أنوار سورة الكهف وأسرار قراءتها في يوم الجمعة 2


بقلم الشيخ : حمدي علي الجهيني

مسؤل ادارت المساجد بمديرية أوقاف القاهره كبير أئمة بإدارة السيدة زينب

 

الفتنة الثانية:

فتنة المال في قصة صاحب الجنتين؛ قال تعالى:( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا(32)كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا(33)وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا(34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا(35)وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا(36)…..الآيات.

والآيات تحكى قصة صاحب الجنتين الذي أسبغ الله عليه نعمه، فكفر بأنعم الله ونسي أمر الساعة، ونسي واهب النعمة فطغى وتكبر على صاحبه الفقير واغتر بما لديه ولم يؤدي ما عليه من إنفاق.

فأذهب الله تعالى زهرة جنته، وجعلها خرابا يبابا(وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول: ياليتني لم أشرك بربي أحدا) فلم يتمنى جنة أخرى؟

أو جنة أحسن منها؟

فلقد أيقن أن الأرض كلها لا تساوي شيئا مع الشرك بالله، فقال:(ياليتني لم أشرك بربي أحدا).
وإن فتنة المال من أعظم الفتن قديما وحديثا، وزادت الفتنة به في هذا العصر بسبب سيادة النظم الرأسمالية على أسواق المال والأعمال في العالم. ولكن لماذا ضرب الله مثلا بجنتين وهم رجلين، والجنتين لرجل واحد منهم؟.

والجواب: كأن الله العليم يذكرنا بالإنفاق عن ما زاد عن الحاجة.

فالحديقة الواحدة كافية لرجل واحد. وهذا الرجل دخل جنته وهو ظالم لنفسه لأنه يزعم بأن هذا النعيم الذي هو فيه دائم. بل ويزعم متطلعا إن الله تعالى سيجازيه في الآخرة نعيما آخر أكثر من ذلك. ويبدو إنه كان متزوجا ماطاب له من النساء، حسب شريعتهم، فلديه أولاد كثيرون. بينما صاحبه الآخر ليس لديه لا مال ولا ولد لأنه عاجز عن الزواج أساسا. فعندما حاوره الفقير نصحه بعدم قول: الحمد لله ماشاء الله لا قوة إلا بالله باللسان فحسب، دون الإنفاق مما أعطاه الله تعالى، وذكره بدورة الأيام ونوائب الدهر وعدم الامان للدنيا بالمال والولد وأن الله يمكن أن يرزقه جنة خير من جنتيه؛ ولاحظ هنا إن الفقير قال له “خيرا من جنتك” وليس من جنتيك ليؤكد له ويؤكد الله لنا إن ما زاد عن الحاجة كنز من الأسلم أن يعطى لشخص آخر محروم. ويدلنا ذلك إنه لم يكن يسعى للمنافسة والحسد بتمنيه جنتين كصاحبه ولكن للتنبيه فقط. ويبدو إن العظة لم تنفع صاحب الجنتين الطاغية؛ فهلك زرعه وفقد ماله بما أنفق فيها وأصبح يقلب كفيه ويجر ذيول الندم الخائبة في بلاط أنانيته وحبه لنفسه ونسيانه صاحبه المحروم، وبذل ما يريد الله تعالى، وهو ما سماه بلسانه شرك بالله تعالى .

