بحث بعنوان ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) للشيخ رضا الصعيدى

بحث بعنوان ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)
للشيخ : رضا الصعيدى

لتحميل البحث pdf اضغط أدناه

neama alma reda 2

 

ما الدليل أن الماء من أول المخلوقات؟ وكيف كان أية من أيات الله ومن دلائل وحدانيته؟ وكيف أزهقت الأرواح في طلبه؟ وكيف كان سببا في حياة الأرواح من نبات وانسان وحيوان؟ وما أثره على حياة الاقتصاد والبيئة ؟ وما أفضل بئر على وجه الأرض؟ وما الواجب علينا؟

الماء سابق في وجوده على جميع الخلائق، فقد أثبتت دراسات علوم الأرض أن هذا الكوكب يرجع عمره إلى أكثر من 46 بليون سنة مضت، بينما يرجع عمر أقدم أثر للحياة في صخور الأرض إلى 38 بليون سنة، وهذا يعني أن عملية إعداد الأرض لاستقبال الحياة استغرقت أكثر من ثمانمائة مليون سنة والدليل الشرعيّ الذي استند إليه العلماء في أن أصل العالم، هو الماء وهو أول المخلوقات، خبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني أنبئني عن كل شيء قال كل شيء خلق من الماء” – رواه أبو بكر بن أبي شيبة، ورواته ثقات، ورواه أحمد بن حنبل وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه.

وروى السديُّ بأسانيد متعددة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إنَّ الله لم يخلق شيئًا مما خلقَ قبل الماء” فيتبين بذلك أن الماءَ هو أصل جميع المخلوقات وهو أول الخلق، فمن الماء خلق اللهُ العالمَ قال تعالى ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30].

الماء من آيات الله :

فَيا عَجَباً كَيفَ يُعصَى الإِلَهُ** أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ

وَلِلَّهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ *** وَتَسْكِينَةٍ أَبَدًا شَاهِدُ

وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ ****تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ

الماء من الأدلة على وحدانية الله تعالى:

ورد أن الماء من الأدلة على وحدانية الله تعالى، في قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى.. سأل رجل أحد السلف عن الله ، قال له :ألم تركب البحر؟ ، قال : بلى ، قال فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة قال نعم ، قال وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة ، قال نعم ، قال فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك بأن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء ، قال نعم ، قال فذاك هو الله لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً ، (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرينا بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموت من كل مكان وظنوا أنه أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون) يونس22

لو اجتمع علماء العالم على أن يخلقوا قطرة ماء من العد لعجزوا ، تشربه الدابة فتخرج لبنا شهيا ، وتشربها الشجرة فتخرجها فاكهة زكيه ، والنحلة تمتص الرحيق فتخرجه عسلا نقيا ….

سلْ الواحةَ الخضراءَ والماءَ جاريا وهذي الصحارِي والجبالَ الرواسيَا

سلْ الروضَ مزدانًا سلْ الزهرَ والندَى سلْ الليلَ والأنسامَ والطيرَ شاديَا

وسلْ هذه الأكوانَ والأرضَ والسمَا وسلْ كلَّ شيءٍ تسمعُ الحمدَ ساريَا

فلو جنَّ هذا الليلُ وامتدَّ سرمدًا     فمَن غيرُ ربِّي يُرجعُ الصبحَ ثانيَا !

 

جعل الله من الماء كل شيء حي:

إن نعم الله على الإنسان لا يحدها حد, ولا يحصيها عد، قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )النحل18) ويقول سبحانه (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) لقمان20) ومن أجل نعم الله عز وجل على الإنسان، وأعظمها؛ نعمة ” الماء ” فلعظيم قدره وجليل أمره حفل القرآن الكريم بذكره والتنويه بشأنه في أكثر من ستين موضعا في القران الكريم، منها قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) ﴿الأنبياء ﴾..

