالَهُ الْمُرْجِئَةُ قَدِيمًا: إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ نُطْقُ اللِّسَانِ بِالتَّوْحِيدِ، مُجَرَّدًا عَنْ عَقْدِ قَلْبٍ، وَعَمَلِ جَوَارِحَ.

وَلَكِنْ – قَطْعًا – الْإِيمَانُ الْحَقِيقِيُّ الصَّادِقُ لِلْجَارِيَةِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُ لَهَا بِالْإِيمَانِ، كَمَا لَا يَخْفَى.

وَمِنْ ثَمَّ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنِ اعْتِقَادٍ بِالْقَلْبِ بِأَرْكَانِ الْإِيمَانِ دُونَ عَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ – إِيمَانٌ غَيْرُ صَادِقٍ وَغَيْرُ مُكْتَمِلٍ، وَيُخْشَى عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، وَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الْكَهْفِ: ١٠٤، ١٠٥].

يَقُولُ السَّعْدِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي تَفْسِيرِهَا: “أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ – عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ وَالْإِنْذَارِ -: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِأَخْسَرِ النَّاسِ أَعْمَالًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؟ ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الْكَهْفِ: ١٠٤]؛ أَيْ: بَطَلَ وَاضْمَحَلَّ كُلُّ مَا عَمِلُوهُ مِنْ عَمَلٍ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ فِي صُنْعِهِ، فَكَيْفَ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْلَمُونَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَأَنَّهَا مُحَادَّةٌ لِلَّهِ وَرُسُلِهِ وَمُعَادَاةٌ؟، فَمَنْ هُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَسِرَتْ أَعْمَالُهُمْ؛ فَـ: ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزُّمَرِ: ١٥]؟

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ﴾ [الْكَهْفِ: ١٠٥]؛ أَيْ: جَحَدُوا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ، وَالْآيَاتِ الْعِيَانِيَّةَ، الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَرُسُلِهِ، وَكُتُبِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.

﴿فَحَبِطَتْ﴾ بِسَبَبِ ذَلِكَ ﴿أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الْكَهْفِ: ١٠٥]؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فَائِدَتُهُ مُقَابَلَةُ الْحَسَنَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ، وَالنَّظَرُ فِي الرَّاجِحِ مِنْهَا وَالْمَرْجُوحِ، وَهَؤُلَاءِ لَا حَسَنَاتَ لَهُمْ؛ لِعَدَمِ شَرْطِهَا، وَهُوَ الْإِيمَانُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ [طه: ١١٢]، لَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ وَتُحْصَى، وَيُقَرَّرُونَ بِهَا، وَيُخْزَوْنَ بِهَا عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ، ثُمَّ يُعَذَّبُونَ عَلَيْهَا”.

صُوَرٌ مِنْ صِدْقِ الْإِيمَانِ وَمِنْ هَدْيِ الْحَبِيبِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ لَنَا جَمِيعًا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الْأَحْزَابِ: 21].

مِنْ صُوَرِ صِدْقِ الْإِيمَانِ: قِيَامُ اللَّيْلِ:

كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَبَّدُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَيُطِيلُ الْقِيَامَ حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ:
«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فَقَالَ: ((أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا))».

فَكَمَا نَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشْعِرُ حَقِيقَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ فِي الصَّلَاةِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ عِبَادَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى؛ فَنَحْنُ نَفْتَقِرُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ عِبَادِهِ.

وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ: أَنَّهُ حَثَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى الْقِيَامِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ:
((يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ)).

وَمِمَّا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ هُنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ مَحَاسِنِ أَهْلِ الْإِيمَانِ الْقِيَامَ لَهُ – جَلَّ فِي عُلَاهُ – فِي الظُّلَمِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ:
﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذَّارِيَاتِ: 17].

قَالَ السَّعْدِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: “أَيْ: الْمُحْسِنُونَ، ﴿ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذَّارِيَاتِ: 17]؛ أَيْ: كَانَ هُجُوعُهُمْ؛ أَيْ: نَوْمُهُمْ بِاللَّيْلِ، قَلِيلًا، وَأَمَّا أَكْثَرُ اللَّيْلِ فَإِنَّهُمْ قَانِتُونَ لِرَبِّهِمْ، مَا بَيْنَ صَلَاةٍ، وَقِرَاءَةٍ، وَذِكْرٍ، وَدُعَاءٍ، وَتَضَرُّعٍ”.

