خطبة الجمعة القادمة «الاتحاد قوة» للشيخ ياسر عبدالبديع

خطبة الجمعة القادمة «الاتحاد قوة»
للشيخ : ياسر عبدالبديع

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ

سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا

وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

الإتحاد قوة

العُنْصُرُ الْأَوَّل : مَنْهَج النَّبِيُّ فِي تَحْقِيقِ الِاتِّحَادِ

لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَب قَبْلَ الْإِسْلَامِ دَوْلَة، فَلَا قَانُون يَجْمَعُهُمْ وَلَا سُلْطَانَ يَحْكُمُهُمْ، وَلَا شَرِيعَةَ تُرْسَم لَهُمْ طَرِيقٌ الْحَيَاةِ، إلَى أَنْ اذَنَ اللَّهُ لِهَذَا الظَّلَام بِالزَّوَال، فَأَرْسَل رَسُولِنَا مُحَمَّدًا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَدَعَاهُمْ إلَى عِبَادِهِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، وَنَبَذ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، لَكِنْ قُرَيْشًا كَبَّرَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهَا الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي الدَّيْنِ الْجَدِيدِ إلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، فَأَذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ بِالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ، وَفِيهَا تَكَوَّنَتْ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْأُولَى، وَاسْتَمَرَّ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِنَا مُحَمَّد، يُوضِحُ لَهُ قِوَام الدَّوْلَة، وَيُحَدَّد لَه أَهْدَافَهَا الَّتِي تُمَيِّزُهَا عَنْ غَيْرِهَا فِي عَقِيدَتِهَا وَفِي مَبَادِئُهَا وَسُلُوكِهَا، وَمُعَامَلَاتُهَا وَعَادَاتِهَا.

فَدَعَا الْبَشَرِيَّة جَمْعَاء أَنْ تَتَّجِهَ بِالْعِبَادَة لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، الَّذِي أَنْشَأَهُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَة، وَخَلَقَهُمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَكَرَّمَهُمْ وَرِزْقُهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا.

دَعَاهُمْ إلَى الْوِحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسِ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ [النِّسَاءِ: 1].

وَإِذَا كَانَ النَّاسُ جَمِيعًا إخْوَةٌ فِي الرَّحِمِ وَالْإِنْسَانِيَّة، فَقَدْ دَعَاهُمْ جَمِيعًا لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مِلْكٌ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ [الْأَعْرَاف: 158].

فَالنَّاس جَمِيعًا مُتَسَاوُونَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ إلَّا بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِح.

فَالْوَحْدَة الْإِسْلَامِيَّةِ لَا تَقُومُ عَلَى الْجِنْسِ أَوْ الْعُنْصُر أَوْ الْقَبِيلَةِ؛ كَمَا قَالَ الْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((كُلُّكُمْ لِادَمَ، وَادَمُ مِنْ تُرَابٍ))، وَلَا نَجِدُ نِدَاءً فِي الْقُرْانِ خَاصًّا بِالْعَرَب، إنَّمَا النِّدَاءُ؛ إمَّا بِقَوْلِهِ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ [الْبَقَرَة: 21]، فَيَعُمّ الْإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا، وَأَمَّا بِقَوْلِهِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا ﴾ [الْبَقَرَة: 104]، فَيَعُمّ الْمُؤْمِنِين وَيَخُصُّهُمْ.

وَكَمَا كَوْنُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْوَحْدَةَ الْإِسْلَامِيَّة، حُمَّاهَا وَحِفْظِهَا مِنْ كُلِّ أَمْرٍ يُهَدِّدُهَا، وَالْأُمُورِ الَّتِي تُهَدِّدُ الْوَحْدَة

ثَلَاثَةٌ:

أَوَّلُهَا: الْعَصَبِيَّة،

وَقَدْ نَهَى عَنْهَا الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ، فَقَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إلَى عَصَبِيَّةٍ))، وَالنَّهْيِ عَنْ الْعَصَبِيَّةِ لَا يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنْ حُبِّ الْأَوْطَان؛ فَقَدْ سُئِلَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ؟ فَقَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ((أَنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعَيِّنَ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْم)).

وَثَانِيهَا:

مَنَع الرَّسُول الْقِتَالُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ أَيِّ لِوَاءٌ، فَقَالَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ))، وَيَقُولُ الْحَقُّ: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرٍ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الْحُجُرَات: 9]،

ثَالِثًا:
بِالشُّورَى، فَمَا كَانَ يُقَدِّمُ عَلَى أَمْرٍ إلَّا بَعْدَ الْمَشُورَةِ؛ اسْتِجَابَة لِقَوْلِ اللَّهِ: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [الِ عِمْرَانَ: 159]، ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ [الشُّورَى: 38][1].

وَإِذَا كَانَتْ الْوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ قَائِمَة، فَالنَّاس جَمِيعًا إخْوَةٌ مُتَحَابُّون، وَأَعْضَاءُ مُتَمَاسِكُون، يَشْتَرِكُونَ عَلَى الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ، فَهُوَ خَالِقِهِمْ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِهِمْ الْأَوَّلِ، فَهُمْ أُولُو أَرْحَام، كُلُّهُمْ لِادَمَ، وَادَمُ مِنْ تُرَاب.

وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ وَأَلْزَمَهُمْ مُرَاقَبَتِه، وَطَلَبَ مِنْهُمُ عِبَادَتِهِ؛ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدَ مِنْهُمْ مَنْ رُزِقَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * أَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذَّارِيَات: 56 – 58].

وَأَوْضَح الْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبَةِ، فَقَالَ – سُبْحَانَهُ -: ﴿ لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ أمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْاخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الْبَقَرَة: 177].

فَالْمُسْلِمُون فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، يَجْتَمِعُونَ عَلَى عِبَادِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ بِيَدِهِ الْأَمْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الْأَنْعَام: 103].

وَالْعِبَادَةُ فِي حَدِّ ذَاتِهَا مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الِاتِّحَاد وَالِائْتِلَاف بَيْنَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَالصَّلَاة مَثَلًا تُنَظِّم صُفُوفِهِمْ، وَتَوَحُّد كَلِمَتُهُمْ، وَتُجْمَع شَمْلَهُمْ، وَقَدْ صَوَّرَ ذَلِكَ عَالِمٌ أُورُوبِّيّ فَقَالَ: “إذَا نَظَرْت إلَى الْعَالِمِ الْإِسْلَامِيِّ فِي سَاعَةٍ الصَّلَاة بِعَيْن طَائِرٌ فِي الْفَضَاءِ، وَقَدَر لَك أَنْ تَسْتَوْعِبَ جَمِيع أَنْحَائِه، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ خُطُوط الطُّولِ وَالْعَرْضِ – لَرَأَيْت دَوَائِر عَدِيدَةٍ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ تَدُورُ حَوْلَ مَرْكَز وَاحِدٍ هُوَ الْكَعْبَةُ، وَتَنْتَشِر فِي سَاحَةِ تَزْدَاد قَدْرًا وَحَجَّما.

ثُمَّ إنَّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ يُنَاجُون اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ الْجَمَاعِيَّة: ﴿ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الْفَاتِحَة: 5 – 7]، فَالْأَمَة الْإِسْلَامِيَّة أُمَّةً وَاحِدَةً، رَبِّهِمْ وَاحِدٌ، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَكِتَابِهِمْ وَاحِد، وَقِبْلَتُهُمْ وَاحِدَة، وَعِبَادَتِهِمْ وَاحِدَة، وَهُدًفهم وَاحِدٍ؛ ﴿ قَلَّ أَنْ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الْأَنْعَام: 162- 163].

فَالصَّلَاة بِذَلِك تُعْطَى الْأَدَب الْوَحدوي؛ فَهِيَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ أُمِّهِ وَاحِدَة لِرَبّ وَاحِدٍ؛ ﴿ أَنْ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الْأَنْبِيَاء: 92].

وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي الْأَجْنَاسِ وَاللَّهَجُات وَالأَلْوَانُ، إنَّمَا هُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي خَلْقِ الْبَشَرِ وَمُسَاوَاتُهُمْ جَمِيعًا أَمَامَ اللَّهِ؛ ﴿ وَمَنْ ايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِلْعَالَمِين ﴾ [الرُّوم: 22].

وَالِاتِّحَاد قُوَّة، وَالْقُوَّة تُؤَدِّي إلَى النَّصْر، وَالتَّفَرُّق ضَعْف، وَالضَّعْف يُحَقِّق الْهَزِيمَة، وَالتَّارِيخ خَيْرُ شَاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ، اتَّحَد الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَانْتَصَرُوا، وَاخْتَلَفُوا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ طَلَبَ الْجِهَاد وَالِاسْتِشْهَاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَلَبَ الْمَالِ وَالْعَتَاد، فَخَالَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ، فَانْهَزَمُوا، وَقَدْ قَالَ أَحَدُهُمْ: لِمَاذَا هَزَمْنَا وَقَدْ وَعَدْنَا اللَّه النَّصْر؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلُهُ مُوَضَّحًا أَسْبَاب الْهَزِيمَة: ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مِنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْاخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الِ عِمْرَان: 152].
وَشَرْحُ هَذَا الْمَعْنَى أَحَدُ الْحُكَمَاء لِأَوْلَادِه؛ لِئَلَّقِّنُهُمْ دَرْسًا فِي الِاتِّحَادِ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ حُزْمَةٌ مِنْ الْعِصِيّ قَدْ اجْتَمَعَتْ عِيدَانُهَا، فَعَجَزُوا عَنْ كَسْرِهَا، فَلَمَّا فَكّ الرِّبَاط، وَتَفَرَّقَتْ الْأَعْوَاد، تَكَسَّرَتْ وَاحِدًا وَاحِدًا،

وَلَقَدْ حَضّ الرَّسُولِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – عَلَى مَبْدَأِ الْإِخَاء وَإِعْلَانُه وَتَطْبِيقِه مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ؛ كَمَا جَاءَ فِي سَيْرِهِ ابْنُ هِشَامٍ؛ حَيْثُ رَوَى أَنَّ الرَّسُولَ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ – حِينَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ مَعَ أَهْلِ يَثْرِبَ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ جَاوَرَهُمْ مِنْ الْيَهُودِ، جَاءَ فِيهِ: ((هَذَا كِتَابُ مَنْ مُحَمَّدُ النَّبِيِّ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ يَثْرِب، وَمَنْ مَعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، فَحَلّ مَعَهُمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ)).