وللعصمة من فتنة المال التي وقع فيها صاحب الجنتين هذا، هناك أمران يأتيان مباشرة بعد القصة:

1- فهم حقيقة الدنيا:

وهذا ما نراه بوضوح في أول آية أتت مباشرة بعد انتهاء القصة{وَٱضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاء}فماذا جرى له؟{فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ}هكذا وبسرعة… ثم ماذا{فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ٱلرّياحُ وَكَانَ ٱلله عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا}. فالآية تصور لنا ومضات سريعة من بداية الحياة إلى وسطها إلى نهايتها، مراحل سريعة يربطها حرف الفاء{… فَٱخْتَلَطَ… فَأَصْبَحَ} الذي يفيد التعقيب السريع. فهذه الدنيا فانية، سريعة الانقضاء، فلا تتعلق بها أيها المؤمن لتنجو من الفتن. فمن ثوابت الدنيا ان دوام الحال من المحال، فلا مال ولا بنون دائم وما يبقى للآخرة هو العمل الصالح فقط. فهى الباقيات الصالحات التي وردت في الآية التالية؛قال تعالى:( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46). ويشرحها حديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:(إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يتنفع به أو ولد صالح يدعوا له). فلا داعى للغرور والتكبر والعجب والتطاول، والأدهى الجحود بشكر نعمة الله. ولكن للأسف نجد الكثير منا وقع فى هذا المستنقع البغيض ونسي وتناسى الفقراء والمساكين والمحرومين.

2- تذكر الآخرة:
وخاصة موقف العرض على الجبار سبحانه وتعالى، وكأن تذكر الآخرة قضية أساسية في العصمة من الفتن كلها (من فتنة الدين ثم من فتنة المال) لقوله تعالى:{وَيَوْمَ نُسَيّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَـٰهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً*وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبّكَ صَفَّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ…}.{وَوُضِعَ ٱلْكِتَـٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. فمن فُتن بالمال فعطل الفرائض، وجاوز الحلال إلى الحرام فليأخذ عبرة وعظة من قصة صاحب الجنتين ولينظر في ما بعدها من آيات تُبين سبيل النجاة من فتنة المال، بالقناعة والزهد وفهم حقيقة الدنيا وغرورها، ولينظر بعدها إلى الدار الآخرة وشدة الحساب والكتاب الذي يحصي الصغيرة والكبيرة؛ كما يحصي التجار في الدنيا المال ويرصدونه.