قُلْتُ: وَقِيَامُ اللَّيْلِ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ، وَبَيَانٌ لِعُبُودِيَّةِ الْإِنْسَانِ لِلْخَالِقِ – جَلَّ فِي عُلَاهُ – وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ لِتَنْشِيطِ الْجِسْمِ وَسَلَامَتِهِ مَا لَا يَغِيبُ عَنِ الْعُقَلَاءِ.

يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: “كَذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ مِنْ أَنْفَعِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصِّحَّةِ، وَمِنْ أَمْنَعِ الْأُمُورِ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ، وَمِنْ أَنْشَطِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ وَالرُّوحِ وَالْقَلْبِ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
((يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنْ هُوَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ثَانِيَةٌ، فَإِنْ صَلَّى، انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ)).

فَنَحْنُ إِنْ أَرَدْنَا اسْتِشْعَارَ حَقِيقَةِ عُبُودِيَّتِنَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلْيَكُنِ الْقِيَامُ غَايَةً وَوَسِيلَةً، وَالْبُعْدُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالتَّفَاخُرِ وَالْكِبْرِ؛ لِأَنَّهُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ.

وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ:
((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)).

مِن صُوَرِ صِدْقِ الْإِيمَانِ: الْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ:

وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).

وَإِنَّ مِنْ صُوَرِ صِدْقِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ لِمَنْ عَمِلَ بِهَا حَقًّا، وَهِيَ:
((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ)).

فَأَذَى الْجَارِ حَاصِلٌ فِي زَمَانِنَا هَذَا بَيْنَ الْكَثِيرِ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ؛ فَالْغَالِبُ بَيْنَ الْجَارِ الْمُسْلِمِ وَجَارِهِ – إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبِّي – إِنْ رَأَى مِنْهُ حَسَنَةً كَتَمَهَا، وَإِنْ رَأَى مِنْهُ سَيِّئَةً أَذَاعَهَا؛ لِيَفْضَحَهُ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ شَمَاتَةً فِيهِ.

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَذِّرُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ نَافِيًا صِحَّةَ الْإِيمَانِ عَمَّنْ يُؤْذِي جَارَهُ، فَيَقُولُ:
((وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ))، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)).

فَهَلْ بَعْدَ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامٌ يُقَالُ؟ وَكَيْفَ يَتَّبِعُ مَنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ الْهَوَى وَهُوَ يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وَيُؤْذِي جَارَهُ وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ؟!

وَأَيْنَ مَنْ يَتْرُكُونَ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَغَيْرَهَا مِنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى وَتَحْذِيرِهِ لَهُمْ فِي آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [الْأَنْفَال: ٢٠ – ٢٢].

وَبَعْدَ أَنْ أَدْرَكْنَا هَدْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِيمَانِ الصَّادِقِ بِمَا طَرَحْنَا مِنْ أَمْثِلَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، وَعَلِمْنَا حَقِيقَةَ الدَّاءِ، وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالنُّطْقِ بِاللِّسَانِ دُونَ يَقِينٍ وَصِدْقٍ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَالِالْتِزَامُ بِتَعَالِيمِ الشَّرِيعَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَفِي يَقِينِي أَنَّ الْعَبْدَ مِنَّا لَنْ يَسْتَشْعِرَ حَقِيقَةَ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى إِلَّا إِذَا صَدَقَ فِي عَزْمِهِ عَلَى الْمَضِيِّ قُدُمًا فِي طَرِيقِ التَّرَقِّي وَالسُّمُوِّ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ قَطْعًا لَيْسَ طَرِيقًا هَيِّنًا مَفْرُوشًا بِالْوُرُودِ، بَلْ طَرِيقٌ شَاقٌّ وَمُرْهِقٌ يُخَالِفُ الْهَوَى وَالنَّفْسَ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ

وَهُنَاكَ عَلَامَاتٌ يُعْرَفُ بِهَا الْإِنْسَانُ مَدَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ، مِنْهَا:

١- تَقْدِيمُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى مَا تُحِبُّهُ نَفْسُهُ وَهَوَاهَا.