وَهَذَا أَوَّلُ دُسْتُور عَرَفَتْهُ البَشَرِيَّةُ يُحَدِّد إقْلِيم الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُوَ الْمَدِينَةُ، وَيُحَدَّد شُعَبِهَا وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَالْأَقَلُّيات الَّتِي تَعِيشُ مَعَهُمْ، وَيُحَدَّد دَسْتُورِهَا، وَهُوَ كِتَابٌ اللَّهِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ مُحَمَّد.

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْأَمَةِ الْإِسْلَامِيَّة الْيَوْمَ إنْ تَتَّحِد وَتَاتلف، فَالتَّارِيخُ يُحَذِّرُنَا، أَنْظُرُ إِلَى تَأْرِيخٍ الْأَنْدَلُس مَثَلًا الَّتِي نَلْقَبها الْانَ بِالْكَنْز الْمَفْقُود، تَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَتَصَلَّوْا بِأَعْدَائِهِمْ الْمَسِيحِيِّين فِي أُورُوبَّا، وَكَان المَسِيحِيُّون يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ وَيُقْتَل الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُمْ يَقِفُون مَوْقِف الْمُتَفَرِّج؛ لَعَلّ الْأَحْدَاث الْانَ فِي الْوَطَنِ الْعَرَبِيِّ كَمَا كَانَتْ سَابِقًا فِي الْأَنْدَلُسِ، فَالْأَمَة الْعَرَبِيَّة الْان مَتْنِاحِرَة، وَالْإِعْدَاءُ حَوْلَهَا يَقِفُون مَوْقِف الْمُتَفَرِّج.

قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الْأَنْفَال: 46].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي))، ((يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَالشَّيْطَان مَعَ مَنْ يُخَالِفُ الْجَمَاعَة)).

العُنْصُرُ الثَّانِي : مُقَوِّمَات الِاتِّحَاد وَالتَّمْكِين

حَثَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى الِاتِّحَادِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَأَكَّد الْقُرْانِ عَلَى الِاتِّحَادِ وَالْعَمَل يَدًا وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَتَرَابُط الْمُسْلِمِينَ، فَفِي سُورَةِ الِ عِمْرَانَ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِدَيْنِهِ وَكَانَ الْخِطَابُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِأَنْ لَا تُفَرِّقُوا كُمَّان كُنْتُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ذَلِكَ مَا كَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مِنْ الْعَدَاوَةِ إلَى أَنْ أَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِالْإِسْلَام فَزَالَتْ تِلْكَ الأَحْقَاد وَصَارُوا إِخْوَانًا مُتَوَادِّين، قَالَ تَعَالَى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا..) ال عِمْرَانَ:103.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ تَمَسَّكُوا بِدِينٍ اللَّهُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الْجَمَاعَةُ، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَإِنْ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: بِعَهْدِ اللَّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْقُرْانُ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إنْ هَذَا الْقُرْانَ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ، وَعِصْمَة لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَبِعَهُ»، وَقَالَ مُقَاتِلٌ بْنُ حَيَّانَ: بِحَبْلِ اللَّهِ أَيُّ: بِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، (وَلَا تَفَرَّقُوا)، كَمَا افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.

فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إنْ اللَّهُ تَعَالَى يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا، وَإِنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلِيَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ، قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ»، قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).

وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِه”.

نَرَى أَنْ النَّبِيّ ﷺ دَعَا الْمُسْلِمِ عَلَى مُعَاوَنَة أَخِيه وَنُصْرَتِه وَتَأْيِيدِه وَمُوَازَرَتْه، وَيَدُلُّ الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ كَالْبُنْيَان لَا يَسْتَقِلُّ بِأُمُورِ دَيْنَهُ وَلَا بِأُمُورِ دُنْيَاهُ، وَلَا تَقُومُ مَصَالِحِهِ إلَّا بِالْمُعَاوَنَة، وَالمُعَاضَدَة بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَانِهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا وَأَنْشَغِل كُلِّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ فَإِنْ ذَلِكَ مُؤَذِّن بِتَفَكُّك الأَسِرَّة وَالْمُجْتَمَع.

وَأَمْرُ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأُلْفَة وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ، لِأَنَّ التَّفَرُّقَ يُؤَدِّي إلَى التَّهْلُكَةِ، وَالْجَمَاعَة نَجَاة، وَاللَّهُ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَتْرُاص مُحْكَمٌ لَا يَنْفُذُ مِنْهُ الْعَدُوُّ. وَفِي الْايَةِ: (أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) الصَّفّ:4، بَيَانُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْمُجَاهِدِين؛ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إذَا صُفُّوا مُوَاجِهِين لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، يُقَاتِلُونَهُمْ فِي سَبِيلِهِ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: “وَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ مَعْرِفَةِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالتَّفَقُّهُ فِيهِ، وَالِاعْتِصَام بِحَبْلِ اللَّهِ، وَمُلَازَمَة مَا يَدْعُو إلَى الْجَمَاعَةِ وَالْأُلْفَة، وَمُجَانَبَةِ مَا يَدْعُو إلَى الْخِلَافِ وَالْفُرْقَة، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بَيِّنًا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ بِأَمْرِ مَنْ الْمُجَانَبَة، فَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْن”.

فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْتَقِيَ الْمُسْلِمُون وَيَنْضَمّ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَلَا يَتَفَرَّقُوا، وَالْأَمْرُ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ حَوْلَهُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةِ فِي قَرْيَةٍ، وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا قَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ مِنْ الْغَنَمِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٍ).

وَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: «تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «بِأَنْ تَرُدَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ» (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ، وَمُسْلِمٌ).

وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ شَاكِر رَحِمَهُ اللَّهُ: “وَأَوَّل مَقْصِد لِلْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَجَّلَهُ وَأَخْطَرِه: تَوْحِيدُ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَمْعُ قُلُوبُهُمْ عَلَى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ؛ هِيَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَتَوْحِيد صُفُوفُهُمْ فِي الْعَمَلِ لِهَذِهِ الْغَايَةِ، وَالْمَعْنَى الرُّوحِيِّ فِي هَذَا: اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ وَتَسْوِيَة صُفُوفِهِمْ فِيهَا أَوَّلًا، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ»، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا مِنْ أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ لِلْفِقْه فِي الدَّيْنِ، وَالغَوْصُ عَلَى دُرَرِه، وَالسُّمُوّ إلَى مَدَارِكِه”.

وَلَعَلَّ مَا يَزِيدُ مِنْ أَوَاصِر الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، ارْتِفَاع مُؤَشِّر الْأَيْمَانِ فِي قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ، لِذَلِكَ فَإِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ تَرَكُوا كُلَّ شَيْءٍ لِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، فَهَذَا عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ يَأْتِي مِنْ مَكَّةَ لَيْسَ مَعَهُ إلَّا إزَارَهُ، فَيُؤْاخي النَّبِيَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِىِّ، فَقَالَ سَعْدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنِّى أَكْثَرَ الأَنْصَارِ مَالًا، فَاقْسِمْ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمَّهَا لِي أَطْلَقَهَا.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْأةُ الْمُؤْمِنِ؛ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ: يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد).

فَاجْتِمَاع الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ، وَالْوُثُوقِ بِهِ وَعَدَمِ التَّفَرُّقَ عَنْهُ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِعَهْدِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ، أَوْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَبِفَرْض اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (مِنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّـة) النِّسَاءِ:80.

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ال عِمْرَان:105.

يَنْهَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّ تَكُونَ كَالْامم الْمَاضِيَةِ فِي تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.

وَهَذَا الِالْتِزَامُ بِالْجَمَاعَة صَفًّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ عُلُوِّ شَأْنِ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ.

وَمَا نَالَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ فِي مَاضِيهِم مَا نَالُوهُ مِنْ عَزَّ وَشَرَف رُفَيْع، بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ أَوْ الْعِدَّةِ وَلَا بِتَجْهِيزِات جُيُوشِهِمْ وَتَطَوُّرِهَا، وَلَكِنْ نَالُوا ذَلِكَ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى كَلِمَةٍ التَّوْحِيدِ، فَهُوَ الْعِدَّة الْقَوِيَّة، وَالسِّلَاح الْقَوِيم؛ وَمَا زَالُوا حَتَّى أَصْبَحُوا يَدًا وَاحِدَةً، وَلِسَانًا وَاحِدًا، وَأَطْاحُوا عُرُوش كِسْرَى وَقَيْصَرَ- وَنَشَرُوا لِوَاءَ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي أَرْجَاءِ الْمَعْمُورَة.

وَإِذَا كَانَتْ الْوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ قَائِمَة، فَالنَّاس جَمِيعًا إخْوَةٌ مُتَحَابُّون، وَأَعْضَاءُ مُتَمَاسِكُون، يَشْتَرِكُونَ عَلَى الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ، فَهُوَ خَالِقِهِمْ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْلِهِمْ الْأَوَّلِ، فَهُمْ أُولُو أَرْحَام، كُلُّهُمْ لِادَمَ، وَادَمُ مِنْ تُرَابٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلُّكُمْ لِادَمَ، وَادَمُ مِنْ تُرَاب.

وَنَهَى اللَّهُ فِي الْقُرْانِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّ تَكُونَ كَالْامم الْمَاضِيَةِ فِي تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَات وَأَوَّلٰيَك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ال عِمْرَانَ:105

“وَهَذَا التَّفْرِيقُ الَّذِي حَصَلَ مِنْ الْأَمَةِ -عُلَمَائِهَا، وَمَشَايِخُها، وَكُبَرَائِهَا- هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ تَسَلُّط الْأَعْدَاء عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذَكَرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) الْمَائِدَة:14، وَهَكَذَا مَتَى تَرَكَ النَّاسُ بَعْضِ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ”، وَلَا بُدّ.