الفتنة الثالثة:
فتنة العلم في قصة موسى علية السلام مع الخضر؛ والذى كان قد ظنّ أنه أعلم أهل الأرض فأوحى له الله تعالى بأن هناك من هو أعلم منه فذهب للقائه والتعلم منه، فلم يصبر على ما فعله الخضر لقصور علمه عن الحكمة في أفعاله. عن أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: إنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا في بَنِي إسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعْلَمُ؟ فَقالَ: أنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عليه؛ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فأوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ: إنَّ لي عَبْدًا بمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هو أعْلَمُ مِنْكَ، قالَ مُوسَى: يا رَبِّ، فَكيفَ لي به؟ قالَ: تَأْخُذُ معكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ في مِكْتَلٍ، فَحَيْثُما فقَدْتَ الحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فأخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ في مِكْتَلٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ وانْطَلَقَ معهُ بفَتَاهُ يُوشَعَ بنِ نُونٍ، حتَّى إذَا أتَيَا الصَّخْرَةَ وضَعَا رُؤُوسَهُما فَنَامَا، واضْطَرَبَ الحُوتُ في المِكْتَلِ، فَخَرَجَ منه فَسَقَطَ في البَحْرِ،{فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}الكهف: ٦١، وأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الحُوتِ جِرْيَةَ المَاءِ، فَصَارَ عليه مِثْلَ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أنْ يُخْبِرَهُ بالحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَومِهِما ولَيْلَتَهُما، حتَّى إذَا كانَ مِنَ الغَدِ قالَ مُوسَى لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}الكهف: ٦٢، قالَ: ولَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حتَّى جَاوَزَا المَكانَ الذي أمَرَ اللَّهُ به، فَقالَ له فَتَاهُ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}الكهف: ٦٣، قالَ: فَكانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، ولِمُوسَى ولِفَتَاهُ عَجَبًا، فَقالَ مُوسَى:(ذلكَ ما كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا علَى آثَارِهِما قَصَصًا)، قالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُما حتَّى انْتَهَيَا إلى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا، فَسَلَّمَ عليه مُوسَى، فَقالَ الخَضِرُ: وأنَّى بأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ قالَ: أنَا مُوسَى، قالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟ قالَ: نَعَمْ، أتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي ممَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا، قالَ:{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}الكهف: ٦٧، يا مُوسَى، إنِّي علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ، لا تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأَنْتَ علَى عِلْمٍ مِن عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ، لا أعْلَمُهُ، فَقالَ مُوسَى:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} الكهف: ٦٩، فَقالَ له الخَضِرُ:{فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}الكهف: ٧٠، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ علَى سَاحِلِ البَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الخَضِرَ، فَحَمَلُوهُمْ بغيرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا في السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إلَّا والخَضِرُ قدْ قَلَعَ لَوْحًا مِن ألْوَاحِ السَّفِينَةِ بالقَدُومِ، فَقالَ له مُوسَى: قَوْمٌ قدْ حَمَلُونَا بغيرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إلى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا{لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}الكهف: ٧١-٧٣، قالَ: وقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وكَانَتِ الأُولَى مِن مُوسَى نِسْيَانًا، قالَ: وجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ علَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ في البَحْرِ نَقْرَةً، فَقالَ له الخَضِرُ: ما عِلْمِي وعِلْمُكَ مِن عِلْمِ اللَّهِ إلَّا مِثْلُ ما نَقَصَ هذا العُصْفُورُ مِن هذا البَحْرِ، ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبيْنَا هُما يَمْشِيَانِ علَى السَّاحِلِ إذْ أبْصَرَ الخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مع الغِلْمَانِ، فأخَذَ الخَضِرُ رَأْسَهُ بيَدِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقالَ له مُوسَى:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}الكهف: ٧٤-٧٥، قالَ: وهذِه أشَدُّ مِنَ الأُولَى،قالَ: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}الكهف:٧٦-٧٧،قالَ: مَائِلٌ، فَقَامَ الخَضِرُ فأقَامَهُ بيَدِهِ، فَقالَ مُوسَى: قَوْمٌ أتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا ولَمْ يُضَيِّفُونَا،{لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} الكهف: ٧٧، قالَ:{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}إلى قَوْلِهِ:{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}الكهف: ٧٨-٨٢، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وَدِدْنَا أنَّ مُوسَى كانَ صَبَرَ حتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِن خَبَرِهِما. قالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: فَكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ(وَكانَ أمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا)، وكانَ يَقْرَأُ:(وَأَمَّا الغُلَامُ فَكانَ كَافِرًا وكانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ)» صحيح البخاري.

وإن من أعظم فتن هذا العصر:
الاغترار بالعلوم والمعارف البشرية التي ربما قادت كثيرا من الناس إلى الكفر بالله تعالى، والإلحاد في أسمائه وصفاته؛ حتى زعم المفتونون بهذه العلوم والمعارف أن الإنسان هو مركز الكون، ومحور الوجود، وأنه سيطر على الطبيعة، وأنه سيسيطر على الموت، ويكتشف بلسم الحياة. حتى خرج علينا إعلامي منسوب إلى تيار العلمانية أوالليبرالية يرأس أشهر موقع ليبرالي، ليقول إنه لديه مشكلة مع الموت لأنه ينتزع أصدقاءه، ثم قال ما نصه:( ليس أمامنا إلا الإيمان بأنه في يوم من الأيام سيأتي حل لمشكلة هذا الموت وأنا مؤمن بهذا الكلام، مثلما أتى العلم بكثير من الحلول، ولذلك يجب أن لا نستسلم أمام الموت، يعني إذا متنا نحن فيجب على المقبلين أن لا يموتوا) اهـ . وكأن هذا الضال الأحمق لم يسمع بقوله تعالى:(كل نفس ذائقة الموت)،وقوله:(كل من عليها فان)،وقوله:(قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)،وقوله:(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة). وقد يفتن الإنسان بالعلوم الشرعية فلا ينتفع بها قلبه، ولا تزيد إيمانه، ولا تقوده إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال،وذلك حين يغتر العالم بعلمه، ويستعلي به على غيره، ويجعله مطية لدنياه، أويرضي الناس بسخط الله.