٢- بَذْلُ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْغَالِي وَالرَّخِيصِ مِنْ أَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى.

٣- حُبُّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَعَدَاوَةُ مَنْ يُبْغِضُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَكْفُرُ بِهِمَا.

٤- الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَعَدَمُ وُجُودِ الضِّيقِ أَوِ الْحَرَجِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ.

٥- الْمُسَارَعَةُ وَالْمُسَابَقَةُ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَالْكَفُّ عَنِ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ.

٦- الطُّمَأْنِينَةُ وَالِانْشِرَاحُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٨].
وَقَالَ تَعَالَى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٢ – ٤].

٧- الْيَقِينُ فِي اللَّهِ وَالِاعْتِصَامُ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الْحُجُرَاتِ: ١٥].

٨- السُّرُورُ بِفِعْلِ الطَّاعَةِ وَالضِّيقُ عِنْدَ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ))
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

إِنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي تُوَصِّلُ إِلَى الْفَلَاحِ وَالْجَنَّةِ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِلَّا لِمَنْ اتَّصَفَ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَكٌّ بِكُلِّ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِيَكْتَمِلَ سَبَبُ الْفَلَاحِ؛ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ إِيمَانٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، صَفَاءٍ فِي الْبَاطِنِ، وَصَفَاءٍ فِي الظَّاهِرِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ﴾ [الْكَهْفِ: ١٠٧].

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ الْكِرَامُ، وهناك صِّفَاتِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ نَالُوا بِهَا الْفَلَاحَ وَالْفَوْزَ بِالْفِرْدَوْسِ: الصَّلَاةُ الْخَاشِعَةُ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢].

الصَّلَاةُ تِلْكَ الْعِبَادَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي هِيَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، لُبُّهَا الْخُشُوعُ، وَهُوَ الْخَوْفُ الْمُوجِبُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْخُشُوعُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَطْلُوبٌ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا، لَكِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهَا وُقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى.

إِنَّ الْخُشُوعَ عِبَادَةٌ قَلْبِيَّةٌ تَظْهَرُ آثَارُهَا عَلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ؛ فَفِي الصَّلَاةِ يَحْرِصُ الْمُؤْمِنُ الْخَاشِعُ عَلَى إِقَامَتِهَا بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُسْتَحَبَّاتِهَا، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَاضِرَ الْقَلْبِ وَالذِّهْنِ بَيْنَ يَدَيِ رَبِّهِ، وَاعِيًا مُتَدَبِّرًا مَا يَقْرَأُ أَوْ يَسْمَعُ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ مُسْتَفِيدًا مِنَ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤٥].

وَمِمَّا يُعِينُ الْمُصَلِّيَ عَلَى الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ: أَنْ يَسْتَحْضِرَ أَنَّهُ بَيْنَ يَدَيِ مَلِكِ الْمُلُوكِ، وَأَنْ يَسْتَشْعِرَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ آخِرَ صَلَاةٍ يُصَلِّيهَا فَلْيُتْقِنْهَا، وَأَنْ يُبْعِدَ عَنْ نَفْسِهِ كُلَّ مَا يُشْغِلُهُ عَنْهَا مِنَ الشَّوَاغِلِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ.

وَلِهَذَا جَاءَ نَهْيُ الشَّرْعِ الْمُصَلِّيَ عَنِ الْإِتْيَانِ إِلَى الصَّلَاةِ مُسْرِعًا، أَوْ تَارِكًا لِطَعَامٍ يَشْتَهِيهِ، أَوْ حَاقِنًا أَوْ حَاقِبًا – يَعْنِي حَابِسًا لِلْبَوْلِ أَوِ الْغَائِطِ –.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)).

وَقَالَ عَلَيْهِ ٱلصَّلَاةُ وَٱلسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ ٱلطَّعَامِ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ ٱلْأَخْبَثَانِ»

فَٱلْخُشُوعَ ٱلْخُشُوعَ – يَا عِبَادَ ٱللَّهِ – تُفْلِحُوا وَتَلْتَذُّوا بِصَلَاتِكُمْ.