إن الماء نعمةٌ من الله عظيمةٌ وهبةٌ من المولى جزيلة؛ به تدوم الحياة وتعيش الكائنات وتخضر الأرض وتنبت من كل زوج بهيج؛ وهو عنصر الحياة وسبب البقاء،وبه تعقد الآمال وتطيب النفوس وتهدأ الخواطر وتتفاءل الأرواح وتنشر الرحمة؛ قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى: 28) وهو أغلى من المُلك وأثمن من الجواهر وهو نعمة الله الكبرى ومنتهِ العظمى.

وإن كثرة ذكر الماء في كتاب الله بمفرداته ومكوناته من البحار والأنهار والسحاب يدل على عظم أثره في حياة البشرية؛ فهذا السائل المبارك هو أغلى ما تملك الإنسانية لاستمرار حياتها بإذن الله، أدرك ذلك الناس كلهم كبيرهم وصغيرهم عالمهم وجاهلهم، حاضرهم وباديهم، عرفوه في استعمالاتهم وتجاربهم وعلومهم، إن خف كان سحاباً، وإن ثقل كان غيثاً ثجاجاً، وإن سخن كان بخاراً، وإن برد كان ندى وثلجاً وبرداً؛ تجري به الجداول والأنهار، وتتفجر منه العيون والآبار.

أيها المسلمون: إن السعي في حصر خصائصه ووظائفه ومنافعه وفوائده تعجز الحاصرين، فلا شراب إلا بماء، ولا طعام إلا بالماء، ولا دواء إلا بالماء ولا نظافة إلا بالماء، ثم لا زراعة إلا بالماء، بل ولا صناعة إلا بالماء؛ ولم تنقص قيمته لا بتقدم الإنسانية ولا بتخلفها، بل لقد زادت أهميته ثم زادت، حتى صاروا يتحدثون عن الأمن المائي والصراع على موارد المياه ومصادرها ومنابعها.

أزهقت أرواح في طلبه:

بل بلغ الماء من سمو مكانته، وعلو أهميته، أن أزهقت أرواح في طلبه؛ فلما فتح عمرو بن العاص مصر، أتى أهلها إليه حتى دخل شهر بؤونة ، فقالوا يا أيها الأمير: إن لنيلنا هذا سنة لا يجرى بها. فقال لهم وما ذاك ؟ قالوا: إذا كان لثنتى عشرة ليلة خلت من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل .

فقال لهم عمرو إن هذا لا يكون في الإسلام، وان الإسلام يهدم ما قبله فأقاموا بؤونة والنيل لا يجرى لا قليلا ولا كثيرا( وفى رواية) فأقاموا بؤونة وابيب ومسرى وهو لا يجرى حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر انك قد أصبت بالذي فعلت، واني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي هذا ، فالقها في النيل .

فلما قدم كتابه اخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها” من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر (أما بعد )فان كنت تجرى من قبلك فلا تجر، وان كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسال الله أن يجريك فالقي عمرو البطاقة، فأصبح يو م السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر زراعا في ليلة واحدة ) البداية والنهاية لابن كثير) ومع أن هذه أفكار خاطئة أنكرها الإسلام ونهى عنها ؛ إلا أنها حدثت قبل الإسلام.

الف النعمة يلهي عن شكرها :

إن من الناس من تعودوا وجود هذه النعمة وألفوها؛ فهي دائما حاضرة بين أيديهم متى يريدونها يجدونها دون مشقة أو عناء أو مجرد سعى في طلبها، مما جعلهم قد ينسون قدر هذه النعمة وشأن هذه المنة؛ فلئن تخيل أحدنا انه فقد هذه النعمة ولو لزمن يسير، لا شك انه حينها يعلم أن فضل الله عليه بها عظيم، وأن فقدها خطر جسيم، يقول الله جل وعلا ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) الملك30).

حياة واستخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار والأنهار:

 قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ*بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ*فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ*يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ*فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:22]، فاللؤلؤ والمرجان كما يستخرجان من الماء المالح غالبًا، كذلك يستخرجان من الماء العذب.