وللعصمة من فتنة العلم والاغترار به، لا بد من التواضع لله أولاً، ثم للمعلم. وهذا ما يظهر في الآية رقم (٦٩) في قول موسى عليه السلام:{قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ٱلله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً}. مع أنه نبي ورسول من أولي العزم الخمسة بالإضافة إلى كونه كليم الله تعالى. ثم تأتي آية العصمة من فتنة العلم، بنسبته لله تعالى، وبالتواضع للحق والخلق، وعدم الغرور بالعلم، فها هو الخضر عليه السلام لم يغترَّ بعلمه، بل نسب ذلك إلى الله تعالى؛ إعترافا بفضله وحمدا له فقال:(رحمةً من ربك وما فعلته عن أمري). فإياك أن تغرّك الشهادات الجامعية، أو علمك الواسع، أو حتى حفظك للقرآن الكريم، ويفتنوك عن التواضع لله تعالى.

فالتواضع فى كل شئ يؤدي للثبات واليقين وبذلك تزيد التقوى والتي بدورها تزيد العلم كما يقول الله تعالى:(واتقوا الله ويعلمكم الله)البقرة: 282. وهنا يهب الله تعالى بإذنه العلم “اللدني” للعبد- أي من لدن العليم الخبير- وتواصل التواضع لله مطلوب للرفعة كما قال العبد الصالح(وما فعلته عن أمري، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا).(ومن تواضع لله رفعه)،(ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم).

الفتنة الرابعة:
فتنة السلطان في قصة ذي القرنين؛ قال تعالى:(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا(83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا(86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا(87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا(88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(89) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا(90) كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا(91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا(92) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا(93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا(94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا(96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا(97) قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98).
إنها فتنة السلطان الغالب، والقوة القاهرة، التي تقود إلى البطش والظلم والأثرة، ولذلك نجد علاج هذه الفتنة في صفات هذا الملك الصالح العادل الذي ملك مشارق الأرض ومغاربها، وآتاه الله تعالى من كل شيء سببا، فجمع بين العلم والقوة ومكن الله حكمه لعدله الذي لم يتجبر بسلطانه، ولم يستعل على الناس بقوته؛ بل قام بإحقاق الحق، وإزهاق الباطل، وإقامة العدل، ورفع الظلم، ونصرة المظلوم. وطفق يطوف في أرجاء ملكه في جوانب الأرض ليحقق العدل ويساعد الناس وينشر الخير في ربوعها. وقام بتوظيف طاقات قوم لا يكادون يفقهون قولا وأنقذهم من يأجوج ومأجوج المفسدون في الأرض، ببناء السد. وثبت إيمانه وعدله، في قوم ظهر عليهم وخيره الله تعالى فيهم، فحكم فيهم بحكم الشريعة العادلة:(قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا(87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا(88). ثم ظهر تسخيره لسلطانه وقوته فيما طاعة الله، عندما مرّ بقوم من الترك شكوا إليه إغارة يأجوج ومأجوج عليهم، ورجوه أن يبني حاجزا يحجزهم عنهم مقابل مال يدفعونه إليه، فتعفَّف عن جُعْلِهم، وبادر إلى نجدتهم وبناء السد، معترفا بفضل الله تعالى عليه بالسلطان والمال:(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا(95) وانظر إلى حسن سياسته حينما أشركهم في العمل والبناء فلما تم البناء نسب الفضل في ذلك لله تعالى صاحب الفضل والرحمة:(قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا(98).