عِبَادَ ٱللَّهِ، وَمِنْ هَذِهِ ٱلصِّفَاتِ: ٱلْإِعْرَاضُ عَنِ ٱلْبَاطِلِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [ٱلْمُؤْمِنُونَ: ٣].
وَمِثْلُ هَذِهِ ٱلْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا ٱللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَٰلُكُمْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي ٱلْجَٰهِلِينَ﴾ [ٱلْقَصَصِ: ٥٥].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَٱلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِٱللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [ٱلْفُرْقَانِ: ٧٢].

إِنَّ أَهْلَ ٱلْإِيمَانِ حَرِيصُونَ عَلَىٰ عَدَمِ مُوَاقَعَةِ مَا يَضُرُّ آخِرَتَهُمْ، فَهُمْ مَشْغُولُونَ بِٱللَّهِ عَنْ غَيْرِهِ، مُهْتَمُّونَ بِمَا يَعْنِيهِمْ، وَتَارِكُونَ لِمَا لَا يَعْنِيهِمْ، مُقْبِلُونَ عَلَىٰ شَأْنِهِمْ، فَأَكْثَرُ ٱلنَّاسِ فِي شُؤُونٍ وَهُمْ فِي شَأْنٍ آخَرَ.

فَأَلْسِنَتُهُمْ مَحْفُوظَةٌ عَنِ ٱلسُّوءِ وَٱلْفَحْشَاءِ، وَجَوَارِحُهُمْ مَصُونَةٌ عَنِ ٱلشَّرِّ وَٱلْعُدْوَانِ.
فَعِبَادَةُ ٱللَّهِ تَعَالَى، وَٱلْإِحْسَانُ إِلَى ٱلنَّاسِ، وَتَفْرِيجُ كُرُبَاتِهِمْ مِمَّا يَعْنِيهِمْ.
وَمَعْصِيَةُ ٱللَّهِ تَعَالَى، وَٱلِٱعْتِدَاءُ عَلَى ٱلنَّاسِ، وَٱلِٱنْصِرَافُ إِلَىٰ مَا يُضَيِّعُ ٱلْأَعْمَالَ وَٱلْجُهُودَ وَٱلْأَوْقَاتِ مِمَّا لَا يَعْنِيهِمْ.

قَالَ رَسُولُ ٱللَّهِ صَلَّى ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ ٱلْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».

وَإِنَّ مِمَّا يُعِينُكَ – أَيُّهَا ٱلْمُسْلِمُ – عَلَىٰ تَرْكِ ٱللَّغْوِ:
أَنْ تَعْرِفَ ٱلْغَايَةَ ٱلَّتِي خُلِقْتَ لِأَجْلِهَا، وَٱلنِّهَايَةَ ٱلَّتِي تَنْتَظِرُكَ، فَٱعْمَلْ لَهَا وَٱنْشَغِلْ بِهَا وَلَا تَنْشَغِلْ عَنْهَا.
وَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّ مَا تَعْمَلُهُ مُسَجَّلٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ عَلَيْهِ مُثَابٌ أَوْ مُعَاقَبٌ، فَٱنْظُرْ لِنَفْسِكَ أَيَّ ٱلْأَمْرَيْنِ تَخْتَارُ.

وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَتَزْكِيَةُ الْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ:٤].
إِنَّ الزَّكَاةَ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا اللُّغَوِيِّ تَعْنِي التَّطْهِيرَ، وَالنَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ مَلِيئَةٌ بِالنَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، وَقَدْ كُلِّفَ الْإِنْسَانُ بِإِصْلَاحِهَا وَتَقْوِيمِ عَوَجِهَا، وَضُمِّنَ الْفَلَاحُ لِمَنْ نَجَحَ فِي ذٰلِكَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشَّمْسِ:٩-١٠].
فَالْمُؤْمِنُ يُطَهِّرُ نَفْسَهُ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَفْكَارِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَالْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ، وَيَجْعَلُهَا صَافِيَةً خَالِصَةً مِنْ شَوَائِبِ الرَّذَائِلِ. فَإِذَا فَعَلَ ذٰلِكَ فَقَدْ أَفْلَحَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
إِنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ النَّفْسِيَّةِ الرَّذِيلَةِ: خُلُقَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ، الَّذِي يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ مُقَصِّرًا فِي أَدَاءِ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ؛ وَلِذٰلِكَ شَرَعَ الْإِسْلَامُ زَكَاةَ الْمَالِ؛ لِتَطْهِيرِ النَّفْسِ وَتَطْهِيرِ الْمَالِ.
فَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ مُطَهِّرَةٌ وَأَجْرٌ، وَزِيَادَةٌ وَنَقَاءٌ، فَلَا يَظُنَّ صَاحِبُ الْمَالِ أَنَّ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ نَقْصٌ وَخَسَارَةٌ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ».