حياة الأرض :

قال تعالى: ﴿أَمَّنَ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أنهارًا﴾ (النحل:10)، كما يذكر الخالق – عز وجل – بتسخير الأنهار للإنسان في قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم الأَنهارَ﴾ (إبراهيم:32) كما يوضح الخالق عز وجل أهمية الماء لحياة الإنسان والحيوان والنبات فوجودهم مرتبط بوجود الماء قال تعالى: ﴿وَمَآ أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ مِنْ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ (البقرة:164) ، وقال تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ﴿الحج: ٥﴾، وقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، كَمَا يُحْيِي الأرض الميتة الهامدة وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شَيْءَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: غَبْرَاءُ مُتَهَشِّمَةٌ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَيْتَةٌ، {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِ زَوْجٍ بَهِيجٍ} : أَيْ فَإِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْمَطَرَ {اهْتَزَّتْ} أَيْ تَحَرَّكَتْ بالنبات وَحَيِيَتْ بَعْدَ مَوْتِهَا، {وَرَبَتْ} أَيِ ارْتَفَعَتْ لَمَّا سَكَنَ فِيهَا الثَّرَى، ثُمَّ أَنْبَتَتْ مَا فِيهَا من ثمار وزروع، وأشتات النبات فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَطَعُومِهَا، وَرَوَائِحِهَا وَأَشْكَالِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أَيْ حَسَنِ الْمَنْظَرِ طَيِّبِ الرِّيحِ. ([1]) 

وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49).

حياة النبات :

﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر:22].

الخالق هو الذي ينزل الماء ويُجريه:

 قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة56 -58)

والمزن يعني السحاب، {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ}، يَقُولُ بَلْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي زعافاً مُرًّا لَا يَصْلُحُ لِشُرْبٍ وَلَا زَرْعٍ، {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} أَيْ فَهَلَّا تَشْكُرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ عَلَيْكُمْ عَذْبًا زُلَالًا، {لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} .

وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ﴿الأنعام: ٩٩﴾

وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً} أَيْ بقدر مباركاً ورزقاً للعباد وإحياء وغياثاً للخلائق، رحمة من الله بخلقه .

انبات الزرع :

{فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ}، كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}، {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} أَيْ زَرْعًا وَشَجَرًا أَخْضَرَ، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر. ولهذا قال تعالى: {نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً} أَيْ يَرْكَبُ بَعْضُهُ على بعض كَالسَّنَابِلِ وَنَحْوِهَا {وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} أي جمع قِنْوٍ وَهِيَ عُذُوقُ الرُّطَبِ، {دَانِيَةٌ} أَيْ قَرِيبَةٌ من المتناول، كما قال ابْنِ عَبَّاسٍ {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} يَعْنِي بِالْقِنْوَانِ الدَّانِيَةِ قِصَارَ النَّخْلِ اللَّاصِقَةِ عُذُوقُهَا بِالْأَرْضِ رَوَاهُ ابْنُ جرير.

وقوله تعالى: {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ} أَيْ وَنُخْرِجُ مِنْهُ جَنَّاتٍ من أعناب، وهذان النوعان هما أشرف الثمار عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَرُبَّمَا كَانَا خِيَارَ الثِّمَارِ في الدنيا، كما امتن الله بهما على عباده في قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ، وقوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} ، قَالَ قَتَادَةُ وغيره: متشابه في الورق والشكل قريب بعضه من بعض، ومتخالف في الثمار شكلاً وطعماً وطبعاً.

تنوع الزروع :

 {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} أَيْ نضجه، قال البراء وابن عباس والضحاك وَغَيْرُهُمْ، أَيْ فَكِّرُوا فِي قُدْرَةِ خَالِقِهِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَطَبًا صَارَ عِنَبًا وَرُطَبًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا خَلَقَ سبحانه وتعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح كقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكل} الآية، ولهذا قال ها هنا: {إِنَّ فِي ذلكم} أيها الناس {لآيَاتٍ} أَيْ دَلَالَاتٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ خَالِقِ هذه الأشياء وحكمته وَرَحْمَتِهِ {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أَيْ يُصَدِّقُونَ بِهِ وَيَتَّبِعُونَ رسله ([2]).