وَإِذَا تَفَرَّقَ الْقَوْمُ فَسَدُوا وَهَلَكُوا، وَإِذَا اجْتَمَعُوا صَلَحُوا وَمَلَكُوا”

وَالتَّارِيخ يَثْبُتُ هَذَا، فَلَمَّا أَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُه دَوْلَةِ الإِسْلَامِ، وَبَدَأَتْ فِي هَذِهِ الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ لِحَمْل الرِّسَالَةِ إلَى الشُّعُوبِ الْأُخْرَى، ضُمَّتْ تَحْتَ لِوَاءِ الْإِسْلَامِ كُلُّ الشُّعُوبِ الْأُخْرَى بِدُونِ تَمْيِيزٍ وَلَا تَفْرِيقَ، وَأَمِنَتْ بِالدَّيْن الْحَنِيف عَنْ طَوَاعِيَةٍ وَاخْتِيَارٍ، وَرَغْم التَّبَايُن وَالِاخْتِلَافُ فِي الْعَادَاتِ وَالثَّقَافَات وَاللُّغَات وَالْأَلْوَان، إلَّا أَنَّهَا اتَّحَدَتْ فِي رِبَاطٍ الْإِخْوَة الْإِسْلَامِيَّةِ تَحْتَ رَايَةِ التَّوْحِيد.

لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَحَارَب الْعَصَبِيَّات مُحَارَبَة شَدِيدَةٌ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةِ عِمِّيَّةٍ؛ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إلَى عَصَبَةِ، أَوْ يَنْصُرُ عُصْبَةً، فَقُتِلَ؛ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إلَّا أَنْ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنْ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، إلَّا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَقَالَ ﷺ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْابَاءِ؛ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو ادَمَ، وَادَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُود وَحَسَّنَه الأَلبَانيّ.

فَفِي سُورَةِ الشُّورَى ذِكْرِ اللَّهِ أَنَّهُ بَعَثَ الْأَنْبِيَاء بِالِاجْتِمَاع وَوَحَّدَه الصَّفّ: ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدَّيْنِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ) الشُّورَى:13.

قَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: “بَعَثَ اللَّهُ الأَنْبِيَاءَ كُلُّهُمْ بِإِقَامَة الدَّيْن وَالْأُلْفَة وَالْجَمَاعَة، وَتَرَك الْفُرْقَة وَالْمُخَالَفَة”

وَالْأَمَة مُحْتَاجَة لِوَحْدَة الصَّفّ، وَهَذَا أَمْرٌ فِطْرِيٌّ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَفْئِدَة جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَخَاصَّة عِنْدَمَا يَظْهَر تَكَالُب الْأَعْدَاءُ، وَإِذَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ ضَرُورِيًّا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، فَالْأَمَة الْيَوْم أَحْوَجُ إِلَيْهِ بِكَثِيرٍ مِنْ ذِي قَبْلُ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِبْصَار بِرَأْيِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْبَصِيرَة، وَإِنْ نُحَافِظُ عَلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، الْبُعْدِ عَنْ الْبَغْيِ وَالْحَسَد وَالْهَوَى، رَفَع لِوَاء الْإِخْوَة، وَبَيَان مَكَانَه الْإِخْوَة، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ، وَالسَّعْيِ إلَى رَاب الصَّدْع، وَتَدَارَك الْخِلَاف،

فَالْايَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي وُجُوبِ الِاتِّحَاد وَالْجَمَاعَةُ كَثِيرَةٌ جِدًّا لَا يَتَّسِعُ الْمَقَام لِذِكْرِهَا كُلَّهَا، وَلَكِنْ سَنَذْكُرُ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ
قَالَ تَعَالَى:[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا](ال عِمْرَانَ: 103)

وَقَالَ سُبْحَانَهُ:[وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (ال عِمْرَانَ:105)

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: [أَنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] (الْأَنْعَام: 159)

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: [مِنِّيبِين إلَيْهِ وَاتَّقُوه وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ *مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] (الرُّومِ:32)

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى. مُتَّفَق عَلَيْهِ.

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا.مُتَّفَق عَلَيْهِ.

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ

العُنْصُرُ الثَّالِث : خُطُورِه وَمُظَاهَر الْفُرْقَة وَصَوَّرَهَا:

لِلْفُرْقَة وَالْخِلَاف مُظَاهِر عَدِيدَة، وَصَوَّر خَطِيرَة، وَإِشْكَال كَثِيرَة، تَبَيَّن مَدَى تَقَهْقُر وَتَوَتر الْعَلَاقَاتُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ بَيْنَ النَّاسِ، حَتَّى بَيَّنَ أَبْنَاءِ الْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ وَالرَّحِم وَالْقَرَابَة، وَلَعَلَّهَا مِنْ إفْرَازًات ضَعْفُ الْإِخْوَة وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ بَيْنَ ذَوِي الْقُرْبَى وَأَهْل الْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ، فَيُؤْلمك مَا الَ إلَيْهِ أَمْرُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ التَّفَكُّك الِاجْتِمَاعِيّ الرَّهِيب، حَتَّى حَصَلَتْ النِّزَاعَات، وَنَشْبت الْخُصُومَاتِ، وَرَفَعَتْ الدَّعَاوَى، وَكَثُرَتْ الشَّكَاوَى، مِنْ أَجْلِ خِلَافَات يَسِيرَة حَوْلَ شَيْءٍ حَقِيرٌ مِنْ حُطَامِ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَلَرُبَّمَا تَضَخُّمت الْمُشْكِلَةُ، وَتَعَقدت الْقَضِيَّةِ، وَتَدْخُل أَهْل الْإِصْلَاح، فَيَأْبَى الْمُتَخَاصِمُون إلَّا التَّشَفِّيَ وَالِانْتِقَامَ وَالثَّأْر وَتَحْكِيم حُظُوظِ النَّفْسِ وَالْهَوَى..