فَإِذَا أَرَدْتَ الْفَلَاحَ – أَيُّهَا الْمُسْلِمُ – فَزَكِّ نَفْسَكَ وَزَكِّ مَالَكَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُطِيعَ النَّفْسَ فِي السَّيْرِ وَرَاءَهَا إِلَى أَهْوَائِهَا الْمَحْظُورَةِ، فَمَنْ أَصْلَحَ نَفْسَهُ صَلَحَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتُهُ.

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ الْأَفَاضِلُ، وَمِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ حِفْظُ الْفُرُوجِ عَنِ الْحَرَامِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ:٥] ﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ:٦] ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ:٧].
إِنَّ الرَّغْبَةَ الْجِنْسِيَّةَ فِطْرَةٌ وَطَبِيعَةٌ فِي الْإِنْسَانِ الْبَالِغِ تَطْلُبُ مِنْ صَاحِبِهَا التَّصْرِيفَ وَالْخُرُوجَ، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لَهَا سَبِيلًا صَالِحًا نَظِيفًا نَافِعًا هُوَ الزَّوَاجُ، الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعِفَّةِ وَالسَّعَادَةِ، وَالذُّرِّيَّةِ وَكَثْرَةِ الْأُمَّةِ، وَتَعَارُفِ النَّاسِ وَتَقَارُبِهِمْ، وَصَلَاحِ هَذِهِ الْحَيَاةِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرُّومِ:٢١].
هٰذَا هُوَ الطَّرِيقُ الصَّالِحُ النَّقِيُّ لِتَصْرِيفِ هٰذِهِ الرَّغْبَةِ الْجِبِلِّيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْفَظُ لِلْإِنْسَانِ شَرَفَهُ وَسُمْعَتَهُ الْحَسَنَةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَلَى إِصْلَاحِ عَيْشِهِ.

غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَجُلَسَاءُ الْخَطِيئَةِ عَلَى تَصْرِيفِ الشَّهْوَةِ فِي الزِّنَا أَوِ اللِّوَاطِ أَوِ الْعَادَةِ السِّرِّيَّةِ. وَهٰذِهِ الْمَجَالِسُ الْعَفِنَةُ تَهْدِمُ الدِّينَ، وَتَهُدُّ الْبَدَنَ، وَتُفْسِدُ الْمُجْتَمَعَ، وَتَجْلِبُ الْكَوَارِثَ وَالْمَصَائِبَ عَلَى النَّاسِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا).

إِنَّ الْحَيَاةَ الْمُعَاصِرَةَ بِوَسَائِلِ اتِّصَالِهَا وَإِعْلَامِهَا الْحَدِيثَةِ، وَغِيَابِ إِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَثْرَةِ الْجَهْلِ هٰذِهِ الأُمُورُ وَغَيْرُهَا دَعَتْ بَعْضَ الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ إِلَى الْغَرَقِ فِي مُسْتَنْقَعِ الرَّذِيلَةِ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ بَعْضُهُمْ إِلَّا وَهُوَ غَارِقٌ فِي وَحْلِهَا يَطْلُبُ قَوَارِبَ النَّجَاةِ، بَعْدَ أَنْ بَاعَ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ بِشَهْوَةٍ عَاجِلَةٍ، وَلَذَّةٍ عَابِرَةٍ، وَقَدْ يَخْسَرُ بِهَا الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.

فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ، وَالنَّجَاةَ النَّجَاةَ قَبْلَ الْفَضِيحَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَأَقُولُ: عَلَى الأَزْوَاجِ أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ فِي إِعْفَافِ زَوْجَاتِهِمْ، وَعَلَى النِّسَاءِ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِي إِعْفَافِ أَزْوَاجِهِنَّ، وَعَلَى مَنْ لا يَجِدُ أَنْ يَصْبِرَ وَيَدْعُوَ اللَّهَ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النُّور:33].

