الوشاية ودمار المجتمع .. وقفة مع سورة الحجرات
25 يوليو، 2025
منبر الدعاة

بقلم فضيلة الشيخ : يوسف محمد السعداوى
من علماء الأزهر والأوقاف
الوشاية بالناس اشد ما يضر بالمجتمع، فهى من أسوأ ابواب الكذب ، وقد تتسبب فى اقتتال المسلمين مع بعضهم وتخرب سلام المجتمع ، وهى من اهم اسباب الضغائن والفرقة بين الناس .
لا يقوم بهذا العمل إلا ضعيف النفس . ومن فى قلبه وجد على من يوشى به ويوقع بينه وبين الناس.
لقد حذر القرآن الكريم من هذا العمل ، ووصم صاحبه بالفسق لأنه يختلق الكذب والبهتان ،
والفسق ليس بالأمر الهين ، لأنه يعنى أن الفاسق قد انشق عن الإيمان ، وتخلف عن آداب الإسلام والتى من أهمها احقاق الحق ، ورأب الصدع بين الفرقاء .
يتحول الواشى بالناس بهذا الفعل الشنيع الى قتات (نمام) ، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة قتات)أى نمام .
فضلا عن أنها توجب عذاب القبر .
لقد انشق الواشى عن المجتمع ، وحقد على أمنه وسلامه .
ولكى يحذرنا القرآن الكريم من هذا العمل ، ويبين بشاعته لما يتخلف عنه من اضرار .
بل قد يذهب بالمجتمع إلى الاضطراب والفوضى ويذهب بالثقة بين الناس .
صور القرآن هذا الفعل وهو يخاطب المجتمع بالإيمان الذى من أهم أوامره أن يتبين المؤمن ويتثبت لصحة ما نقل اليه ،او كذبه .
فى حادثة كادت أن توقع المؤمنين فى الشقاق والقتال فى صدر الإسلام ، سردها القرآن الكريم فى “سورة الحجرات” فى قول الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)
كان بطلها رجل وشى بقوم عند النبى صلى الله عليه وسلم أنهم قد ارتدوا عن الإسلام
كما ورد عند كثير من المفسرين ، كابن كثير والقرطبى وغيرهم ، بروايات متعده .
يقول بن كثير:
ذكر غير واحد من السلف ، منهم : ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم في هذه الآية : أنها نزلت في الوليد بن عقبة ، والله أعلم
وكان الوليد بن عقبة ممن اسلموا بعد ونزلت فيه هذه الاية كما ورد عن كثير من المفسرين
وقصته أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد استعمله على صدقات بني المصطلق بعد إسلامهم ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم خافهم ، فرجع إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوا صدقاتهم . فهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بغزوهم ، فبينما هم كذلك إذ قدم وفدهم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاستمر راجعا ، وبلغنا أنه يزعم لرسول الله أنا خرجنا لنقاتله ، والله ما خرجنا لذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
انزل الله هذه الآية ليعلمنا خطورة الإنجرار وراء الأخبار الكاذبة ، وأنه يجب التثبت من الخبر مهما كان قائله .
لأن عدم التثبت قد يحرك نحو إصابة الناس بالمكروه دون ذنب اقترفوه ،وهذا ما كاد أن يقع ببنى المصطلق جراء خبر كاذب ، نقله الوليد بن عقبة بن ابى معيط .
وتغليظ السُبة من الله تعالى فى حقه ، رغم انه صحابى مستأمن من النبى صلى الله عليه وسلم،إنه لتحذير شديد اللهجة عن الوقوع فى مثل هذا الجرائم .
وان الإنسان لاينفعه ولا يشفع له فى جرمه شئ ، حتى وإن كان صحابيا جليلا .
إن القرآن الكريم يرسم حدود الإيمان ، التى لا يجوز لأحد أن يتعداها ابدأ .
ويبين أن من يتعداها ـ مهما كان دافعة ـ يسقط من قمة الرضا الى حضيض الغضب والمقت .
يسوق القرآن الكريم هذا السرد ، ليتفكر كل مؤمن قبل الاقدام على أى فعل.
ولينظر فى عواقب فعله ، وما يتأتى منه.
وإن اكثر ما يُكره عند الله تعالى هو تفكيك المجتمع ، وزعزعة استقراره ، وتهديد أمنه وأمانه ، وليس هناك مسوغ دينى لتبرير ذلك ، مهما كانت النوابا والدوافع .
لذا كان السرد القرآنى يتوالى فى سورة الحجرات يؤسس هذا الاستقرار ، ويرسى قواعده ، ويقيم دعاءمه ،التى تربط المجتمع بعضه ببعضه.
إن صاحب هذه القصة كان فى نفسه ضعف .
صوره بعض الرواة على انه (فَرَقَ) أى خاف الطريق ،فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبرر رجوعه بخبر كاذب .
والبعض الآخر من الرواة ، صور هذا الضعف أنه كان بينه وبين القوم الذين أُرسل اليهم لجاجة فى الجاهلية ، وكان فى نفسه (لعاعة) لهم ،فعمد إلى الانتقام منهم بوشاية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مستغلاً فى ذلك السلطة النبوية الشريفة ، وكادت أن تقوم معركة واقتتال بين المسلمين بسبب ذلك ، لولا أن الله سلم .
لذا كان الخطاب القرآني فى نفس هذا المعنى ، وللمرة الثانية فى الآية التالية يؤكد أن هذا الفعل مناقض للإسلام والإيمان، ويصيب المجتمع بالعنت والشقاء، بسبب هذه الأفعال فقال ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)
إنه يخاطب العقول ألا تنقاد وراء الإنفعال بسبب الأخبار صادقة أو كاذبة وأن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم
ففى رواية اخرى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل خالد بن الوليد – رضى الله عنه – ليتثبت من الخبر ، وينظر القوم فى شعائرهم ، هل ارتدوا عن الإسلام أم لا .
ليكون المجتمع على هذا النهج ، مجتمع راشد متعقل، يتريث قبل اتخاذ القرار فهذا الرشد الذى هو(فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فضل يمن الله به على ذوى العقول والالباب.
ثم ينقلنا السرد الى أهمية ربء الصدع ، وترميم شروخ المجتمع ، إذا أصابه شقاق ، أو دب فيه خلاف.
إنه سرد فيه براءة للصحابى الجليل (الوليد بن عقبة بن ابى معيط) ، والتماس العذر له ، لأنه لا يزال حديث عهد بالإسلام .
سرد يؤكد أن ما حدث كان نتيجة ميراث الجاهلية ، الذى لا يزال بالنفس ، وأنه يتبقى منه شئ يجب التخلص منه، وهذا لا يكون إلا بالاصلاح بين من كان بينهم خلف نتيجته ما حدث ، فيأمر فوراً بالاصلاح بين المؤمنين ، وإزالة الخلف والشقاق .
ثم يؤكد أن الإيمان بالله أخوة صادقة ، لا يفسدها إلا ما كان فى النفوس من زرائع الجاهلية ، وبواقى الثأر والانتقام.
فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
لعلنا نفهم مراد الخالق سبحانه وتعالى من وحدة الأمة ، وعدم الانقياد وراء من يريدون لنا الفرقة والشقاق ، ويستغلون الفرص للوقيعة بين المسلمين .
خصوصا وإذا كنا متيقنين من عداوتهم ،وحقدهم على الإسلام والمسلمين .
وان همهم الأعظم هو تفريق المسلمين، وتشتيتهم ،واضعافهم للاستيلاء على الأرض ، وإذلال المسلمين.
دمتم طيبين