فُرْقَة وَخِلَاف بَيْنَ الْأَقَارِبِ؛ بُيُوت وَأُسِر عَصَفَتْ بِهَا الْخِلَافَات، فَتَقَاطَع الْأَبْنَاءُ وَالْأبَاءُ، قَاطِع الْأَبْنَاء ابَاءَهُمْ، وَأَهْمَل الْابَاءِ أَبْنَاءَهُمْ، وَهَجَر الْأَخِ أَخَاهُ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَوَقَع الْهَجْر بَيْن الْأَقَارِب، وَرُبَّمَا الْقِتَالُ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ.. وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [مُحَمَّدٍ: 22، 23].

فُرْقَةٌ وَخِلَاف بَيْنَ الْجِيرَانِ؛ حَيْث التَّقَاطُع كَبِير، وَالتَّدَابُر وَاضِحٌ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ الْجِيرَانِ -هَدَاهُمُ اللَّهُ- الْجَارُ الَّذِي فَرَضَ لَهُ الْإِسْلَامُ حُقُوقًا كَثِيرَةٌ، قَدْ تَمُرُّ عَلَى بَعْضٍ النَّاس أَشْهُرٍ، بَلْ أَكْثَرُ، وَهُوَ لَا يُعْرَفُ عَنْ جَارِهِ شَيْئًا، مِنْ مَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ هُمْ أَوْ حَاجَة..

فُرْقَة وَخِلَاف بَيْنَ الْأَصْدِقَاءِ؛ بَيْنَ مَنْ تَرْبُطُهُمْ عَلَاقَة صَدَاقَة وَصَحْبِه وَأَخُوهُ فِي الدَّيْنِ، فَتَتَحَوَّل الصَّدَاقَة إلَى عَدَاوَةِ، وَالْإِخْوَة إلَى بَغْضَاء..

فُرْقَة وَخِلَاف بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ؛ الَّذِي يَعِيشُ فِي وَطَنٍ وَاحِد، وَتَجْمَعُه مَصَالِحُ وَمَنَافِعُ وَغَايَات وَأَهْدَاف، فَلَا تَرَى إلَّا صِرَاعًا، وَقِتَالًا، وَسَبَأ وَقَذْفًا، وَسَرِقَة وَنَهْبًا، وَخِيَانَة وَغِشًّا، وَمَكْرًا وَخَدِيعَة.. غَلَب الشِّقَاقِ عَلَى حَيَاةِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ إلَّا مِنْ عِصَمِ اللَّه، وَسَادَت الْقَطِيعَة، وَعَمّ الْجَفَاء وَالشَّحْنَاء، وَتَنَافُرِتْ الْقُلُوبُ، وَسَادَت الْوَحْشَة وَالظُّنُون السَّيِّئَة، وَرَاجَتْ سُوق الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْبُهْتَانِ وَتَنَاوَل أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَالسَّعْيِ فِي الْفَسَادِ بَيْنَهُمْ، فَتَعَمقت الْفَجْوَةُ، وَاتَّسَعَتِ الْهُوَّةُ، فَأَصْبَحَتْ حَالَة كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مَحْزَنَة لِلصَّدِيق مَفْرَحَة لِلْعَدُوّ،

فُرْقَة وَخِلَاف بَيْنَ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ؛ الَّتِي يَشْهَدُ التَّارِيخ أَنَّهَا مَرَّتْ عَلَيْهَا فَتَرَات مِنْ تَارِيخِهَا اتَّحَدَتْ فِيهَا صُفُوفُهَا وَاجْتَمَعَتْ كَلَّمْتُهَا، فَعَاشَتْ عَزِيزَة كَرِيمَة مَرَّةًوبه الْجَانِبِ، إلَى أَنْ دَبّ إلَيْهَا دَاء الْفُرْقَة وَالْخِلَاف، فَانْقَسَمَتْ الْأَمَة الْوَاحِدَةِ إلَى أَحْزَابٍ مَتْنِاحِرَة، وَفَرَّقَ مُتَنَاثِرَة، وَلَا يَزَالُ هَذَا الدَّاءُ الْعُضَالُ وَالْمُصَاب الْجَلَل جَاثِمًا فِي جَسَدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمُسْتحوذا عَلَى قُلُوبِ الشُّعُوب.. فَذَلَّتْ الْأَمَةِ بَعْدَ عَزّ، وَضَعُفَتْ بَعْدِ قُوَّةٍ، وَتَفَرَّقَتْ بَعْد وَحْدَه، وَتَخَلَّفَتْ بَعْد رِيَاده، فَهَانَ أَمْرَهَا وَأَصْبَحَتْ مَطْمَعًا لِكُلِّ عَدُوٍّ وَحَاقد..