عِبَادَ اللَّهِ، وَمِنْ هٰذِهِ الصِّفَاتِ أَدَاءُ الأَمَانَةِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [الْمُؤْمِنُون:8]. الأَمَانَةُ هِيَ كُلُّ حَقٍّ وَجَبَ عَلَى الإِنْسَانِ حِفْظُهُ وَأَدَاؤُهُ لِأَهْلِهِ، فَعِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَمَانَةٌ، وَالْحُكْمُ أَمَانَةٌ، وَالْوَظِيفَةُ أَمَانَةٌ، وَالْحُقُوقُ الزَّوْجِيَّةُ أَمَانَةٌ، وَتَرْبِيَةُ الأَوْلَادِ أَمَانَةٌ، وَرَدُّ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةٌ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ أَمَانَةٌ، وَالأَسْرَارُ الَّتِي يُطْلَبُ كِتْمَانُهَا أَمَانَةٌ، وَالْعِلْمُ أَمَانَةٌ، وَإِيصَالُ الرَّسَائِلِ إِلَى أَهْلِهَا كَمَا هِيَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ. قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النِّسَاءِ:58]

وَالْعُهُودُ حُقُوقٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَأَعْظَمُهَا الْعَهْدُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [الْمَائِدَةِ:1]. وَخَلْفُ الْعُهُودِ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا، إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ ).

وَيَقْرُبُ مِنَ الْعُهُودِ الْوُعُودُ الَّتِي قَطَعَهَا الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، فَمِنَ الْإِيمَانِ وَمِنَ الْكَرَمِ الْوَفَاءُ بِهَا لِأَهْلِهَا، قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ﴾ [مَرْيَم:54]. وَكَثْرَةُ إِخْلَافِ الْوُعُودِ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ).

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْفُضَلَاءُ، وَمِنْ هٰذِهِ الصِّفَاتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَاةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ:9]. وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَاةِ تَعْنِي الِاسْتِمْرَارَ عَلَيْهَا، وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَى إِقَامَتِهَا فِي وَقْتِهَا بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَمُسْتَحَبَّاتِهَا. وَشَأْنُ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ فِي الْمَنْزِلَةِ الْمَرْمُوقَةِ، وَفِي فَضْلِهَا تَنَزَّلَتِ الْآيَاتُ، وَوَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَاتُ، وَجَاءَتِ الْآثَارُ عَنِ الْأَخْيَارِ الْأَبْرَارِ، وَيَكْفِي فِي مَكَانَتِهَا أَنَّهَا الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهَا أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

اَلْعُنْصُرُ اَلثَّالِثُ : إِعْمَالُ اَلْعَقْلِ

فَنِعْمَةُ اَلْعَقْلِ مِنْ أَجَلِّ نِعَمِ اَللَّهِ عَلَى اَلْإِنْسَانِ بَعْدَ اَلْهَدَايَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مُمَيِّزَاتِ تِلْكَ اَلنِّعْمَةِ اَلتَّفَكُّرُ وَالتَّدَبُّرُ فِي مَلَكُوتِ اَللَّهِ وَخَلْقِهِ؛ لِيَسْتَدِلَّ اَلْإِنْسَانُ بِهَذِهِ اَلنِّعْمَةِ عَلَى عَظَمَةِ اَلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ؛ فَيَنْقَادَ طَوْعًا، وَحُبًّا لِهَذَا اَلْخَالِقِ اَلْعَظِيمِ.

وَقَدْ وَرَدَتْ عِدَّةُ آيَاتٍ فِي اَلْقُرْآنِ اَلْكَرِيمِ تُبَيِّنُ هَذِهِ اَلنِّعْمَةَ، وَامْتِنَانَ اَللَّهِ بِهَا عَلَى اَلْإِنْسَانِ؛ فَقَالَ تَعَالَى:

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اَللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ اَلنَّارِ ﴾ [آل عِمْرَانَ: ١٩٠، ١٩١].

وَقَالَ تَعَالَى:

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى اَلسَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى اَلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [اَلْغَاشِيَةِ: ١٧ – ٢٠].