حياة البيئة:

فهي وسيلة لوجود الحدائق التي تغذي الهواء بالأكسجين اللازم للكائنات الحيه ، و تظللنا  من الشمس ، وترطب الجو قال تعالى: ( أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) ﴿النمل: ٦٠﴾.

حياة الحيوان :

قال سبحانه (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )النور45) و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي ، وَقَرَّتْ عَيْنِي ، أَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ ، فقَالَ : ” كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ ” رواه بن حبان)..

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ؛ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ. فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟! قَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ” ( متفق عليه).

فإذا كان الله غفر لهذا الرجل وتلك المرأة البغي من أجل سقي الكلب فما بالكم بمن حرص على سقي أبناء آدم ؟!!

روي أن نبي الله سليمان – عليه السلام – “خرج يستسقي، فرأى نملة مستلقية، وهي تقول: اللهم إنَّا خلقٌ من خلقك، ليس بنا غنًى عن رزقك، فقال سليمان: ارجعوا فقد سُقيتم بدعوة غيركم” – تصنيف ابن أبي شيبة – (10/312)  .

إذًا المطر الذي ينزل قليلاً، ليس لهؤلاء العصاة المُصرِّين على معاصيهم، الذين لا يقلعون عنها؛ إنما الرحمة بالبهائم، بالعجماوات، هكذا بيَّن لنا الصادق المصدوق، وإذا ما أقلع الناسُ عن معاصيهم، واستغفروا الله – تعالى – ورجوه الرحمةَ ونزول الغيث، لأغاثهم بفضله، وجُوده ومنِّه.

حياة الاقتصاد :

الماء هو عماد اقتصاد الدول، ومصدر رخائها ، بتوافره تتقدم وتزدهر، وبنضوبه وغوره وشح موارده تحل الكوارث والنكبات: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30].. { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18].

كما تبرز أهمية الماء في أنه يغطى 71% من مساحة الأرض، كما يرى البعض أنه من المتوقع أن تندلع الحروب في المستقبل القريب بسبب الصراع على الموارد المائية, نظراً لتقلص حجمها وكميتها، وانخفاض جودتها بسبب التلوث, ولذلك فإن الدول تشرع القوانين للحفاظ على الماء وصيانته من التلوث، لكن هذه القوانين غير كافية، ولا بد من وجود الوازع الديني للحفاظ على الماء، وقد سبقت الشريعة الإسلامية القوانين الوضعية في الإشارة إلى أهمية الحفاظ على الماء.

حياة الانسان :

وقال عز وجل: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا)..الإنسان يبدأ من دفقة ماء؛ يقول تعالى: فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق [الطارق: 5، 6]، وبعد 3 أيام يحوي الجنين 97٪ من وزنه ماء، ويصبح عمره 3 شهور تقل نسبة الماء في جسده إلى 91٪ من وزنه ماء، وتصل نسبة الماء في الطفل المولود إلى 80٪ من وزنه، ويصل يبلغ عامه الأول يكون نسبة الماء في جسمه 66٪ كما في البالغين، وتختلف نسبة الماء في كل شخص بحسب وظيفته، فخلايا الدماغ تتكون من 70٪ من الماء، وتبلغ هذه النسبة 82٪ في الدم، بينما تصل إلى 90٪ في الرئتين، وسبحانه عز وجل يقول: وهو الذي خلق من الماء بشرا فجع له نسبا وصهرا وكان ربك قديرا [الفرقان: 54]

ولم تقف الحكمة فى ماء الحياة! ولكن انظر إلى هذه المياه المختلفة، ماء الأذن مر ؛ وماء العين مالح ، وماء الفم عذب! فاقتضت رحمة الله أنه جعل ماء الأذن مرًا فى غاية المرارة: لكى يقتل الحشرات والأجزاء الصغيرة التى تدخل الأذن، وجعل ماء العين مالحًا: ليحفظها لأن شحمتها قابلة للفساد فكانت ملاحتها صيانة لها، وجعل ماء الفم عذبًاَ: ليدرك طعم الأشياء على ما هى عليه إذ لو كانت على غير هذه الصفة لأحالها إلى غير طبيعتها. حقًا لا نملك إلا أن نقول: سبحان الله !!!!