فَيَا أُمَّةَ الإِسْلامِ: لِمَاذَا الْخِلَاف؛ وَالدَّيْنُ وَاحِدٌ، وَالْقُرْان وَاحِد، وَالْقُبْلَة وَاحِدَة ؟..

لِمَاذَا الْفُرْقَةِ؛ وَالْأَصْلُ وَاحِدٌ، وَالْأَمَة وَاحِدَة؟..

لِمَاذَا الْفُرْقَة وَالْخِلَاف؛ وَالْوَطَن يَجْمَعُنا، وَالْبِلَاد تَضَمُّنًا، وَمَصْلَحَة الْبِلَاد غَايَتنا؟..

إلَى مَتَى الْفُرْقَة؛ وَنَحْن نُدْرِكَ مَا فِيهَا مِنْ ضَرَرِ وَفَسَاد؟..

فَهَلْ يَخْتَلَّ نِظَامُ الْمُجْتَمَع، وَتَنْتَشِر الفَوْضَى وَالِاضْطِرَابَات، وَتَتَصدع أَرْكَانُ الْأَمَة، وَتَتَهدد عُرُوشِهَا، وَتَنْهَد حَضَارَاتِهَا؛ إلَّا بِتَفَرُّق أَهْلِهَا وَتَنَازَعَهم؟.

وَهَلْ تَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ الْبِلَاد وَمَنَافِع الْعِبَادِ؛ إلَّا بِالتَّفَكُّك، وَالتَّعَصُّبِ لِلْارَاء، وَاتِّبَاع الْأَهْوَاء؟.

وَهَلْ يَتَسَلَّط الْأَعْدَاء وَيَتَمَكَّنُونَ مِنْ رِقَابِ النَّاسِ؛ إلَّا بِتَضْارب الْارَاء، وَتَحْكِيمَ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاء، وَانْتِشَار الأَحْقَاد وَالْحِزَازَات الشَّخْصِيَّةُ وَالنِّزَعَات الْفَرْدِيَّة؟..

فَإِلَى مَتَى التَّفَرُّق يَا أُمَّهْ الْوَحْدَة وَالْأُلْفَة وَالإِخَاء؟..

نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ قَسْوَةُ الْقُلُوبِ، وَتَبِلد الْمَشَاعِرُ، وَضَمِور الضَّمَائِرُ، وَمَوْت الْأَحَاسِيس، وَاسْتِحْكَام الدُّنْيَا فِي النُّفُوسِ.. فَلِأَجْل حَفْنَةً مِنْ الْمَالِ، أَوْ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ، أَوْ مُشَادَّة كَلَامَيْه، أَوْ وِشَايَة نَقَلَهَا مُغْر، أَوْ شَائِعَةً، أَوْ سُوءِ فَهْمٍ، تَنْقَطِع الأَوَاصِر، وَتَنْحَلّ الْوَشَائِج، وَتَنْفصم عَرِيَ الْمَحَبَّة، وَتَتَحَوَّلُ إِلَى ضَغَائِن وَاحِقاد، وَتَشْهِير بِالْمَجَالِس، وَظُنُون سَيِّئَةً، بَلْ وَإِلَى قَطِيعَة مُسْتَدِيمَة، وَفِرْقَة مُسْتَحْكِمَة، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.

وَالْفُرْقَةُ وَالْخِلَاف؛ تَضَارَب فِي الْمَصَالِحِ، وَتَنَاقَضَ فِي الْارَاءِ، إلَى حَدِّ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالنِّزَاع وَالْقِتَال..

الْفُرْقَة وَالْخِلَاف؛ تَمَزَّق فِي الصَّفِّ، وَشَتَات فِي الْأَمْرِ، وَانْحِرَاف وَضَلَالٌ..

وَلَيْسَ مُجَرَّدُ اخْتِلَافِ الْأَفْهَامِ وَتَبَايُن الْارَاء بِمُنْكَرٍ وَلَا مُسْتَغْرَب، بَلْ هُوَ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِ، وَلَكِنْ الِاخْتِلَاف الْمَذْمُوم هُوَ الَّذِي يُؤَوَّلُ إلَى خِلَافِ وَفِرْقَة وَنِزَاع وَشِقَاق، وَيَكُونُ سَبَبًا لِلتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالتَّنَافُر وَالْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْكَرَاهِيَة وَالْبَغْضَاء.

مَخَاطِر الْفُرْقَة وَضَرَرُهَا بِالْإِفْرَاد وَالْأَسْر وَالمُجْتَمَعَات وَالدُّوَل:

الْفُرْقَة وَالْخِلَاف؛ دَاء اُبْتُلِيَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، وَدَأَبُوا مِنْ خِلَالِهِ عَلَى إحْيَاءِ بُذُور الشِّقَاق وَغَوَائِل الشُّرُور بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، يَتَخَاصَمُون وَيَتَقَاطَعُون وَيَتَدابرون لِأَسْبَابٍ شَخْصِيَّة وَأُمُور مَادِّيَّة تَافِهَة.

الْفُرْقَةُ بَيْنَ النَّاسِ؛ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي نُصُوصِ كَثِيرِهِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ فَسَادِ كَبِير وَضَرَر جَسِيم، فَقَالَ رَبَّنَا سُبْحَانَهُ: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [الِ عِمْرَانَ: 105]. وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ». مُتَّفَق عَلَيْهِ.