وَقَالَ تَعَالَى:

﴿ يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [اَلْبَقَرَةِ: ٢١، ٢٢].

وَاَلْآيَاتُ كَثِيرَةٌ فِي هٰذَا اَلْبَابِ.

وَكَذٰلِكَ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي اَلسُّنَّةِ اَلنَّبَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ صَلَاةٍ وَأَتَمُّ تَسْلِيمٍ، تَدْعُو إِلَى اَلتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ؛ فَعَنْ اِبْنِ عُمَرَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ:

((كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ – أَوْ: كَالرَّجُلِ اَلْمُسْلِمِ – لَا يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا، وَلَا، وَلَا، وَلَا، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، قَالَ اِبْنُ عُمَرَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا اَلنَّخْلَةُ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَا يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا لَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ اَلنَّخْلَةُ»، فَلَمَّا قُمْنَا، قُلْتُ لِعُمَرَ: يَا أَبَتَاهْ، وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ وَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا اَلنَّخْلَةُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكْلِمَ؟ قَالَ: لَمْ أَرَكُمْ تَكَلَّمُونَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ عُمَرُ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا))؛ (رَوَاهُ اَلْبُخَارِيُّ).

وَقَدْ تَعَدَّدَتْ تَصَارِيفُ العَقْلِ فِي القُرْآنِ، فَمَرَّةً يُنَادِي النَّاسَ إِلَى إِعْمَالِ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ فِطَرُهُمْ وَعُقُولُهُمْ، وَمَرَّةً يُنَادِي أَهْلَ العِلْمِ إِلَى اسْتِخْدَامِ العَقْلِ الكَسْبِيِّ الَّذِي يُصْقِلُهُ العِلْمُ وَالمَنْطِقُ.

العَقْلُ فِي القُرْآنِ :
إِنَّ القَارِئَ لِلقُرْآنِ الكَرِيمِ، لَيُلَاحِظُ تَصَارِيفَ لَفْظِ العَقْلِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الآيَاتِ، نَحْوَ: “يَعْقِلُونَ”، وَ”تَعْقِلُونَ”، وَ”مَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ”، وَ”الألْبَابُ”، وَغَيْرِهَا.

فَجَاءَتْ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ تُبْرِزُ دَوْرَ العَقْلِ فِي فَهْمِ الكَلَامِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يُوسُف: ٢].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البَقَرَة: ٧٥].

وَآيَاتٌ أُخْرَى تُبْرِزُ أَنَّهُ يُسْهِمُ فِي فَهْمِ آيَاتِ الكَوْنِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [النَّحْل: ١٢].

وَنُصُوصٌ أُخْرَى مِنَ الوَحْيِ تُبْرِزُ أَنَّ لَهُ وَظِيفَةَ اخْتِيَارِ النَّافِعِ وَتَرْكِ الضَّارِّ، مِنْهَا قَوْلُهُ:
﴿ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنْعَام: ٣٢].

وَغَيْرُهَا مِنَ الآيَاتِ البَيِّنَاتِ الَّتِي تُبْرِزُهُ وَتَسْتَفِزُّهُ، وَتُنَادِي بِاسْتِخْدَامِهِ، وَتُبْرِزُ وَظَائِفَهُ.

فَمَجَالَاتُ تَمْجِيدِ الشَّرِيعَةِ لِلْعَقْلِ وَضَرُورَةِ اسْتِخْدَامِهِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الحَقِّ مُتَعَدِّدَةٌ، مِنْهَا:

أَنَّ العَقْلَ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَغِيَابُهُ أَوْ نَقْصُهُ مُسْقِطٌ لَهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ»
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه.

وَأَنَّ الرَّحْمَنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَادَى النَّاسَ إِلَى اسْتِخْدَامِ عُقُولِهِمْ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الحَقِّ، عَنْ طَرِيقِ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَاسْتَخْدَمَ عِبَارَاتٍ مِنْهَا: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، ﴿ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾، ﴿ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آلِ عِمْرَان: ١٩٠ – ١٩١].