فقارب النجاة من هذه الفتنة إذا هو:
العدل وإعمال العقل والأخذ بالأسباب والإخلاص فى العمل. فالافتتان بالسلطة والغرور بها وإتخاذ الدين مطية من أفظع هذه الأساليب ويؤدى الى الاستبداد والقهر وكل الأساليب المنافية للأخلاق. وذي القرنين بالرغم من أنه عبد متدين، وقيل إنه نبي، فالملاحظ هنا إنه لم يقحم دينه في التسلط على الناس أو ليزعم نشر دينه بحجة الدعوة ونصرة الله عزو جل، أو قصر خدمته لفئة دينية معينة، بل عمل بالعقل والمنطق من أجل الناس عامة وليس لفئة معينة، وحكم بالعدل بالرغم من إختلافات الناس الدينية والعرقية وغيرها، ولم يكن متواكلا ومدعيا.

ختاما:
من اللطائف والحكم في السورة الكريمة أن هناك رابط فيما بين كل هذه الفتن الأربع؛ فإذا تمعنت في كل فتنة ستجد أن: الدين، المال والبنون، العلم، الحكم. في حد ذاتهم ليسوا بفتن. ولكن الفتنة هي الغرور بها والسير بها على غير ما أمر لله تعالى .

ومن اللطائف والحكم أيضا أن الفتن الأربع المذكورة في السورة اجتمعت في الدجال: فهو فتنة في الدين، إذ يفتن الناس في دينهم، ويدعوهم إلى الشرك، ويقهرهم عليه. وهو فتنة في المال إذ يمر بالخربة فتتبعه كنوزها، ويأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت. وهو فتنة في العلم إذ يخبر الرجل عن أبيه وأمه، ويقطع الرجل بسيفه حتى يمشي بين نصفيه ثم يدعوه فيأتي بأمر الله تعالى. وهو في فتنة في السلطان، إذ تدين له الممالك، ويعيث في الأرض فسادا، وما من بلد إلا يبلغها سلطانه إلا مكة والمدينة. ولذلك فقراءة سورة الكهف تكون سبباً للنجاة من جميع فتن الدجال.

ومن اللطائف والحكم أيضا أننا نلاحظ في السورة كثرة الحركة بشكل ملفت، فالسورة كلها عبارة عن قصص لأناس يتحركون بإيجابية: من أهل الكهف الذين تركوا الأهل والديار وأووا إلى الكهف، إلى سيدنا موسى عليه السلام الذي ذهب إلى مجمع البحرين وتجاوزه حتى أدركه التعب الشديد، وأثناء مرافقته للخضر عليه السلام{ فَٱنْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا… فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ… فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا…}٧١-٧٧. وكذلك في قصة ذي القرنين{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً…}.وليس هذا فحسب، بل إنه طاف الأرض كلها من شرقها إلى غربها{حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ}،{حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ}. وكان من إرشاداته للقوم الذين يساعدهم:{فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ} فلا يتفرجون عليه خلال بنائه للسد، ولكن يجب عليهم أن يتحركوا ويشاركوا. وهذا كله يشير إلى أن العواصم من الفتن تكون( بالحركة والإيجابية ) وليس بالسكون والاستسلام والسلبية. فإن أوذي المرء في مكان فليتحرك إلى مكان آخر يمكنه من إقامة شعائر دينه والحفاظ عليه، ولذلك شرعت الهجرة في الإسلام فراراً بالدين وأشارت السورة إليها من خلال الحديث عن هجرة أهل الكهف. والسورة تقرأ في يوم الجمعة، الذي هو يوم إجازة عند المسلمين، فكأنها تقول لهم: بدلاً من السكون والخمول في هذا اليوم، عليهم أن يقرأوا سورة الكهف ويعتبروا بما فيها من حركة وإيجابية لينطلقوا بالعمل الإيجابي ويعصموا أنفسهم من الفتن، لأن الساكن يسهل صيده(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(10) الجمعة .