حياة مكة بزمزم :

قالت هاجر : الله امرك أن تتركنا هنا ، قال : نعم ، قالت : اذن لن يضيعنا ، فتترك الكعبة وتروح إلى ” الصفا ” وتصعد إلى ” المروة ” بعد أن تضع ” إسماعيل ” بجانب الكعبة…. الى اخر القصه …

ابن السماك مع هارون الرشيد:

دخل ابن السماك على هارون الرشيد (الخليفة العباسي) يوما؛ فاستسقى الخليفة فأُتى بكأس بها ماء؛ فلما أخذها قال ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين، لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي. قال: اشرب هنأك الله تعالى يا أمير المؤمنين. فلما شربها قال: أسألك بالله لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها؟ قال: بجميع ملكي. قال ابن السماك: لا خير في ملك لا يساوي شربة ماء. فبكى هارون الرشيد.

الواجب علينا تجاه نعمة الماء :

نهى الإسلام عن منع الماء عن المحتاجين إليه ففي منعك قتلهم :

 وذلك للحفاظ على أرواحهم من الإهلاك، وتوعد المانعين بالعذاب الأليم في الآخرة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ ؛ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ؛ وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ ” ( البخاري ومسلم).

المحافظة عليها وعدم الإسراف في استعمالها:

قال تعالى (… وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف 31)، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل اغتسل بالقليل، وإذا توضأ توضأ باليسير فعن انس رضي الله عنه قال ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ، أَوْ كَانَ يَغْتَسِلُ، بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ ) ([3]) و(الصاع أربعة أمداد، والمد ملء اليدين المتوسطتين)

فيعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بما يعادل ملء كفيه أربع أو خمس مرات، ويتوضأ بما يعادل ملء كفيه مرة واحدة.

نهى – صلَّى الله عليه وسلَّم – عن الإسراف في الوضوء؛ فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْوُضُوءِ؟ فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا . ثُمَّ قَالَ:” هَكَذَا الْوُضُوءُ ؛ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ “( ابن ماجة والنسائي بسند حسن). وإذا كان هذا في شأن عبادة، فما ظنك بما دون العبادة ؟!!!

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ ، فَقَالَ : مَا هَذَا السَّرَفُ ؟ فَقَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ. ”  (أحمد وابن ماجه) ؛ قال البخاري: ” بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً؛ وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثٍ؛ وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الْإِسْرَافَ فِيهِ؛ وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “. (صحيح البخاري).

عدم التبول في الماء:

عَنْ جَابِرٍ: «عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» ([4])

عدم إلقاء القاذورات والقمامة والمخلفات :

فنهى عن التبول فيه ، عَنْ جَابِرٍ: «عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ» ([5])..وكذلك نهى عن كل ما يعكر صفوه ويجعل الماء على غير الهيئة الحسنة التي خلقه الله عليها، وهذا الفعل يعتبر إيذاء للناس وقد نهى الله تعالى عنه كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب 58)

أيها المسلمون: إن الماء من أجل النعم وأعلاها قدرا ولا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

إِذا كُنتَ في نِعمَةٍ فَاِرعَها    فَإِنَّ المَعاصي تُزيلُ النِعَم

وَحافِظ عَلَيها بِتَقوى الإِلَهِ       فَإِنَّ الإِلَهَ سَريعُ النِّقَم

فَإِن تَعطِ نَفسَكَ آمالَها          فَعِندَ مُناها يَحِلُّ النَدَم

فَأَينَ القُرونَ وَمَن حَولَهُم   تَفانوا جَميعاً وَرَبّي الحَكَم..

تم البحث  بحمد الله  – الشيخ / رضا الصعيدي

 

[1])) تفسير ابن كثير

[2])) تفسير ابن كثير

[3])) صحيح البخاري

[4])) صحيح مسلم

[5])) صحيح مسلم