وَكُلُّ ذٰلِكَ يُشِيرُ إِلَى ضَرُورَةِ العَمَلِ العَقْلِيِّ وَدَوْرِهِ فِي الإِرْشَادِ إِلَى الهِدَايَةِ؛ فَالعَقْلُ يَتَأَمَّلُ الكَوْنَ فَيُرْشِدُهُ إِلَى وُجُودِ خَالِقٍ لَهُ، وَيَسْتَخْدِمُ المَنْطِقَ فَيُدْرِكُ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ غَايَةً، وَيَسْتَنْبِطُ مِنْهُ بَعْضَ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَتَأَمَّلُ فِيهِ فَيَرَى أَنَّهُ مِنَ العَبَثِ خَلْقُ الخَلْقِ وَتَرْكُهُمْ هَمَلًا دُونَ رِسَالَةٍ، وَيَقْرَأُ الوَحْيَ فَيَهْتَدِي إِلَى الرِّسَالَةِ.

وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ مَنْ عَطَّلَ عَقْلَهُ، وَلَمْ يَسْتَرْشِدْ بِهِ، وَكَانَ إِمَّعَةً يُسَاقُ فِي عَالَمِ الفِكْرِ وَالعَقِيدَةِ، مُقَلِّدًا غَيْرَهُ تَقْلِيدًا أَعْمَى، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البَقَرَة: ١٧٠].

وإنَّ مِنَ العَقْلِ الِانْتِفَاعَ بِالمَوَاعِظِ وَالقَصَصِ وَالأمْثَالِ القُرْآنِيَّةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الألْبَابِ ﴾ [يُوسُف: ١١١].
وَيَقُولُ: ﴿ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ ﴾ [العَنْكَبُوت: ٤٣].

وَأَنَّ لِلْعَقْلِ وَظِيفَةً مُهِمَّةً فِي اسْتِنْبَاطِ الأحْكَامِ، وَالنَّظَرِ إِلَى الأدِلَّةِ، وَنَقْدِ مُتُونِ الحَدِيثِ، وَكُلَّمَا كَانَ العَقْلُ المُسَدَّدُ بِنُورِ الوَحْيِ أَوْفَرَ وَأَكْبَرَ؛ كَانَ المَرْءُ أَقْدَرَ عَلَى الاجْتِهَادِ وَالإِصَابَةِ، وَالاسْتِنْبَاطِ.

فَإِنَّ لِلإِيمَانِ فِي حَيَاةِ المُسْلِمِ آثَارًا كَبِيرَةً، مِنْهَا: أَنَّهُ يَحْيَا حَيَاةَ سَعَادَةٍ مُطْمَئِنَّةٍ، قَالَ تَعَالَى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النَّحْل: ٩٧].

وَمِنْهَا: زِيَادَةُ الهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿ وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ [مَرْيَم: ٧٦].

وَمِنْهَا: التَّمْكِينُ فِي الأَرْضِ وَالاِسْتِخْلَافُ وَانْتِشَارُ الأَمْنِ، قَالَ تَعَالَى:
﴿ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾ [النُّور: ٥٥].

وَمِنْهَا: أَنَّ الإِيمَانَ أَعْظَمُ بَاعِثٍ عَلَى الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ إِيمَانُ العَبْدِ ازْدَادَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ طَمَعًا فِي رِضَا اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَازْدَادَ بُعْدًا عَنِ الذُّنُوبِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِي.

وَمِنْهَا: أَنَّ الإِيمَانَ سَبَبٌ لِلأَمْنِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأَنْعَام: ٨٢].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طـه: ١١٢].

وَمِنْهَا: أَنَّ الإِيمَانَ هُوَ مَصْدَرُ الثَّبَاتِ أَمَامَ الفِتَنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ﴾ [إِبْرَاهِيم: ٢٧].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأَحْزَاب: ٢٢].

وَمِنْهَا: أَنَّ الإِيمَانَ يَجْعَلُ صَاحِبَهُ طَاهِرًا لَا يَنْجُسُ أَبَدًا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
بِخِلَافِ الكَافِرِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ [التَّوْبَة: ٢٨].

وَمِنْ آثَارِ الإِيمَانِ أَيْضًا: أَنَّ المُؤْمِنَ مَعْصُومُ الدَّمِ وَالمَالِ وَالعِرْضِ، إِلَى غَيْرِ ذٰلِكَ مِنْ آثَارِ الإِيمَانِ فِي حَيَاةِ المُسْلِمِ.

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