الْفُرْقَةُ بَيْنَ النَّاسِ؛ سَبَبٌ فِي حِرْمَانِ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيِّنَةُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا». رَوَاه مُسْلِم.

الْفُرْقَةُ بَيْنَ النَّاسِ؛ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِه. قَالَ رَبَّنَا سُبْحَانَهُ: ﴿ إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [الْمَائِدَة: 91]. وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ».

الْفُرْقَةُ بَيْنَ النَّاسِ؛ سَبَبٌ فِي الْهَزِيمَةِ وَالْفَشَل. قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الْأَنْفَال: 46]. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَالِهِ وَسَلَّمَ: «إلَّا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟» قَالُوا: «بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ». قَالَ: «إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ إنَّهَا تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ». أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّان.
فَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَة، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّهَا سَبَبٌ فِي قُوَّتِكُمْ وَعَزَكم وَامَنَكُمْ. وَإِيَّاكُمْ وَالْعَصَبِيَّة وَمُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ، فَذَاكَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي أَنْقَذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةِ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إلَى عَصَبَةِ، أَوْ يَنْصُرُ عُصْبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ. وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلاَ يَفِى لِذِى عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْت مِنْهُ» رَوَاهُ مُسْلِم.

* وَعَلَيْكُمْ بِالتَّعَاوُن وَالْوَفَاء؛ فَفِيه نَجَاحكم وَنَجَاتُكُمْ. وَإِيَّاكُمْ وَالتَّخَاذُل وَالْخِيَانَة، فَذَلِكَ سَبَبُ فِي الضَّعْفِ وَغَضِبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنُ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إلَّا لِدُنْيَاه، إنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ، فَأَخَذَهَا، وَلَمْ يُعْطِ بِهَا». رَوَاهُ الْبُخَارِىّ.

* وَاقْطَعُوا الطَّرِيقِ عَلَى مَنْ يَكِيد لِدِينِكُمْ، وَيُدْبِر السُّوء لِلنِّيل مِنْ بَلَدِكُمْ؛ بِإِيمَانِكُمْ وَتَمَاسَكَكم وَوَحْدَتِكمْ وَتَضَامَنَكُمْ وَإِخْوَتُكَمْ. يَقُولُ رَبَّنَا سُبْحَانَهُ: ﴿ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الْحُجُرَات:10]، وَيَقُول نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِثْلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ الوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.

* وَحَصِّنُوا عُقُول أَبْنَائِكُمْ مِنْ الْأَفْكَارِ الْهَدَّامَة، وَالْأرَاء الشَّاذَّة، وَالسَّلْوَكات الْمُنْحَرِفَة، الَّتِي تَسْتَهْدِفُ أَمَّنَكُمْ وَتَزَعْزَع اسْتِقْرَاركم؛ بِحُسْنِ تَوْجِيهُهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ، وَزَرْع الْمَحَبَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى رِعَايَةِ أُخُوَّةَ الدِّينِ، وَرِبَاط الْإِخْوَة الْإِسْلَامِيَّة، بَعِيدًا عَنْ النَّعَرَات وَالْعَرَقُيَّات، وَفِي مُنَاي عَنْ الْحِزْبَيْات وَالْحِزَازَات، وَإِنْ يَسْعَوْا لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَحِفْظ الْأَلْسُن مِنْ الْوَقِيعَةِ فِي الْإِعْرَاضِ، وَسَلَامُه الْقُلُوبِ مِنْ الْغِلِّ وَالشَّحْنَاء وَالْحِقْد وَالْبَغْضَاء، وَأَنْ يَقِفُوا سَدًّا مَنِيعًا إمَام الْجَرَائِم الْأَخْلَاقِيَّة، وَالْأَمْرَاض الِاجْتِمَاعِيَّة، وَغَوَائِل الشُّرُور، وَبَوَّايق الْقَطِيعَةُ، وَادَّواء الْقُلُوبُ وَالصُّدُور، حَتَّى يُسَلِّمَ الْمُجْتَمِعِ مِنْ التَّفَكُّك الِاجْتِمَاعِيّ، وَالتَّمَزُّق الْأَسْرَى، بَلْ وَالْخِلَاف الْعَقَدِيّ وَالسِّيَاسِيِّ وَالْفِكْرِيِّ، وَغَيْرِهَا مِمَّا يَأْتِي عَلَى بُنْيَانِ الْمُجْتَمِعِ مِنْ الْقَوَاعِدِ، وَيُحَوِّلُهُ إِلَى فَيَّأَت مَتْنِاحِرَة، فِي صِرَاع دَائِم، وَتُفَكِّك مُسْتَمِرّ، وَمِحَن مُتَكَاثِرَة، وَفِتَن كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِم..

* وَالْتَزَمُوا بِأخْلاقِ الإِسْلاَمِ وَادَابِه وَأَحْكَامِه؛ فَهِيَ مَصْدَرٌ عِزُّكُمْ وَقَوْتكم وَسَعَادَتُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَفِي أُخْرَاكُمْ.﴿ مِنْ عَمَلِ صَالِحًا مِنْ ذِكْرِ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النَّحْل: 97].

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ

وَأَقُمْ الصَّلَاةُ